التنافس في الخير (2-3)

الوقفة الثالثة:

على هذا الأَساس المتين والقاعدة العامة وجه المولى سبحانه وتعالى إلى المنافسة والتباري، يقول جل من قائل: ﴿فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ﴾ [البقرة: 148]، ويقول جل شأنه: ﴿وَسَارِعُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ﴾ [آل عمران: 133]، ويقول جل ذكره: ﴿سَابِقُوا إِلَىٰ مَغْفِرَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ﴾ [الحديد: 21] أما ميدان التسابق فهو العمل الصالح، يقول سبحانه: ﴿وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا﴾ [الإسراء: 9]، ويقول جل شأنه: ﴿مَنْ آمَنَ بِاللَّـهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَعَمِلَ صَالِحًا فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِندَ رَبِّهِمْ وَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ﴾ [البقرة: 62].

وفي الحث على هذا التنافس الشريف، يوصي الرسول بقوله فيما رواه مسلم: «بادروا بالأعمال الصالحة فستكون فتن كقطع الليل المظلم، يصبح الرجل مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، يبيع دينه بعرض من الدنيا»(1)، وروى الترمذي بإسناد حسّنه بعض أهل العلم أن النبي قال: «بادروا بالأعمال سبعًا: هل تنتظرون إلا فقرًا منسيًا، أو غنًى مطغيًّا، أو مرضًا مفسدًا، أو هرمًا مفندًا، أو موتًا مجهزًا، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة فالساعة أدهى وأمرّ؟»(2).

الوقفة الرابعة:

هذه الميادين الواسعة للتسابق هي ميادين المؤمنين الصادقين الذين قال الله عنهم: ﴿إِنَّ الَّذِينَ هُم مِّنْ خَشْيَةِ رَبِّهِم مُّشْفِقُونَ*وَالَّذِينَ هُم بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُون*وَالَّذِينَ هُم بِرَبِّهِمْ لَا يُشْرِكُونَ*وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَّقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَىٰ رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ*أُولَـٰئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ﴾ [المؤمنون: 57 – 61].

وقد تمثل صحابة رسول الله هذا التسابق الشريف والمنافسة العظيمة على المستوى الفردي، وعلى المستوى الجماعي، وهاك مثالًا للتنافس الفردي لأَصحاب الهمم العالية والقلوب المؤمنة الصادقة: روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرةأن النبي قال: «من أصبح منكم اليوم صائمًا؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن تبع منكم اليوم جنازة؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن أطعم اليوم مسكينًا؟» قال أبو بكر: أنا، قال: «فمن عاد منكم مريضًا؟» قال   أبو بكر: أنا، قال النبي : «ما اجتمعت في امرئ إلا دخل الجنة»(3).

أما التنافس الجماعي، فمما ورد فيه ما جاء في الصحيح أن جملة من فقراء الصحابةجاؤوا إلى رسول الله شاكين حالهم، غابطين إخوانهم الأَغنياء؛ لأنهم وجدوا ما ينفقونه، ويتصدقون به ويبذلون، فقالوا لرسول الله : «ذهب أهل الدثور بالأُجور – أي أهل الأموال – يصلون كما نصلي، ويصومون كما نصوم، ويتصدقون ولا نتصدق»(4) همهم ومشكلتهم أن إخوانهم سبقوهم في هذا الميدان العظيم، أحزنهم لأَنهم لم يجدوا ما ينفقون، لكن هذا الدين العظيم يجعل ميادين التنافس كثيرة، لذلك أرشدهم الرسول إلى شيءٍ من تلك الميادين يعوض ما فقدوه، دلّهم على ذكر الله تعالى فيسبحونه ويحمدونه ويكبرونه، ثلاثًا وثلاثين دبر كل صلاة، ويختمون المائة بلا إله إلا الله، هكذا كان السلف رضوان الله عليهم، فهل لنا أن نتشبه بهم ونحن نعيش في رحاب هذا الشهر المبارك؟

فتشبـهوا إن لـم تكونـوا مثلهم***إن الـتشـبــه بـالكـرام فــلاح

 

__________

(1) رواه مسلم (1/118) في الإيمان، باب الحث على المبادرة بالأَعمال، والإمام أحمد (2/304، 372، 523).

(2) رواه الترمذي (4/478)، برقم(2306) في الزهد، باب ما جاء في المبادرة بالعمل.

(3) رواه مسلم (2/713)، برقم(1028) في الزكاة، باب من جمع الصدقة وأعمال البر.

(4) رواه البخاري (2/325)، برقم(843) في الأذان، باب الذكر بعد الصلاة، ومسلم (2/697)، برقم(1006) في الزكاة، باب بيان أن اسم الصدقة يقع على كل نوع من المعروف. 



بحث عن بحث