خطبة حرب الشائعات

لفضيلة الشيخ : عبدالرحمن السديس

بتاريخ : 17- 8-1422هـ

 

إن الحمد لله، جلّ من رب وتعالى من إله، هو سبحانه رب كل شئ ومليكه ومولاه، وهو العلي الأعلى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، عالم السر والنجوى, والمُؤمَّل لكشف كل بلوى، ورفع كل لأوى، سبحانه وبحمده، ليس في الكون رب سواه فيُدعى، وليس في الوجود إله غيره فيرجى، وليس في الملأ حَكم غيره فتُرفع إليه الشكوى، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمدًا عبد الله ورسوله، النبي المصطفى، والرسول المُجتبى، والحبيب المُرتَضَى، بلَّغ رسالة ربه فما ضل وما غوى، (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى  إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى)[النجم:3، 4]، صلى الله عليه وعلى آله أنوار الهدى، وصحبه مصابيح الدُّجى، والتابعين ومن تبعهم بإحسان وسار على نهجهم واقتفى، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

 

فيا عباد الله، خير الوصايا وصيّة رب البرايا، (وَلَقَدْ وَصَّيْنَا ?لَّذِينَ أُوتُواْ ?لْكِتَـ?بَ مِن قَبْلِكُمْ وَإِيَّـ?كُمْ أَنِ ?تَّقُواْ ?للَّهَ)[النساء:131]، فاتقوا الله رحمكم الله، فبالتقوى العصمة من الفتن، والسلامة من المحن، يقول طلْق بن حبيب رحمه الله: "اتقوا الفتن بالتقوى".

أيها المسلمون، منذ أن خلق الله الخليقة وُجِد الصراع بين القوى، صراعٌ يستهدف أعماق الإنسانية، ويؤثر في كِيَان البشرية، وإذا كانت الحروب والأزمات والكوارث والنكبات تستهدف بأسلحتها الفتاكة الإنسان من حيث جسده وبناؤه، فإن هناك حرباً سافرة مستترة تتوالد على ضفاف الحوادث والملِمَّات، وتتكاثر زمن التقلبات والمتغيّرات، وهي أشدّ ضراوة وأقوى فتكا، لأنها تستهدف الإنسان من حيث عُمقُه وعطاؤه، وقيمُه ونماؤه، أتدرون -يا رعاكم الله- ما هي هذه الحرب القذرة؟! إنها حرب الشائعات.

الشائعات من أخطر الحروب المعنوية، والأوبئة النفسية، بل من أشد الأسلحة تدميراً، وأعظمها وقعاً وتأثيراً، وليس من المبالغة في شيء إذا عُدَّت ظاهرة اجتماعية عالمية، لها خطورتها البالغة على المجتمعات البشرية، وأنها جديرة بالتشخيص والعلاج، وحَرِيَّةٌ بالتصدي والاهتمام لاستئصالها والتحذير منها، والتكاتف للقضاء على أسبابها وبواعثها، حتى لا تقضي على الروح المعنوية في الأمة، التي هي عماد نجاح الأفراد، وأساس أمن واستقرار المجتمعات، وركيزة بناء أمجاد الشعوب والحضارات.

معاشر المسلمين، المستقرئ للتأريخ الإنساني يجد أن الشائعات وُجدت حيث وُجد الإنسان، بل إنها عاشت وتكاثرت في أحضان كل الحضارات، ومنذ فجر التأريخ والشائعة تمثّل مصدر قلقٍ في البناء الاجتماعي، والانتماء الحضاري لكل الشعوب والبيئات.

ولما جاء الإسلام اتخذ الموقف الحازم من الشائعات وأصحابها لِما لنشرها وبثها بين أفراد المجتمع من آثار سلبية، على تماسك المجتمع المسلم، وتلاحم أبنائه، وسلامة لُحْمته، والحفاظ على بيضته، بل لقد عدّ الإسلام ذلك سلوكا مرذولاً، منافيا للأخلاق النبيلة، والسجايا الكريمة، والمُثل العليا، التي جاءت بها وحثت عليها شريعتنا الغراء من الاجتماع والمحبة والمودّة والإخاء، والتعاون والتراحم والتعاطف والصفاء، وهل الشائعة إلا نسف لتلك القيم؟! ومعول هدم لهذه المُثُل؟!

كما حذر الإسلام من الغيبة والوقيعة في الأعراض، والكذب والبهتان والنميمة القالة بين الناس، وهل الشائعة إلا كذلك؟! وأمر بحفظ اللسان، وأبان خطورة الكلمة، وحرّم القذف والإفك، وتوعّد محبّي رواج الشائعات بالعذاب الأليم: (إِنَّ ?لَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ?لْفَـ?حِشَةُ فِى ?لَّذِينَ ءامَنُواْ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ?لدُّنْيَا وَ?لآخِرَةِ)[النور:19].

وحـث على التثبت والتبيّن في نقل الأخبـار، يقـول سبحانـه: (ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ إِن جَاءكُمْ فَاسِقُ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُواْ أَن تُصِيببُواْ قَوْمَا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُواْ عَلَى? مَا فَعَلْتُمْ نَـ?دِمِينَ)[الحجرات:6]، قرأ حمـزة والكسـائي: (فتثبَّتوا).

وأخبر سبحانه أن الإنسان مسؤول أمام الله عز وجل ومحاسب عن كل صغير وجليل: (مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ)[ق:18]، (وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ ?لسَّمْعَ وَ?لْبَصَرَ وَ?لْفُؤَادَ كُلُّ أُولـ?ئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً)[الإسراء:36].

والشائعات مبنيّة على سوء ظن بالمسلمين، والله عز وجل يقول: (ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ ?جْتَنِبُواْ كَثِيراً مّنَ ?لظَّنّ إِنَّ بَعْضَ ?لظَّنّ إِثْمٌ)[الحجرات:12]، وقد أخرج الشيخان في صحيحيهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث))، كما نهى الإسلام أتباعه أن يطلقوا الكلام على عواهنه، ويُلغوا عقولهم عند كل شائعة، وتفكيرَهم عند كل ذائعة، أو ينساقوا وراء كل ناعق، ويُصدّقوا قول كل دَعيٍّ مارق، أخرج الإمام مسلم في صحيحه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((كفى بالمرء كذباً أن يحدث بكل ما سمع))، وفي رواية: ((كفى بالمرء إثماً)).

وسدًّا للباب أمام الوشاة المغرضين، ونقلة الشائعات المتربّصين، ومنعاً لرواج الشائعة والبلاغات المجهولة الكيدية المغرضة، والأخبار الملفقة المكذوبة على البُرآء الغافلين، يقول صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري في الأدب المفرد عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها: ((ألا أخبركم بشراركم؟!)) قالوا: بلى يا رسول الله، قال: ((المشاؤون بالنميمة، المفسدون بين الأحبة، الباغون للبُرآء العنت)).

إخوة العقيدة، إذا كان في دنيا النبات طُفيليات تلتفُّ حول النبتة الصالحة، لتفسد نموّها، فإن الشائعات ومروّجيها أشدُّ وأنكى، لما يقومون به من خلخلة البُنى التحتية للمجتمع، وتقويض أركانه، وتصديع بنيانه، فكم تجنّوا على أبرياء؟! وأشعلوا نار الفتنة بين الأصفياء؟! وكم نالوا من علماء وعظماء؟! وكم هدّمت الشائعة من وشائج؟! وتسبّبت في جرائم؟! وفككت من أواصر وعلاقات؟! وحطّمت من أمجاد وحضارات؟! وكم دمّرت من أسر وبيوتات؟! وأهلكت من حواضر ومجتمعات؟! بل لرُب شائعة أثارت فتنا وبلايا، وحروباً ورزايا، وأذكت نار حروب عالمية، وأججّت أوار معارك دولية، وإن الحرب أوّلها كلام، ورُب كلمة سوء ماتت في مهدمها، ورُب مقالة شرّ أشعلت فتنا، لأن حاقداً ضخّمها ونفخ فيها.

ومروّج الشائعة -يا عباد الله- لئيم الطبع، دنيء الهمة، مريض النفس، منحرف التفكير، صفيق الوجه، عديم المروءة، ضعيف الديانة، يتقاطر خِسَّة ودناءة، قد ترسّب الغلّ في أحشائه، فلا يستريح حتى يُزبد ويُرغي، ويفسد ويؤذي، فتانٌ فتاكٌ، ساعٍ في الأرض بالفساد، يجرّ الفتن للبلاد والعباد، إنه عضو مسموم، ذو تجاسر مذموم، وبذاء محموم، يسري سريان النار في الهشيم، يتلوّن كالحرباء، وينفث سمومه كالحية الرقطاء، ديدنه الإفساد والهمز، وسلوكه الشر واللمز، وعادته الخُبث والغمز، لا يفتأ إثارة وتشويشاً، ولا ينفك كذباً وتحريشاً، ولا يبرح تقوّلا وتهويشاً، فكم حصلت وحصلت من جِناية على المؤهلين الأكفياء بسبب شائعة دعيٍّ مأفون، ذي لسان شرير، وقلم أجير، في سوء نية، وخبث طوية، وهذا سرّ النزيف الدائم في جسد الأمة الإسلامية.

إخوة الإيمان، ومنذ فجر التأريخ والشائعات تُنشب مخالبها في جسد العالم كله، لا سيما في أهل الإسلام، يروّجها ضعاف النفوس والمغرضون من أعداء الديانة، ويتولى أعداء الإسلام عبر التأريخ -لاسيما اليهود قتلة الأنبياء ونقضة العهود- كبر الشائعات، بُغيةَ هدم صرح الدعوة الإسلامية، والنيل من أصحابها، والتشكيك فيها، ولم يسلم من شائعاتهم حتى الأنبياء عليهم صلوات الله وسلامه، فقد تعرّضوا لجملة من الافتراءات والأراجيف ضد رسالتهم، تظهر حينا، وتحت جُنح الظلام أحياناً،(فَفَرِيقًا كَذَّبْتُمْ وَفَرِيقًا تَقْتُلُونَ)[البقرة:87].

فهذا المسيح عليه السلام تُشكك الشائعات المغرضة فيه وفي أمة الصدِّيقة:(ي?أُخْتَ هَـ?رُونَ مَا كَانَ أَبُوكِ ?مْرَأَ سَوْء وَمَا كَانَتْ أُمُّكِ بَغِيّاً)[مريم:28].

والكريم بن الكريم بن الكريم يوسف عليه السلام نموذج من نماذج الطهر والنقاء ضد الشائعات المغرضة التي تمس العرض والشرف، (كَذ?لِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ ?لسُّوء وَ?لْفَحْشَاء إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا ?لْمُخْلَصِينَ)[يوسف:24].

والسيرة العطرة لرسول الهدى صلى الله عليه وسلم أنموذج يحمل في طيّاته نماذج حية لتأريخ الشائعة والموقف السليم منها، فقد رُميت دعوته المباركة بالشائعات منذ بزوغها، فرُمي بالسحر والجنون والكذب والكهانة، وتفنن الكفار والمنافقون الذين مردوا على النفاق في صُنع الأراجيف الكاذبة، والاتهامات الباطلة ضد دعوته صلى الله عليه وسلم ، ولعل من أشهرها قصة الإفك المبين، تلك الحادثة التي كشفت عن شناعة الشائعات، وهي تتناول بيت النبوة الطاهر، وتتعرّض لعرض أكرم الخلق على الله صلى الله عليه وسلم ، وعرض الصديق والصديقة وصفوان بن المعطل رضي الله عنهم أجمعين، وتشغل [تشمل] هذه الشائعة المسلمين بالمدينة شهراً كاملاً. والمجتمع الإسلامي يصطلي بنار تلك الفرية، ويتعذّب ضميره، وتعصره الشائعة الهوجاء عصراً، ولولا عناية الله لعصفت بالأخضر واليابس، حتى تدخّل الوحي ليضع حداً لتلك المأساة الفظيعة، ويرسم المنهج للمسلمين عبر العصور للموقف الواجب اتخاذه عند حلول الشائعات المغرضة، (لَّوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ?لْمُؤْمِنُونَ وَ?لْمُؤْمِنَـ?تُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْراً وَقَالُواْ هَـ?ذَا إِفْكٌ مُّبِينٌ)[النور:12]، إلى قوله سبحانه: (وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَّا يَكُونُ لَنَا أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَـ?ذَا سُبْحَـ?نَكَ هَـ?ذَا بُهْتَـ?نٌ عَظِيمٌ  يَعِظُكُمُ ?للَّهُ أَن تَعُودُواْ لِمِثْلِهِ أَبَداً إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ)[النور:16، 17]، تقول عائشة رضي الله عنها: (فمكثت شهراً لا يرقأ لي دمعٌ ولا أكتحل بنوم)، حتى برّأها الله من فوق سبع سماوات، رضي الله عنها وأرضاها.

ومن ذلك -يا عباد الله- استغلال الكفار والمنافقين لحادث موت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، حين أخذوا يشنون الحرب النفسية ضد المسلمين عن طريق الشائعات المغرضة، زاعمين أن الإسلام قد انتهى ولن تقوم له قائمة، حتى أثّر ذلك على بعض الصحابة رضي الله عنهم، وظل الناس في اضطراب حتى هيّأ الله الصديق أبا بكر -رضي الله عنه- فحسم الموقف بتذكير الأمة بقول الحق تبارك وتعالى: (وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئاً وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ)[آل عمران:144].

أمة الإسلام، وتتطوّر الشائعات بتطور العصور، ويمثّل عصرنا الحاضر عصراً ذهبياً لرواج الشائعات المغرضة، وما ذاك إلا لتطوّر التِقانات، وكثرة وسائل الاتصالات، التي مثّلت العلم قرية كونية واحدة، فآلاف الوسائل الإعلامية، والقنوات الفضائية، والشبكات المعلوماتية تتولّى كِبرَ نشر الشائعات المغرضة، والحملات الإعلامية المحمومة، في صورة من أبشع صور الإرهاب النفسي والتحطيم المعنوي، له دوافعه المشينة، وأغراضه المشبوهة، ضد عقيدة الأمة ومُثلها، وثوابتها وقيمها.

إنها ألغام معنوية، وقنابل نفسية، ورصاصات طائشة، تصيب أصحابها في مقتل، وتفعل في غرضها ما لا يفعله العدوّ بمخابراته وطابوره الخامس، مركّزة على شائعات الخوف والمرض، وإثارة القلق والرعب والحروب، وزرع بذور الفتنة، وإثارة البلبلة بين الناس، لا سيما في أوقات الأزمات، يوافق ذلك فراغ عند المتلقي وفضول، وبطالة وخمول، فتسري الشائعة في الناس مسرى الهواء، وتهيج فيهم هيجان البحر المتلاطم، وتكمن خطورتها أنها سلاح جنوده مغفّلون أغرار، سحرتهم الشائعات ببريقها الخادع، فأصبحوا يرددونها كالبَّبغاوات دون أن يدركوا أنهم أدوات يُستخدمون لمصالح أعدائهم، وهم لا يشعرون.

وكم كان للشائعات آثارها السلبية على الرأي العام، وصُنّاع القرار في العالم، وكم كانت سببا في أن يصرف الأعداء جبهة الأمة الداخلية عن مشكلاتها الحقيقية لإغراقها في مشكلات مفتعلة، علاوة على تمزيق الوحدة الإسلامية، والعمل على تفتيت الجبهة الداخلية.

يا أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، الشائعات جريمة ضد أمن المجتمع، وصاحبها مجرم في حق دينه ومجتمعه وأمته، مثيرٌ للاضطراب والفوضى في الأمة، وقد يكون شراً من مروّج المخدرات، فكلاهما يستهدف الإنسان، لكن الاستهداف المعنوي أخطر وأعتى.

وإنك لتأسف أشد الأسف ممن يتلقى الشائعات المغرضة، وكأنها حقائق مُسلّمة، يجلس أحدهم الساعات الطوال أمام أجهزة الشبكات المعلوماتية بوجهها الكالح، وما يعرف بجهاز الإنترنت، عبر مواقعه المشبوهة فيُلطّخ سمعه وبصره من الشائعات الباطلة، وتلفيق التهم الصفيقة مما تجفل القلوب من مجرّد سماعه، وتتحرّج النفوس المؤمنة من مطالعته، فضلاً عن البوح به، وما درى مَن هم هؤلاء الجبناء، خفافيش الظلام، إنهم أدوات في أيدي من يُعرف باللوبي الصهيوني العالمي، ضد أمن الأمة ومجتمعاتها الإسلامية.

وإنه ليُخشى لمن أدمن النظر فيها أن يخسر دينه ودنياه وآخرته، وأن يلتبس عليه الحق بالباطل، فينحرف عن جادة الصواب والعياذ بالله، وهل يجوز لنا ويليق بنا -نحن أهل الإسلام- أن نتخلى عن شيء من ثوابتنا؟!‍أو أن تهتزَّ بعض قناعاتنا؟! أو أن نظن غير الحق بأحد من علمائها وفضلائنا بمجرّد وشاية كاذبة أو شائعة مغرضة؟‍! أين عقولنا وتفكيرنا؟! بل أين ديننا وإيماننا أن نتلقف كل شيء تحت شعار: قالوا وزعموا؟!.

يقول الإمام الذهبي رحمه الله: "ولو أن كلَّ عالم تركنا قوله بمجرّد خطأ وقع فيه، أو كلام الناس فيه، ما سلم معنا أحد، ونعوذ بالله من الهوى والفظاظة"، فالله المستعان.

عباد الله، ومن هنا تدركون -يا رعاكم الله- خطورة هذه الحرب ضد دين الأمة وأمنها ومجتمعها، مما يتطلب ضرورة التصدي لها، وأهمية مكافحتها، والتخطيط لاستئصال جرثومتها، حتى لا تقضي البقية الباقية من تماسك المجتمع، وتلاحم أفراده.

وواجب علماء الأمة ودعاتها، وطلاب العلم فيها وشبابها في ذلك كبير وعظيم، فإنهم مستهدفون، فعليهم أن يُدركوا أبعاد المؤامرة، وأن لا يكونوا ميداناً خصباً لتواجدها، وانتشارها بينهم، وأن يحرصوا على التثبت والتبيّن، وأن يحذروا مسالك التأويل والهوى، واتباع المتشابه، وأن يقفوا في الأحداث عن علم وبصيرة، ويكفّوا ببصر نافذ، ونظر ثاقب، وظنّ حسن، بعيداً عن إيغار الصدور، وبث الشائعات والشرور، معتصمين بالكتاب والسنة، متخذين من موقف السلف الأنموذج عند الفتن.

والأمة مطالبة كلٌ في مجاله للقضاء على هذه الظاهرة التي لها آثارها المدمرة ضد أمن الأمة واستقرار المجتمع، كما أن على البيت والمسجد والأسرة والمدرسة ووسائل الإعلام دوراً كبيراً في المحافظة على سلامة المجتمع من شرورها وأخطارها، بدءاً بالوعي وتقوية الوازع الإيماني وتبيين الحقائق ونشرها، وعدم التساهل في  نقل الكلام وبث الأنباء، لا سيما في أوقات الأزمات، وعدم التهويل والإثارة في التعليقات، والمبالغة في التحليلات المشبوهة، وإيجاد صيغة علمية وآلية عملية للحوار الحضاري، والموقف السليم في الأحداث والمتغيرات، واختلاف الظروف والمستجدات، بإخلاص وصدق وشفافية، دون تزييف أو التواء، رَفعاً من روح المعنوية، وبُعداً عن الخور والضعف والانهزامية، كما قال سبحانه:(?لَّذِينَ قَالَ لَهُمُ ?لنَّاسُ إِنَّ ?لنَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَ?خْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَـ?ناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا ?للَّهُ وَنِعْمَ ?لْوَكِيلُ  فَ?نْقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مّنَ ?للَّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوء وَ?تَّبَعُواْ رِضْو?نَ ?للَّهِ وَ?للَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ  إِنَّمَا ذ?لِكُمُ ?لشَّيْطَـ?نُ يُخَوّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُمْ مُّؤْمِنِينَ)[آل عمران:173-175].

نفعني الله وإياكم بالقرآن العظيم، وبهدي سيد المرسلين، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه كان حليما غفوراً.

 

الخطبة الثانية:

الحمد لله مبدع الكائنات، وبارئ النسمات، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له جزيل العطايا والهبات، وواهب الخيرات والبركات، أمر بالصدق وحرّم الأكاذيب والشائعات، وأشهد أن نبينا محمداً عبد الله ورسوله أفضل البريات، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والمكرمات، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين. أما بعد:

فاتقوا الله عباد الله، واعملوا أن دينكم الإسلامي الحنيف رسم المنهج الصحيح لمواجهة أخطار الشائعات قاصداً من ذلك بناء المجتمع المسلم المتماسك، فأقام الضمانات الواقية، والحصانات الكافية التي تحول دون معاول الهدم والتخريب، ومستنقعات الترويج والتأليب أن تتسلّل إليه أو تؤثر عليه في غفلة من أهل الوعي والصلاح، فتتناثر حبات عقده الناصع، وتتشتت لبنات بنائه المُحكَم، فلا يقوى على التصدي لعاتيات العواصف والفتن، وتلاطمات أمواج المحن، فيوشك أن تغرق سفينته، أو يتغير مسارها الصحيح، أو تحدث فيها الشروخ والخروق، فتُطوّح بها بعيداً عن شاطئ السلامة، وساحل النجاة.

أيها الإخوة الأحبة في الله، وإن من أولى الخُطوات في مواجهة حرب الشائعات تربية النفوس على الخوف من الله، والتثبت في الأمور، فالمسلم لا ينبغي أن يكون أذنا لكل ناعق، بل عليه التحقق والتبيّن، وطلب البراهين الواقعية، والأدلّة الموضوعية، والشواهد العملية، وبذلك يُسدّ الطريق أمام الأدعياء، الذين يعملون خلف الستور، ويلوكون بألسنتهم كل قول وزور، ضد كل مُصلح ومُحتسب وغيور.

ألا وإن من العدل والإنصاف استنكار تلك الحملات الإعلامية المغرضة، والشائعات والأراجيف الباطلة، ضد عقيدتنا وشريعتنا، وضد بلادنا الإسلامية والمسلمين الذين يشرفون بالانتساب إلى هذا الدين القويم، وإن الطعن في بلاد الإسلام وعلماء الإسلام، ليس المقصود منه أشخاصهم وأعيانهم، وإنما ما يحملون من عقيدة ومنهج، وإن الحملات المسعورة ضد بلاد الحرمين -أدام الله عزها، وحفظ لها أمنها وإيمانها- لن تهزّ بإذن الله من قناعاتها بثوابتها، ولن تكون سببا في التنازل عن شيء من عقيدتها ومواقفها، فلا مساومة على شيء من مُثُلنا وقيمنا، والسؤال المُلحّ: ماذا يريد المهاجمون لبلاد الحرمين حرسها الله؟ ومن يقف وراءهم؟ ولمصلحة من يهرفون بما لا يعرفون، ويهذون بما لا يدرون؟

ولن يضر البحر أمسى زاخرا      أن رمى فيه غلام بحجر

ألا فلنتق الله عباد الله، ولنقم بواجبنا تجاه دين الله تعلماً وتعليماً وإصلاحاً ودعوة، فما أحوج العالم اليوم إلى فهم الصورة الحقيقية عن الإسلام والمسلمين، وما أحرى وسائل الإعلام العالمية المعاصرة في أن تسهم في تحقيق ذلك، ألا فلنكن صفاً واحداً أمام أعدائنا، ولنسر على منهجية صحيحة تحقق المصالح، وتدرأ المفاسد عن أمتنا ومجتمعاتنا بإذن الله، ولنتلاحم من ولاة أمرنا المسلمين، وعلمائنا الراسخين أمام طوفان الفتن، ولا نقبل فيهم قول الوشاة المغرضين، وما أشد حاجة الأمة، وقد ذرّت الفتن بقرنها، واستشرفت بزمامها إلى رُبان مهرة يقودون سفينتها إلى شاطئ السلامة والنجاة، فإنه إذا كثر الملاحون غرقت السفينة.

والله المسؤول أن يصلح أحوال المسلمين في كل مكان بمنه وكرمه.

ألا وصلوا وسلموا -رحمكم الله- على النبي الأواب، كما أمركم بذلك المولى العزيز الوهاب فقال تعالى قولاً كريما:(إِنَّ ?للَّهَ وَمَلَـ?ئِكَـتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى ?لنَّبِىّ ي?أَيُّهَا ?لَّذِينَ ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ وَسَلّمُواْ تَسْلِيماً)[الأحزاب:56].

اللهم صل وسلم وبارك على نبينا وحبيبنا وقدوتنا محمد بن عبد الله، وارض اللهم عن خلفائه الراشدين وعن الصحابة أجمعين، والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعنا معهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الشرك والمشركين، ودمر أعداء الدين، من اليهود والمفسدين وسائر أعداء الدين، اللهم عليك بهم فإنهم لا يعجزونك، اللهم عليك بهم عاجلا غير آجل، يا قوي يا عزيز. اللهم انصر إخواننا المسلمين المستضعفين في دينهم في كل مكان، اللهم انصرهم في فلسطين والشيشان وكشمير والأفغان، اللهم انصرهم على عدوك وعدوهم يا رب العالمين. اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والربا والزنا والزلازل والمحن وسوء الفتن ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصة وعن سائر بلاد المسلمين عامة يا رب العالمين. اللهم إنا نسألك اجعل لنا وللمسلمين من كل همٍ فرجًا ومن كل ضيق مخرجًا ومن كل بلاءٍ عافية يا قوي يا عزيز.

اللهم أنت الله لا إله إلا أنت، أنت الغني ونحن الفقراء أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين.

اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغثنا، اللهم أغث قلوبنا بالإيمان واليقين، وبلادنا بالخيرات والأمطار يا رب العالمين. اللهم أصلح ولاة أمور المسلمين، وأيِّد بالحق إمامنا، وولي أمرنا، وارزقه البطانة الصالحة يا ذا الجلال والإكرام.

ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار.

عباد الله: (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ). [النحل:90]

فاذكروا الله العظيم الجليل يذكركم واشكروه على نعمه يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.

 

 



بحث عن بحث