أشهر المحدثين في هذا العصر ومنهجهم في التدوين

 

اشتهر كثير من أتباع التابعين برواية الحديث في الأمصار المختلفة فكان أشهرهم بالمدينة : الإمام مالك بن أنس صاحب المذهب المشهور.

وبالشام : أبو عمرو عبدالرحمن بن عمرو الأوزاعي الدمشقي.

وبالكوفة : وكيع بن الجراح، وسفيان الثوري .

وبالبصرة : يحيى بن سعيد بن فروخ القطان، وشعبة بن الحجاج ، وعبدالرحمن بن مهدي العنبري.

وبمصر : الليث بن سعد بن عبدالرحمن المصري، والإمام الشافعي حين نزل مصر في أخريات حياته وأقام بها .

وكانت طريقتهم في تدوين الحديث أن يصنفوا كل باب على حدة بأن يجمعوا الأحاديث التي من نوع واحد ويجعلوها بابا، ثم يضمون الأبواب بعضها إلى بعض في كتاب واحد، وكانوا يمزجون الأحاديث المرفوعة بأقوال الصحابة وفتاوى التابعين، كما كانوا كذلك يذكرون ما عليه عمل أهل المدينة، والأمر المجمع عليه عندهم، كما فعل الإمام مالك في موطئه(1)، ولذلك سنكتفي بالكلام عن الإمام مالك وموطئه فيما يلي :

 

الإمام مالك بن أنس :

هو الإمام الحافظ، فقيه الأئمة شيخ الإسلام إمام دار الهجرة، وعالم المدينة أمير المؤمنين في الحديث : أبو عبدالله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو بن الحارث الأصبحي(2) المدني .

ولد عام 93 وقيل 95 بمدينة الرسول صلى الله عليه وسلم ومهجره الذي هاجر إليه، وموطن الشرع، ومبعث النور، ومهد السنن ، وموطن الفتاوى المأثورة، اجتمع بها الرعيل الأول من علماء الصحابة ثم تلاميذهم من بعدهم .

والإمام مالك : حدث عن نافع ابن عمر، وابن شهاب الزهري، وأيوب السختياني، وعامر بن عبدالله بن الزبير بن العوام، وصالح بن كيسان، وأبي الزناد، وابن المنكدر، وهشام بن عروة وخلق كثير .

وحدث عنه أمة منهم: محمد بن الحسن الشيباني، والإمام الشافعي، وحماد بن سلمة، ويحيى بن يحيى الأندلسي، ويحيى بن بكير .

وحدث عنه من شيوخه : الزهري، ويحيى بن سعيد الأنصاري، ويزيد بن عبدالله بن الهاد وغيرهم .

وحدث عنه من أقرانه : الأوزاعي، والثوري، وشعبة، وابن جريح والليث بن عسد، وابن عيينة وغيرهم .

ومناقب الإمام مالك كثيرة جدا، وثناء الأئمة عليه أكثر من أن يحصر، ومن ذلك :

قول الإمام الشافعي : ( إذا جاء الحديث فمالك النجم )وقال : ( من أراد الحديث فهو عيال على مالك ) وقال : ( لولا مالك وابن عيينة لذهب علم الحجاز ) وقال : ( مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين ) .

وقال فيه ابن عيينة : ( ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم ) .

روى الترمذي عن سفيان بن عيينة بسنده عن أبي هريرة : ( يوشك أن يضرب الناس أكباد الإبل يطلبون العلم فلا يجدن أحد أعلم من عالم المدينة )(3) وقد روى عن ابن عيينة راوي الحديث أنه قال : هو مالك بن أنس .

وقال فيه ابن حبان : ( كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، مع الفقه والدين والفضل والنسك، ولم يكن يروى إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة، وبه تخرج الشافعي ) .

وقال الذهبي نفسه : ( لم يكن بالمدينة عالم من بعد التابعين يشبه مالكا في العلم والفقه والجلالة والحفظ ) .

وقال أيضاً : ( وقد اتفق لمالك مناقب ما علمتها اجتمعت لغيره ) :

أحداها : طول العمر وعلوم الرواية .

وثانيهما: الذهن الثاقب والفهم وسعة العلم .

وثالثهما : اتفاق الأئمة على أنه حجة صحيح الرواية .

ورابعتها : تجمعهم على دينه وعدالته واتباعه السنن .

وخامستها : تقدمه في الفقه والفتوى وصحة قواعد .

وقال البخاري : ( أصح الأسانيد : مالك عن نافع عن ابن عمر )

قال أبو مصعب : سمعت مالكا يقول : ( ما أفتيت حتى شهد لي سبعون أني أهل لذلك، وكان إذا أراد أن يحدث تنظف وتطيب وسرح لحيته ولبس أحسن ثيابه، وكان يلبس حسنا، وكان نقش خاتمه : حسبي الله ونعم الوكيل، وكان إذا دخل منزلة قال : ما شاء الله لا قوة إلا بالله ، وكان منزله مبسوطا بأنواع المفارش، ولما احتضر قال : أشهد أن لا إله إلا الله ، ثم جعل يقول : لله الأمر من قبل ومن بعد، ثم قبض في ربيع الأول وقيل في صفر عام ( 179هـ ) ودفن بالبقيع، فرضي الله عنه وأرضاه (4).

موطأ الإمام مالك :

ألف الإمام مالك كتابه الموطأ بناء على طلب من الخليفة العباسي أبي جعفر المنصور المتوفي سنة ( 158) هـ، وقد طلب المنصور من الإمام مالك أن يحمل الناس على كتابه، فلم يجبه إلى ذلك، وذلك من تمام علمه واتصافه بالإنصاف، وقال : ( إن الناس قد جمعوا وأطلعوا على أشياء لم نطلع عليها )(5) .

وقد استغرق تأليفه ( الموطأ ) أربعين سنة، قال الإمام الأوزاعي : ( عرضنا على مالك الموطأ في أربعين يوما، فقال : كتاب ألفته في أربعين سنة أخذتموه في أربعين يوما ما أقل ما تفقهون فيه )(6) .

وقد اختلف في سبب تسميته بـ ( الموطأ ) قيل : إن مالكا قال : عرضت كتابي هذا على سبعين فقيها من فقهاء المدينة، فكلهم واطأني عليه فسميته الموطأ (7).

وقيل سمي بذلك : لأنه وطأ العلم والحديث ويسرهما للناس.

طريقته في الموطأ :

صنف الإمام مالك كتابه الموطأ في الحديث على طريقة الأبواب، ولم يتقيد فيه بالأحاديث المرفوعة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل جمع فيه أيضا أقوال الصحابة وفتاوى التابعين، فيذكر في مقدمة الباب ما ورد فيه من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم أقوال الصحابة، ثم ما ورد من فتاوى التابعين، وقل أن يكونوا من غير أهل المدينة، وأحيانا يذكر ما عليه العمل المجمع عليه بالمدينة، وقد يذكر بعض الآراء الفقهية له، لأنه ممن جمعوا بين الفقه والحديث فهو من محدثي الفقهاء .

رواة الموطأ ونسخه :

روى الموطأ عن مالك رواة كثيرون ذكر القاضي عياض في ( المدارك ثمانين وستين راويا رووا الموطأ عن الإمام مالك مباشرة دون واسطة(8)، ثم قال القاضي عياض : والذي اشتهر من نسخ الموطأ مما رويته  أو وقفت عليه أو كان في رواية شيوخنا رحمهم الله أو نقل منه أصحاب اختلاف الموطأ نحو عشرين نسخة وذكر بعضهم أنها ثلاثون نسخة ) (9).

وقال الغافقي(10) : ( نظرت الموطأ من اثنتى عشرة رواية رويت عن مالك، وهي : رواية ابن وهب، وابن القاسم، والقعنبي، وابن يوسف، ومعن، وابن عفير، وابن بكير، وأبي مصعب الزهري، ومصعب بن عبدالله الزبيري، ومحمد بن المبارك الصوري، وسليمان بن برد، ويحيى ابن يحيى الليثي )(11).

وقال السيوطي : ( وقد وقفت على الموطأ من روايتين أخريين سوى ما ذكر الغافقي : أحداهما رواية سويد بن سعيد، والأخرى : رواية محمد ابن الحسن صاحب أبي حنيفة )(12) .

 


(1) انظر محاضرات في علوم الحديث للأستاذ/ مصطفى أمين التازي : ص 197 ص 205.

(2) نسبة إلى ذي أصبح من ملوك اليمن .

(3) سنن الترمذي : أبوال العلم، باب ما جاء في عالم المدينة ، ج 4 ص 152، وقال الترمذي : حديث حسن صحيح .

(4) انظر ترجمته في : تذكرة الحفاظ : ج 1ص 207، تهذيب التهذيب : ج10ص 5، وفيات الأعيان لابن خلكان : ج 4 ص 135، طبقات الحفاظ للسيوطي : ص 89، البداية والنهاية، المجلد الخامس ص 684، سير أعلام النبلاء : ج 8 ص49، الكامل لابن الأثير : ج6 ص 147.

(5) اختصار علوم الحديث لابن كثير ، ص 25.

(6) كشف المغطأ لابن عساكر ، ص 54.

(7) مقدمة تنوير الحوالك على موطأ مالك : ج 1 ص 7 ط عيسى البابي الحلبي .

(8) ترتيب المدارك وتقريب المسالك للقاضي عياض : ج 2 ص 86ط ، دار مكتبة الحياة بيروت، بتحقيق أحمد بكير .

(9) المصدر السابق، ج 2ص89.

(10) هو أبو القاسم عبدالرحمن بن عبدالله المصري المالكي الغافقي المتوفي ( 385هـ ) .

(11) تنوير الحوالك للسيوطي ، ج 1 ص 10.

(12) المصدر السابق ، وانظر الباعث الحثيث شرح اختصار علوم الحديث ،ص 24.



بحث عن بحث