مقدمة

    الحمد لله رب العالمين، حمدًا يوافي نعمه، ويكافئ مزيده، ويليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على خير خلق الله، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا.

أما بعد:

    فإن تخريج الحديث ودراسة إسناده ومتنه أمر من الأهمية بمكان كبير، وذلك أن الحديث دين تعبدنا الله بما فيه من أمر ونهي، وحظر وإباحة، ومن ثَمَّ فلا يليق بمسلم- فضلاً عن طالب علم- أن يستشهد بأيّ حديث أو يرويه إلا بعد معرفة من رواه من الأئمة، وما درجته من الصحة أو الحسن أو الضعف، ويؤكد ذلك عدة أمور:

أولاً: قول الله تعالى: ((وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا)) [الإسراء: 36]، فمن نسب الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- دون تخريج ومعرفة بمرتبته فقد قفا ما ليس له به علم، ومن ثَمَّ وقع في المحذور.

وثانيها: ما رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه من حديث سمرة بن جندب والمغيرة بن شعبة أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- قال: (من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين).

    وما رواه الإمام مسلم أيضًا في مقدمة صحيحه عن أبي هريرة قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: ((كفى بالمرء كذبًا أن يحدث بكل ما سمع)).

    والحديثان أخرجهما ابن حبان في صحيحه، وترجم لهما بقوله: ((فصل: ذكر إيجاب دخول النار لمن نسب الشيء إلى المصطفى - صلى الله عليه وسلم- وهو غير عالم بصحته)). فمن نسب الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وهو لا يعرف مصدره، ولا يعلم مرتبته فإنه يستحق دخول النار، ومعلوم أن من يستحق دخول النار هو تارك الواجب، أو مرتكب الحرام.

وثالثها: القاعدة الشرعية المشهورة: " ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب"، وعدم الكذب على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- واجب، ولا يتم ذلك إلا بتخريج الحديث ومعرفة مرتبته، وعليه فتخريج الحديث واجب.

ورابعها: أن تخريج الحديث يعد أمانةً علميةً أيضًا، إذ إنه - كما هو مقرر في المنهجية العلمية- يتعين على الباحث نسبة الأقوال إلى صاحبها، وذكر المصادر والمراجع المعتمدة في نقل تلك الأقوال.

    فإذا كان هذا مطلوبًا في حق أقوال عامة الناس، فما بالنا بالنسبة لمن أقواله تشريع؟ فمن الأمانة العلمية أن نخرج الحديث، ونبين مرتبته، مع ذكر المصادر والمراجع المعتمدة في ذلك، وإذا كان في عصور الرواية لا ينسب الحديث إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- إلا بذكر إسناده، واشتهرت في تلك العصور المقولة الآتية: " الإسناد من الدين، ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" ففي عصرنا يعتبر تخريج الحديث هو إسنادنا، ولذا فما أحوجنا في هذا العصر إلى المقولة الآتية: " تخريج الحديث من الدين، ولولا التخريج لقال من شاء ما شاء"(1).

    وإذا كان تخريج الحديث بهذه المثابة وتلك المنزلة، فإننا- بعون الله ومدده وتوفيقه- سنعرض في هذه الزاوية للتخريج ودراسة الأسانيد، معرفين بهما، مفصحين عن أصولهما وقواعدهما، ولا أدعي أني أتيت في هذا بعلم جديد، بل عملي من علم علمائنا ومشايخنا وليد، غير أني تحريت التأصيل والتقعيد؛ ليحسن عند الممارسة التطبيق، والله المعين، وهو ولي التوفيق.

التخريج:

أولاً: تعريفه

 التخريج لغةً: من الخروج، وهو في أصل اللغة ضد الدخول، ثم يستعمل في عدة معانٍ كلها يدور حول البيان والظهور، يقال: خرجت خوارج فلان: إذا ظهرت نجابته، وتوجه لإبرام الأمور وإحكامها، ومنه قول الخطابي في تعريف الحديث الحسن: " هو ما عرف مخرجه" أي موضع خروجه، وهم رواة إسناده الذين خرج الحديث من طريقهم، ومنه قول المحدثين عن الحديث: "أخرجه البخاري" أي: أبرزه للناس وأظهره لهم ببيان مخرجه، وذلك بذكر رجال إسناده الذين خرج الحديث من طريقهم.

    ومما جاء بهذا المعنى قوله تعالى: ((ذلك يوم الخروج))(2) أي: يوم البعث، حيث يخرج ويبرز الناس فيه من الأرض، وقال تعالى: ((وأخرج ضحاها))(3) أي: أبرز وأظهر نهارها ونورها(4).

التخريج عند المحدثين: يطلق التخريج عند المحدثين على عدة معان:

1. فيطلق على أنه مرادف لـ"لإخراج"، أي إبراز الحديث للناس بذكر مخرجه، أي رجال إسناده الذين خرج الحديث من طريقهم، فيقولون مثلاً: "هذا حديث أخرجه البخاري"، أو"خرجه البخاري" أي: رواه وذكر مخرجه استقلالاً.

قال ابن الصلاح: " وللعلماء بالحديث في تصنيفه طريقتان:

إحداهما: التصنيف على الأبواب، وهو تخريجه على أحكام الفقه وغيرها.

 والثانية: تصنيفه على المسانيد..." (5)، فالمراد بقوله: "تخريجه" أي: إخراجه وروايته للناس في كتابه.

2. ويطلق على معنى رواية المصنف الحديث في المستخرجات: والمستخرجات هي: أن يعمد الحافظ إلى كتاب مسند لغيره، فيخرج أحاديثه - أي يرويها- بأسانيد لنفسه من غير طريق صاحب الكتاب، بحيث يجتمع معه في شيخه- شيخ صاحب الكتاب- أو شيخ شيخه وهكذا، على أن يكون من حديث الصحابي نفسه.

    قال الزركشي في ذلك: " حقيقته- أي الاستخراج- أن يأتي المصنف إلى كتاب البخاري أو مسلم، فيخرج أحاديثه بأسانيد لنفسه من غير طريق البخاري أو مسلم، فيجتمع إسناد المصنف مع إسناد البخاري أو مسلم في شيخه أو من فوقه" (6).

    وقد جاء التعبير عن المستخرجات بلفظ" التخريج" في كلام المحدثين، ومنهم: ابن الصلاح، حيث يقول: " التخاريج المذكورة على الكتابين- يعني الصحيحين- يستفاد منها فائدتان: إحداهما: علو الإسناد، والثانية: الزيادة في قدر الصحيح لما يقع فيها من ألفاظ زائدة وتتمات في بعض الأحاديث، يثبت صحتها بهذه التخاريج؛ لأنها واردة بالأسانيد الثابتة في الصحيحين أو أحدهما، وخارجة من ذلك المخرج الثابت" (7).

3.  ويطلق بمعنى إخراج المحدث المتأخر أسانيد مروياته من بطون المصنفات، والأجزاء، والمشيخات الحديثية.

    قال السخاوي: " والتخريج: إخراج المحدِّث الأحاديث من بطون الأجزاء، والمشيخات، والكتب ونحوها، وسياقها من مرويات نفسه، أو بعض شيوخه، أو أقرانه، أو نحو ذلك، والكلام عليها، وعزوها لمن رواها من أصحاب الكتب والدواوين...." (7).

ومن الكتب المؤلفة في ذلك:

أ‌-          حديث أبي العُشَرَاء الدارمي، تخريج الحافظ أبي القاسم: تمام بن محمد الرازي.

ب‌-     الفوائد لأبي عمرو عبد الوهاب بن محمد بن إسحاق بن منده، تخريج أخيه أبي القاسم عبد الرحمن بن محمد.

     ومما يلحق بذلك: ما يعمد إليه عدد من المحدثين الحفاظ وطلاب العلم في العصور المتأخرة، من رواية كتب الحديث بالإسناد إلى أصحابها، إبقاءً لفضيلة الرواية بالإسناد التي تميزت بها هذه الأمة عن غيرها من الأمم (8).

ويطلق على معنى الدلالة: أي الدلالة على مصادر الحديث الأصلية وعزوه إليها، وذلك بذكر من رواه من المؤلفين.

     قال العراقي في مقدمة كتابه: تخريج الأحاديث والآثار الواقعة في منهاج البيضاوي: " ذكرت في هذه الأوراق الأحاديث التي ضمنها قاضي القضاة ناصر الدين عبد الله بن عمر بن محمد البيضاوي... ذاكرًا من خرجها من الأئمة، وصحابي كل حديث، أو من رواه مرسلاً، مع التنبيه على صحتها، وضعفها على سبيل الاختصار" (9).

     وقال المناوي في " فيض القدير" عند قول السيوطي: " وبالغت في تحرير التخريج" بمعنى اجتهدت في تهذيب عزو الأحاديث إلى مخرجيها من أئمة الحديث، من الجوامع، والسنن، والمسانيد، فلا أعزو إلى شيء منها إلا بعد التفتيش عن حاله، وحال مخرِّجه، ولا أكتفي بعزوه إلى من ليس من أهله - وإن جلّ- كعظماء المفسرين" (10).

    والمعنى الأخير هذا للتخريج: هو الذي شاع واشتهر بين المحدثين، وكثر استعمال اللفظ فيه، ولاسيما في القرون المتأخرة، بعد أن بدأ العلماء بتخريج الأحاديث المبثوثة في بطون بعض الكتب لحاجة الناس إلى ذلك (11).

 

الهوامش:

 (1) انظر: مجلة البيان- عدد (154)، بحث: تخريج الأحاديث النبوية فريضة شرعية وأمانة علمية، ص: 7- 8.

 (2) سورة ق: 42.

 (3) سورة النازعات: 29.

 (4) ينظر: لسان العرب، مادة: خرج، وتاج العروس، مادة: خرج، والمعجم الوسيط: 1/ 223-224، تفسير البغوي: 4/ 445.

 (5) مقدمة ابن الصلاح: 128.

 (6) النكت على مقدمة ابن الصلاح: 1/ 229.

 (7) مقدمة ابن الصلاح: 12، ط: دار الكتب العلمية.

 (8) فتح المغيث: 3/ 318.

 (9) ينظر: بحث" التخريج عند المحدثين" للدكتور/ دخيل بن صالح اللحيدان: ص: 95، بمجلة جامعة الإمام، العدد (28) شوال 1420هـ.

 (10) ص: 33.

 (11) فيض القدير: 1/ 20.

 (12) أصول التخريج للدكتور/ الطحان: 10.



بحث عن بحث