أسباب تفاوت الصحابة في الرواية

 

 

يرجع التفاوت الكبير بين الصحابة في عدد ما أثر من الرواية عنهم عن النبي صلى الله عليه وسلم إلى جملة من الأسباب أوجزها فيما يلي:

 

1- التفاوت الطبيعي في قوة الذاكرة والحفظ، فطبيعة الناس أن يكون فيهم الحافظ وغير الحافظ، فإذا حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم حفظ البعض ونسى البعض.

عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:" قام فينا النبي صلى الله عليه وسلم مقاماً، فأخبرنا عن بدء الخلق، حتى دخل أهل الجنة منازلهم، حفظ ذلك من حفظه، ونسيه من نسيه" (1).

 

وعن حذيفة بن اليمان رضي الله عنهما قال:" قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم مقاماً، ما ترك شيئاً يكون في مقامه ذلك إلى قيام الساعة إلا حدث به، حفظه من حفظه ونسيه من نسيه، قد علمه أصحابي هؤلاء، وإنه لا يكون منه الشيء قد نسيته، فأراه، فأذكره كما يذكر الرجل وجه الرجل إذا غاب عنه، ثم إذا رآه عرفه" (2).

 

وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال:" صلى بنا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوماً صلاة العصر بنهار، ثم قام خطيبا، فلم يدع شيئاً إلى قيام الساعة إلا أخبرنا به، حفظه من حفظه، ونسيه من نسيه...." إلخ(3).

 

فهذه الأحاديث تدل على أن النبي صلى الله عليه وسلم قام فيهم مقامات متعددة، يذكر فيها الفتن وما هو كائن، وأن منهم من حفظ، ومنهم من نسى، ولا شك أن المكثرين كانوا أحفظ من غيرهم وأوعى لما سمعوا، فكثرت مروياتهم.

 

2- تفرغ الصحابي لمجالسة النبي صلى الله عليه وسلم وملازمته أو عدم تفرغه لذلك، فالذي تفرغ لهذا الأمر لابد أنه حمل علماً أكثر وحديثاً أوفر ممن شغلته تجارته أو زراعته أو حرفته أو غير ذلك، وقد ذكر أبو هريرة رضي الله عنه أن فراغه وملازمته للنبي صلى الله عليه وسلم كانت سبباً مباشراً لكثرة حفظه.

 

فعن أبي هريرة رضي الله عنه قال:" إن الناس يقولون: أكثر أبو هريرة، ولولا آيتان في كتاب الله ما حدثت حديثاً، ثم يتلو:( إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات – إلى قوله – الرحيم ) (4)، إن إخواننا من المهاجرين كان يشغلهم الصفق بالأسواق، وإن إخواننا من الأنصار كان يشغلهم العمل في أموالهم، وإن أبا هريرة كان يلزم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشبع بطنه ويحضر ما لا يحضرون، ويحفظ ما لا يحفظون (5).

 

وقد شهد له بذلك كبار الصحابة، رضي الله عنهم، فهذا ابن عمر رضي الله عنه يقول له: يا أبا هريرة، كنت ألزمنا لرسول الله صلى الله عليه وسلم وأعلمنا بحديثه" (6).

 

وعن مالك بن أبي عامر الأصبحي، قال: جاء رجل إلى طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه، فقال: يا أبا محمد أرأيت هذا اليمانى – يعني أبا هريرة – هو أعلم بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم منكم؟ نسمع منه ما لا نسمع منكم ؟ قال:" أما أن يكون سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع فلا أشك إلا أنه سمع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم نسمع، وذاك أنه كان مسكيناً لا شيء له، ضيفا لرسول الله صلى الله عليه وسلم يده مع يد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكنا نحن أهل بيوتات وغنى، وكنا نأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم طرفي النهار، فلا نشك إلا أنه سمع ما لا نسمع، ولا تجد أحداً فيه خير يقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم ما لم يقل"(7).

 

وهكذا ترى أن التفرغ لملازمة النبي صلى الله عليه وسلم كان له أثر كبير في تحمل الملازم عمن سواه.

 

3- تقدم وفاة الصحابى أو تأخرها، ومدى حاجة الناس إلى ما عنده من العلم فمن تقدمت وفاتهم كانوا – غالبا – أقل رواية ممن تأخرت وفاتهم، واحتاج الناس إلى سؤالهم ومعرفة ما عندهم من العلم، في الحوادث التي تكثر وتتجدد وبخاصة مع اتساع نطاق الفتوح الإسلامية، وكثرة الداخلين في الإسلام، ولذلك نجد أن المكثرين جميعا كانوا من أحداث الصحابة، فأبو هريرة وجابر كانا في نحو السابعة والعشرين عند وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وابن عمر كان في نحو الحادية والعشرين، وأنس وأبو سعيد الخدري كانا في نحو العشرين، وأم المؤمنين عائشة كانت في نحو الثماني عشرة، وابن عباس كان في نحو الثالثة عشرة، فتهيأ لهم أن يحملوا عن النبي صلى الله عليه وسلم وعن أكابر الصحابة، وتأخرت وفاتهم حتى احتاج الناس إلى ما جمعوا من العلم، فكثرت مروياتهم(8).

 

قال محمد بن عمر الأسلمي:" إنما قلت الرواية عن الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم هلكوا قبل أن يحتاج إليهم، وإنما كثرت عن عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب لأنهما وليا فسئلا وقضيا بين الناس، وكل أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كانوا أئمة يقتدى بهم ويحفظ عليهم ما كانوا يفعلون، ويستفتون فيفتون، وسمعوا أحاديث فأدوها، فكان الأكابر من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أقل حديثا عنه من غيرهم مثل أبي بكر وعثمان وطلحة والزبير وسعد بن أبي وقاص وعبدالرحمن بن عوف وأبي عبيدة بن الجراح وسعيد بن زيد بن عمرو بن نفيل وأبي بن كعب وسعد بن عبادة وعبادة بن الصامت وأسيد بن حضير ومعاذ بن جبل ونظرائهم، فلم يأت عنهم من كثرة الحديث مثل ما جاء عن الأحداث من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، مثل جابر بن عبدالله وأبى سعيد الخدري وأبي هريرة وعبدالله بن عمر بن الخطاب وعبدالله بن عمرو بن العاص وعبدالله بن العباس ورافع بن خديج وأنس بن مالك والبراء بن عازب ونظرائهم، وكل هؤلاء كان يعد من فقهاء أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانوا يلزمون رسول الله صلى الله عليه وسلم مع غيرهم من نظرائهم، وأحدث منهم مثل عقبة بن عامر الجهني وزيد بن خالد الجهني وعمران بن الحصين والنعمان بن بشير ومعاوية بن أبي سفيان وسهل بن سعد الساعدي وعبدالله بن يزيد الخطمي ومسلمة بن مخلد الزرقي وربيعة بن كعب الأسلمي وهند وأسماء ابنى حارثة الأسلميين، كان يخدمان رسول الله صلى الله عليه وسلم ويلزمانه، فكان أكثر الرواية والعلم في هؤلاء ونظرائهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لأنهم بقوا وطالت أعمارهم واحتاج الناس إليهم، ومضى كثير من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قبله وبعده بعلمه لم يؤثر عنه شيء، ولم يحتج إليه، لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (9).

 

4- تحرج بعض الصحابة وتهيبهم من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، حذراً من الخطأ أو الزيادة أو النقصان، ونحو ذلك.

 

قال محمد بن عمر الواقدي:" ومنهم – أي الصحابة – من تأخر موته بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم أكثر، فمنهم من حفظ عنه ما حدث به عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ومنهم من أفتى برأيه، ومنهم من لم يحدث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئا، ولعله أكثر صحبة ومجالسة وسماعا من الذي حدث عنه، ولكنا حملنا الأمر في ذلك منهم على التوقي في الحديث، أو على أنه لم يحتج إليه، لكثرة أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم (10).

 

5- وقوع الفتنة وظهور الكذب والوضع من الفرق التي انحرفت عن جادة الصواب، كالخوارج والشيعة، جعل المرويات التي ينقلونها عن بعض الصحابة مردودة مرفوضة من الصحابة والتابعين، فأفسدوا بذلك مرويات كثيرة.

 

فعن طاووس قال:" أتى ابن عباس بكتاب فيه قضاء علي رضي الله عنه، فمحاه إلا قدر" وأشار سفيان بن عيينة بذراعه.

 

وعن أبي إسحاق السبيعي قال:" لما أحدثوا تلك الأشياء بعد علي رضي الله عنه قال رجل من أصحاب علي: قاتلهم الله، أي علم أفسدوا".

 

وقال المغيرة بن مقسم الضبي:" لم يكن يُصدَّق على علي رضي الله عنه في الحديث عنه إلا من أصحاب عبدالله بن مسعود" (11).

 

فكان من أثر رواية الكذابين من الشيعة عن علي ابن أبي طالب رضي الله عنه أن أهملت كثير من مروياته، والله أعلم.

 

6- اشتغال عدد كبير من الصحابة بالعبادة أو الجهاد في سبيل الله وفتوح الأمصار، شغلهم عن التحديث بكل ما سمعوا من رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلت مروياتهم، بينما كان لغيرهم من المكثرين مجالس للتحديث يجتمع فيها طلبة العلم، فيحدثونهم، ويؤدون إليهم كل ما سمعوه من الحديث، ومن ثم كثرت الروايات عنهم.

 

تلك كانت باختصار أهم أسباب تفاوت الصحابة في الرواية رضي الله عنهم(12).

 


 

 


(1) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب بدء الخلق، باب ما جاء في قوله تعالى:( وهو الذي يبدء الخلق ثم يعيده ) رقم( 3192).

(2) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب القدر، باب: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، رقم( 6604)، ومسلم في صحيحه، واللفظ له، كتاب الفتن، باب إخبار النبي صلى الله عليه وسلم فيما يكون إلى قيام الساعة، رقم( 7263).

(3) - أخرجه الترمذي في سننه، كتاب الفتن، باب ما جاء ما أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بما هو كائن، رقم( 2191)، والحاكم في المستدرك( 4/505) وصححه، ووافقه الذهبي.

(4) - سورة البقرة /159-160.

(5) - أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب العلم، باب حفظ العلم، رقم( 118) وابن عبدالبر في جامع بيان العلم( 1/409رقم 593).

(6) - أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب مناقب لأبي هريرة، رقم( 3836)، وقال: حديث حسن، والحاكم في المستدرك( 3/510-511) وصححه، وابن سعد في الطبقات الكبرى( 2/363).

(7) - أخرجه الترمذي في سننه، كتاب المناقب، باب مناقب لأبي هريرة، رقم( 3837) وقال: حديث حسن غريب، والحاكم في المستدرك( 3/511-512) وصححه، ووافقه الذهبي.

(8) - انظر: مناهج وآداب الصحابة ص 166.

(9) - الطبقات الكبرى لابن سعد( 2/376-377).

(10) - الطبقات الكبرى( 2/337).

(11) - أخرج هذه الآثار مسلم في مقدمة صحيحه، باب النهي عن الرواية عن الضعفاء والاحتياط في تحملها ص 10.

(12) - انظر: محاضرات في علوم الحديث( 1/158-159)، السنة ومكانتها في التشريع ص 75-77، الحديث والمحدثون ص 147-148، صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم ص 135-137، مناهج وآداب الصحابة ص 164-168.

 

 

 



بحث عن بحث