إن أهمية السنة النبوية ووجه الحاجة إليها تبرز من خلال دورها في خدمة التشريع الإسلامي، ويتجلى هذا الدور في أمرين:

الأمر الأول:

أن القرآن الكريم – وهو المصدر الأول في التشريع – لا يمكن أن يستغني عنها، ولا يستطيع أن يؤدي دوره كاملاً بدونها، فهما أصلان في التشريع، ودعامتان يرتكز عليهما صرح الشريعة الغراء، إنهما بمنزلة " الروح" و " الجسد" إن ضاع أحدهما ضاع الآخر، والاستمساك بهما جميعًا فيه النجاة والسلامة للإنسان، كما وضح ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: " يا أيها الناس إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدًا: كتاب الله وسنتي" (1)، وهاكم بعض الصور التي تثبت أن القرآن لا يستغني في فهمه عنها.

الصورة الأولى:

أن في القرآن الكريم آيات لا يمكن فهم المراد منها إلا بعد معرفة سبب نزولها، ولا طريق لمعرفة سبب النزول إلا السنة.

·   من هذه الآيات قوله تعالى: { إن الصفا والمروة من شعائر الله فمن حج البيت أو اعتمر فلا جناح عليه أن يطوف بهما ومن تطوع خيرًا فإن الله شاكر عليم}[سورة البقرة: 158].

فهذه الآية بحسب الظاهر تنفي الجناح عمن لا يطوف بالصفا والمروة، وهذا ما فهمه عروة بن الزبير، لكن سبب النزول أوضح المعنى المراد.

روى البخاري ومسلم عن عروة، عن عائشة، قال: قلت لها: إني لأظن رجلاً لو لم يطف بين الصفا والمروة، ما ضرّه، قالت: لم؟ قلت: لأن الله تعالى يقول: {إن الصفا والمروة من شعائر الله} إلى آخر الآية، فقالت: ما أتم الله حج امرئ ولا عمرته لم يطف بين الصفا والمروة، ولو كان كما تقول لكان: فلا جناح عليه أن لا يطوف بهما، وهل تدري فيما كان ذلك؟ إنما كان ذاك أن الأنصار كانوا يهلون في الجاهلية لصنمين على شط البحر، يقال لهما: إساف ونائلة، ثم يجيئون فيطوفون بين الصفا والمروة، ثم يحلقون، فلما جاء الإسلام كرهوا أن يطوفوا بينهما، للذي كانوا يصنعون في الجاهلية، قالت: فأنزل الله عز وجل: { إن الصفا والمروة من شعائر الله} إلى آخرها، قالت: فطافوا. (2)

·   ومنها أيضًا قوله تعالى: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا إذا ما اتقوا وآمنوا وعملوا الصالحات ثم اتقوا وآمنوا ثم اتقوا وأحسنوا والله يحب المحسنين} [سورة المائدة: 93].

فقد حكي عن قدامة بن مظعون أنه كان يقول: الخمر مباح لمن آمن وعمل صالحًا، ويحتج بالآية المذكورة، وخفي عليه سبب نزولها  (3)مع أن سبب النزول يمنع ذلك.

فعن البراء بن عازب رضي الله عنه أنه قال: " مات ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وهم يشربون الخمر، فلما نزل تحريم الخمر، قال ناس من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: فيكف بأصحابنا الذين ماتوا وهم يشربونها؟ قال: فنزلت: { ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح فيما طعموا .....} (4).

فأنت ترى أن سبب نزول الآيتين – وهو من السنة – قد أزال الإشكال عن الآيتين، وأعان على فهم المراد منهما، وأمثال هاتين الآيتين في القرآن الكريم كثير.

الصورة الثانية:

أن في القرآن الكريم آيات مجملة، ولا سبيل إلى تفصيلها وبيان المراد منها إلا السنة، من ذلك قوله تعالى في شأن الصلاة: {وأقيموا الصلاة .....}[سورة البقرة: 43]، وقوله تعالى: { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا}[سورة النساء: 103].

فلو أخذ هذا الكلام على ظاهره لاكتفى من كل إنسان بأدنى ما يقع عليه اسم الصلاة وهي ركعة واحدة مثلاً، وتؤدى بأية كيفية كانت، مع أن هذا خلاف مراد الله تعالى.

لذلك جاءت السنة مبينة: أوقات الصلاة، وعدد ركعاتها، وكيفية أدائها، وأركانها، وشروطها، وسننها، وهيئاتها، وآدابها، ومبطلاتها، ونحو ذلك من كل ما يتعلق بها.

وكذلك الشأن في سائر الأحكام التي وردت في القرآن مجملةً غير مفصلة ولا مبينة، كالزكاة، والصيام، والحج، والنكاح، والجهاد، والطلاق وغيرها.

قال محمد بن نصر المروزي ( 294هـ ) في هذا الصدد: " وجدت أصول الفرائض كلها لا يعرف تفسيرها ولا تنكر تأديتها ولا العمل بها إلا بترجمة من النبي صلى الله عليه وسلم وتفسير منه، من ذلك: الصلاة والزكاة والصيام والحج والجهاد.

قال الله عز وجل: { إن الصلاة كانت على المؤمنين كتابًا موقوتًا} [سورة النساء: 103]. فأجمل فرضها في كتابه ولم يفسرها، ولم يخبر بعددها وأوقاتها، فجعل رسوله هو المفسر لها، والمبين عن خصوصها وعمومها وعددها وأوقاتها وحدودها، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم: أن الصلاة التي افترضها الله هي خمس صلوات في اليوم والليلة، في الأوقات التي بينها وحددها، فجعل صلاة الغداة ركعتين، والظهر والعصر والعشاء أربعًا أربعًا، والمغرب ثلاثًا، وأخبر أنها على العقلاء البالغين من الأحرار والعبيد، ذكورهم وإناثهم، إلا الحيض فإنه لا صلاة عليهن، وفرق بين صلاة الحضر والسفر، وفسر عدد الركوع والسجود والقراءة وما يعمل فيها من التحريم بها، وهو: التكبير، إلى التحليل منها، وهو التسليم.

وهكذا فسر النبي صلى الله عليه وسلم الزكاة بسنته، فأخبر أن الزكاة إنما تجب في بعض الأموال دون بعض على الأوقات والحدود التي حدّها وبيّنها، فأوجب الزكاة في العين من الذهب والفضة والمواشي من الإبل والغنم والبقر السائمة، وفي بعض ما أخرجت الأرض دون بعض، وعفا عن سائر الأموال، فلم يوجب فيها الزكاة.

ولم يوجب الزكاة فيما أوجبها فيه من الأموال ما لم تبلغ الحدود التي حدها، فقال: " ليس في أقل من خمس أواق من الورق صدقة، ولا في أقل من خمسة أوسق صدقة، ولا في أقل من خمس ذود صدقة" (5). " ولا في أقل من أربعين من الغنم صدقة" (6) " ولا في أقل من ثلاثين من البقر(7).

وبين أن الزكاة إنما تجب على من وجبت عليه إذا حال عليه الحول من يوم يملك ما تجب فيه الزكاة، ثم تجب عليه في المستقبل من حول إلى حول، إلا ما أخرجت الأرض، فإن الزكاة تؤخذ مما وجب فيه الزكاة منه عند الحصاد والجداد- صرام النخل -، وإن لم يكن الحول حال عليه، ثم إن بقي بعد ذلك سنين لم يجب عليه غير الزكاة الأولى. كل ذلك مأخوذ عن سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، غير موجود في كتاب الله بهذا التفسير.

وكذلك الصيام، قال الله تبارك وتعالى: { كتب عليكم الصيام }[سورة البقرة: 183]. فجعل صلى الله عليه وسلم فرض الصيام على البالغين من الأحرار والعبيد، ذكورهم وإناثهم إلا الحيض، فإنهن رفع عنهن الصيام، فسوى بين الصيام والصلاة في رفعها عن الحائض، وفرق بينهما في القضاء، فأوجب عليهن قضاء الصيام، ورفع عنهن قضاء الصلاة، وبين أن الصيام هو الإمساك بالعزم على الإمساك عما أمر بالإمساك عنه من طلوع الفجر إلى دخول الليل، فقال صلى الله عليه وسلم: " من لم يجمع الصيام قبل الفجر، فلا صيام له"  (8)....

وكذلك الحج، افترض الله الحج في كتابه، فقال: { ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلاً}[ سورة آل عمران: 97].

فبين رسول الله صلى الله عليه وسلم المبين عن الله مراده أن الحج لا يجب في العمر إلا مرة واحدة..., كما بين النبي صلى الله عليه وسلم بسنته أن فرض الحج هو: الإهلال، وفسر الإهلال ومواقيت الحج والعمرة جميعًا، وبين ما يلبس المحرم مما لا يلبسه، وغير ذلك من أمور الحج مما ليس بيانه في كتاب الله.

وذكر الجهاد وما يتعلق به، ثم قال: " فهذه الفرائض كلها متفقة في أنها مفروضة ومختلفة في الخصوص والعموم، والعدة والأوقات والحدود، بين ذلك رسول الله صلى اله عليه وسلم بسنته" (9).

 


 
الهوامش

(1)  أخرجه مالك في الموطأ، كتاب القدر، رقم: (3) بلاغًا، والحاكم في المستدرك (1/ 93) متصلاً، وابن عبد البر في جامع بيان العلم، رقم: (1866)، وصححه الحاكم, والألباني في الصحيحة (1761).

(2) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{ إن الصفا والمروة ...}، رقم: (4495)، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب بيان أن السعي بين الصفا والمروة ركن لا يصح الحج إلا به، رقم: (3079).

(3)  انظر: إعلام الموقعين لابن القيم، 2/ 44.

(4) صحيح البخاري، كتاب التفسير، باب قوله تعالى:{ ليس على الذين آمنوا وعملوا الصالحات جناح ...}، رقم: (4620)، وصحيح مسلم، كتاب الأشربة، باب تحريم الخمر...، رقم: (5131)، والترمذي،                كتاب التفسير، باب من سورة المائدة، رقم: (3050- 3051)، وقال: حسن صحيح، واللفظ له.

(5) أخرجه البخاري، كتاب الزكاة، باب ما أدى زكاته فليس بكنز، رقم: (1405)، ومسلم، كتاب الزكاة، باب ليس فيما دون خمسة أوسق صدقة، رقم: (2263).

(6)  أخرجه البخاري بمعناه، كتاب الزكاة، باب زكاة الغنم، رقم: (1454).

(7) أخرجه أبو داود بمعناه، كتاب الزكاة، باب في زكاة السائمة، رقم: (1576).

(8)  أخرجه أبو داود، كتاب الصيام، باب النية في الصوم، رقم: (2454). والترمذي، كتاب الصوم، باب ما جاء لاصيام لمن لم يعزم من الليل، رقم: (730)، وقال: حديث حفصة لا نعرفه مرفوعًا إلا من هذا                  الوجه، وصحّحه الألباني في الإرواء، (4/ 25).

(9)  السنة للمروزي، ص: 36- 45، بتصرف.



بحث عن بحث