دخول شهر رمضان

 

عن أبي هريرة - رضي الله عنه- قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (لا تقدموا رمضان بصوم يوم أو يومين إلا رجلاً كان يصوم صوماً فليصمه)(1).

وعن عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما- قال: سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- يقول: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا، فإن غمَّ عليكم فاقدروا له)(2).

هذان حديثان جليلان، يتعلقان بتقديم صيام يوم أو يومين على رمضان، وبرؤية هلال رمضان وشوال، نعرض ما فيهما من الفوائد والأحكام في الوقفات الآتية

الوقفة الأولى: دل حديث أبي هريرة - رضي الله عنه- على النهي على تقدم شهر رمضان بصيام يوم أو يومين، جاء في رواية للبخاري - رحمه الله-: (لا يتقدمن أحدكم رمضان بصوم يوم أو يومين)(3).

قال الترمذي - رحمه الله- بعد روايته للحديث: (العمل على هذا عند أهل العلم، كرهوا أن يتعجل الرجل بصيام قبل دخول رمضان لمعنى رمضان) اهـ كلامه - رحمه الله- وقال ابن حجر - رحمه الله-: (قال العلماء: معنى الحديث لا تستقبلوا رمضان بصيام على نية الاحتياط لرمضان..) اهـ.

الوقفة الثانية: دل الحديث على أنه يستثنى من هذا النهي من كان يصوم صوماً اعتاد عليه، فإنه يخرج من هذا النهي، كمن اعتاد أن يصوم يوم الخميس مثلاً، ثم وافق بعده رمضان مباشرة، فهذا مستثنى من النهي، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: (ومعنى الاستثناء أنه من كان له ورد فقد أذن له فيه؛ لأنه اعتاده وألفه، وترك المألوف شديد، وليس ذلك من استقبال رمضان في شيء)  ا.هـ.

ومما يلحق بهذا الاستثناء أيضاً القضاء والنذر، قال العلماء: يستثنى القضاء والنذر بالأدلة القطعية على وجوب الوفاء بهما،، فلا يبطل القطعي بالظن.

الوقفة الثالثة: قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: وفي الحديث رد على من يرى تقديم الصوم على الرؤية، ورد على من قال بجواز النفل المطلق.

الوقفة الرابعة: ذكر العلماء - رحمهم الله- عدداً من الحكم لهذا النهي، ومنها: التَّقَوِّي بالفطر لرمضان؛ ليدخل فيه بقوة ونشاط، ومنها: خشية اختلاط النفل بالفرض، ومنها: أن الحكم علق بالرؤية، فمن تقدمه بيوم أو يومين فقد حاول الطعن في ذلك الحكم. وهذه الحكم كلها ملتمسة من هذا النهي، وسواء كانت هي الحكم من النهي أو غيرها فيبقى النهي بعدم تقدم رمضان بصوم يوم أو يومين.

الوقفة الخامسة: دل الحديث بمفهومه أنه يجوز أن يصوم قبل رمضان بثلاثة أيام أو أكثر؛ لأن الحديث حدد النهي بيوم أو يومين، فلو صام رجل قبل رمضان بخمسة أيام مثلاً، ثم أفطر جاز، ولا يدخل في هذا النهي، وإن كان قد جعل بعض العلماء النهي يبدأ من منتصف شعبان، ولكن هذا ليس بصحيح؛ لضعف الحديث الوارد في ذلك، والله أعلم.

الوقفة السادسة: جاء في حديث عبد الله بن عمر - رضي الله عنهما-: (إذا رأيتموه فصوموا): أي رأيتم الهلال.

وقال: (فإن غم عليكم): غُمَّ بضم الغين وتشديد الميم، والمراد استتر عنكم بغيم أو غبار ونحوهما.

وقال: (فاقدروا له) قيل فيها معنيان:

المعنى الأول: فاقدروا له بالحساب، بمعنى فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً.

والمعنى الثاني: فاقدروا له أي ضيقوا عليه، بمعنى أن اجعلوا شعبان تسعة وعشرين يوماً.

الوقفة السابعة: دل الحديث دلالة صريحة على أن الحكم بدخول شهر رمضان أو شوال معلق برؤية الهلال، فإن رُؤِيَ الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فيحكم بدخول رمضان، وكذا إن رؤي الهلال ليلة الثلاثين من رمضان فيحكم بدخول شهر شوال، لأن الرسول – صلى الله عليه وسلم – قال: (إذا رأيتموه فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا)، وعليه فإذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين من شعبان فلا صيام، ولا يكون من رمضان.

الوقفة الثامنة: كما دلّ الحديث على أنه إذا لم ير الهلال ليلة الثلاثين من شعبان، وكان سبب عدم الرؤية غيماً، أو غباراً، أو قتراً، ونحو ذلك، فتوجيه الرسول – صلى الله عليه وسلم – هنا هو: (فاقدروا له)، وللخلاف في معنى هذا اللفظ اختلف أهل العلم في الحكم على قولين:

القول الأول: أنه يجب صوم ذلك اليوم من باب الاحتياط، وهؤلاء أخذوا بمعنى (فاقدروا له)، أي ضيقوا عليه، فقدروه تسعة وعشرين يوماً. وهذا هو المشهور في مذهب الإمام أحمد - رحمه الله-.

والقول الثاني: وهو رأي جمهور أهل العلم أنه لا يجب صومه، ولو صامه عن رمضان لم يجزئه؛ لأنه ليس من رمضان، وهؤلاء أخذوا بأن معنى (فاقدروا له) أي: أكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً، كما جاء صريحاً فيما رواه الشيخان عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته، فإن غُمَّ عليكم فأكملوا عدة شعبان ثلاثين يوماً)(4)، وهذا القول هو ما اختاره شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم - رحمهما الله تعالى-.

الوقفة التاسعة: قال في الحديث: (صوموا لرؤيته)، فإذا رآه أهل بلد هل يلزم الناس جميعاً الصيام أم لا؟.

اختلف أهل العلم في ذلك:

فذهب الإمام أبو حنيفة - وهو المشهور عن أحمد- أنه يلزم الناس جميعاً الصيام؛ لأن رمضان ثبت دخوله، وثبتت أحكامه.

وذهب بعض أهل العلم إلى أن لكل بلد رؤيتهم؛ لحديث كريب قال: (قدمت الشام، واستهل رمضان وأنا بالشام، فرأينا الهلال ليلة الجمعة، ثم قدمت المدينة في آخر الشهر، فسألني ابن عباس، ثم ذكر الهلال فقال: متى رأيتم الهلال؟ فأخبرته، فقال: لكنا رأيناه ليلة السبت، فلا نزال نصوم حتى نكمل ثلاثين أو نراه، فقلت: ألا تكتفي برؤية معاوية وصيامه، فقال: لا هكذا أمرنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم-)(5). رواه مسلم.

وذهب الشافعي - رحمه الله- إلى التفصيل، وقال: إن اختلفت المطالع فلكل قوم حكم في مطلعهم، وإن انتفت المطالع فحكمهم واحد في الصيام والإفطار، وهذا هو اختيار شيخ الإسلام ابن تيمية - رحمه الله-.

الوقفة العاشرة: في هذا الحديث رد على الذين يعتمدون على الحساب دون الرؤية، فالرسول – صلى الله عليه وسلم – علق دخول الشهر وخروجه على رؤية الهلال الرؤية البصرية المعتادة. وهذا لا يتنافى مع الوسائل الحديثة التي تعين في الرؤية، لكن الحكم المعلق بها.


 


(1)      رواه البخاري 4/127 برقم (1914) كتاب الصوم، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين. ورواه مسلم 2/762 برقم (1082) كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين. ورواه أبو داود 1/713 برقم (2335) كتاب الصيام، باب فيمن يصل شعبان برمضان.
(2)     رواه البخاري 4/113 برقم (1900) كتاب الصوم، باب هل يقال رمضان أو شهر رمضان. ورواه مسلم 2/759 برقم (1080) كتاب الصيام، باب وجوب صوم رمضان لرؤية الهلال، والفطر لرؤية الهلال. ورواه ابن ماجه 1/529 برقم (1654) كتاب الصيام، باب ما جاء في صوموا لرؤيته وأفطروا لرؤيته.
(3)     رواه البخاري 4/127 برقم (1914) كتاب الصيام، باب لا يتقدم رمضان بصوم يوم ولا يومين، ورواه مسلم  2/762 برقم (1082) كتاب الصيام، باب لا تقدموا رمضان بصوم يوم ولا يومين.
(4)     رواه البخاري 4/119 برقم (1909) كتاب الصوم، باب قول النبي - صلى الله عليه وسلم- إذا رأيتم الهلال فصوموا، وإذا رأيتموه فأفطروا. ورواه مسلم 2/762 برقم (1081) كتاب الصيام، باب جواز الصوم والفطر في شهر رمضان للمسافرين في غير معصية. ورواه الإمام أحمد 2/454، 456.
(5)     رواه مسلم 2/765 برقم (1087) كتاب الصيام، باب بيان أن لكل بلد رؤيتهم، وأنهم إذا رأوا الهلال .

 



بحث عن بحث