الجامع الصحيح للإمام البخاري(4-20)

 

والخلاصة :

أنه كان لممارسة الإمام البخاري للحديث وعلومه ، تحصيلا وتدريسا وتصنيفا وحفظا وضبطا ــ على النحو الذي ذكرنا جانبا منه ــ أثره الكبير فيه ، فتوفر له بذلك أمور منها :

1 ــ مادة علمية غزيرة بمتون الأحاديث وأسانيدها .

2 ــ إلمام واسع بتاريخ الرجال ومروياتهم ، وخبرة بثقاتهم وضعفائهم مما هيأ له أسباب الانتخاب والاختيار من مروياتهم .

فضلا عن التقائه بشيوخ عصره في مختلف الأمصار الإسلامية وإفادته منهم بالتحصيل والمراجعة والاختبار ، وتهيأ له بهذا كله بعد توفيق الله تعالى أن يقدم للأمة تراثا أصيلا من سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بكتابه ( الجامع الصحيح ) الذي اتفقت كلمة العلماء على أنه أصح كتاب بعد القرآن الكريم وتلقته الأمة بالقبول .

                                 

التعريف بالجامع الصحيح:

تمهيد : تبين لنا أن البخاري حين أقدم على تأليف كتابه ( الجامع الصحيح ) كان قد توفرت له وسائل النضج العلمي .

أ ــ من حيث مادة التأليف وجمعه لها من صدور الرجال في وطنه وفي أقطار العالم الإسلامي التي طوف بها شرقا وغربا .

ب ــ ومن حيث مادة الإفادة من مناهج التأليف ممن سبقه في هذا الفن بحيث لم يجئ تكرارا وإنما ابتكارا ورائدا أوفي فيه على الغاية .

ج ــ ومن حيث الانتخاب والاختيار فكانت عنايته بالكيف أكثر منها بالكم سواء فيما يتعلق بمتون الأحاديث أو بأسانيدها .  

وحسبنا أن نعلم أن مجموع ما اختاره في صحيحه من المتون لا يبلغ( 3%)مما يحفظ هو من الصحيح ، وأن مجموع من روى لهم من رجال الصحيح الثقات لا يتجاوز( 5 % ) ممن أجمع العلماء على تصحيح حديثهم.

 وتعتبر مؤلفاته قبل ( الجامع ) تمهيدا ووسيلة أهلته ( للجامع ) ولذلك لم يبدأ فيه إلا بعد رحلة واسعة في رحاب العلم وأقطاره والتأليف فيه تدل على ثبات قدم ومعرفة بالحديث ورجاله .

 

الاسم العلمي للكتاب وبيانه :

هو ( الجامع الصحيح المسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه ) هكذا ذكره ابن حجر في كتابه هدي الساري (1).

وأسماه ابن الصلاح ( الجامع المسند الصحيح المختصر من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم وسننه وأيامه ) .

وليس بين التسميتين كبير اختلاف إلا أن الاسم على كلتا الروايتين فيه طول غير مألوف في أسماء الكتب ، ولذلك كان البخاري نفسه يجتزئ ببعض ألفاظ الاسم تحاشيا للطول ، فأحيانا يسميه ( الجامع الصحيح ) (2)، وأحيانا يسميه (الجامع ) كما جاء في قوله : " ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح ، وتركت من الصحاح مخافة الطول ) (3) ، وربما اقتصر في التسمية على كلمة (الصحيح ) .

على أن هذا الاسم وإن كان غير مألوف كعنوان لطوله ، إلا أنه جعله بهذا الطول عنوانا دقيقا شاملا لكل مزايا الكتاب وخصائصه ، وموضحا لمنهجه في تأليفه كما يتضح في السطور الآتية :

فهو ( جامع ) : لأنه جمع جميع أقسام الحديث الثمانية ، والتي اصطلح العلماء على أنها إذا وجدت في كتاب سمي جامعا ، وهي ( العقائد ، الأحكام ، الرقاق ، الفتن ، الشمائل والمناقب ، الآداب ، المغازي والسير ، التفسير ) وقد جمعها البعض في كلمة ( عارف شامت ).

وهو ( صحيح ) : في كل ما أورده من أحاديثه الأصول : وهي التي أخرجها في متون الأبواب موصولة السند إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأفردها بطابع يميزها وينبه إليها وهو التصريح بقوله : ( حدثنا ) وما يقوم مقامها ، والعنعنة بشرطها الذي التزمه وتشدد فيه ، فكل حديث ورد في كتابه على هذا النحو فهو صحيح عنده .

وإذا كان الكتاب قد اشتمل على أحاديث أخرى ليست من شرط صاحبه ، فإن ذلك لا يضيره ما دام قد أعطى كل نوع ما يميزه عن الآخر ، وعلى هذا يفسر قوله : ( ما أدخلت في كتابي الجامع إلا ما صح ) بأن المراد : أنه لم يدخله على هذا النحو وبهذا الطابع الخاص المشروط من وصله على الطريقة المعينة ، ومعنى ذلك : أنه لم يورده على غرار ما التزمه في أحاديثه الأصول .

وهو ( مسند ) : أي أحاديثه متصلة السند ، فما من حديث في الصحيح إلا وهو متصل ، عدا المعلقات ، فليست مذكورة فيه للاحتجاج بها ، وإنما للاستشهاد أو للاعتبار ، أو هي مروية في الصحيح مسندة وموصولة في غير الكتاب الذي أتت فيه معلقة ، فالعبرة بالمسندة لا بالمعلقة .

وهو ( مختصر ) : لأن البخاري لم يستوعب فيه كل الأحاديث التي صحت عنده على شرطه ، بل اقتصر فيه على مقدار يسير مما كان يحفظه من الصحاح التي بلغ حفظه منها مائة ألف حديث ، وذلك خشية التطويل ، فلم يبلغ ما أورده فيه إلا قرابة عشر المعاشر بالنظر إلى ما يحفظه ، ومما يدل على عدم استيعابه للصحيح ، قوله الذي سبق : ( ما أدخلت في كتاب الجامع إلا ما صح ، وتركت من الصحاح مخافة الطول ).

وقوله ( من أمور رسول الله صلى الله عليه وسلم ) : أي : من أقواله وأفعاله وتقريراته ، وكل أموره مما يهم الخلق في دينهم ودنياهم ، ومن للتبعيض ، أي أنها ليست كل أموره صلى الله عليه وسلم ، وإنما هي بعض منها .

وقوله ( وسننه ) : أي : طريقته المسلوكة وشمائله المنظورة ، حتى يتحقق بهما الاقتداء والهداية .

وقوله ( وأيامه ) : أي : تواريخه ، وغزواته ، ومبعثه ، ودعوته للقبائل وللملوك في عصره إلى الإيمان والإسلام ، وكل أحواله مما لم يره الرائي أو لم يحضره القارئ .

وبذلك يتبين لنا شمول كتاب البخاري لكل ما يحتاجه المسلم في أمر دينه ودنياه،بل حياته ومماته،بل يوجد فيه ما يكون بعد الممات من بعث وغيره لذا استحق أن يسمى جامعا .


(1) ــ هدي الساري ( 1 / 5 ) .

(2) ــ انظر : هدي الساري ص 91 .

(3) ــ مقدمة ابن الصلاح ص 91 .

 

 



بحث عن بحث