أحداث صفر (1432هـ ) الأولى  [1]

معـالـم ووقفـات

 

 

الحمد لله خالق كل شيء وهو على كل شيء قدير، أحمده سبحانه وأشكره، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له المتعال الكبير، وأشهد أن سيدنا ونبينا محمد عبده ورسوله، البشير النذير والسراج المنير، صلى الله وسلم وبارك على آله وأصحابه أجمعين، والتابعين ومن على نهجهم يسير، أما بعد، فاتقوا الله عباد الله وراقبوه في سركم وعلانيتكم.

أيها المسلمون: يراقب الناس في مختلف أنحاء العالم عن كثب ما يجري في بعض البلدان العربية من أحداث متسارعة لا يُدرى ما أولها ولا آخرها، وكثير من المسلمين يتابعها مشدوها ومرددًا ما يراه من صور، وما يسمعه من أخبار وتحليلات مؤيدًا تارة، ومعارضًا أخرى، ومحللًا ثالثة، وناقلًا لمحللين، وطغت هذه الأخبار والأنباء على مجالس الناس وأحاديثهم، ليقوم الإعلام بدوره لصناعة التأييد والمعارضة، وقليل من المسلمين من يقف موقف المتأمل ليضع هذه الأحداث في موضعها الشرعي وفي كثير مما يجري في وسائل الإعلام والاتصال وما ينقل فيها من أحداث، قد زلت فيه كثير من الألسن وتجاوزت، وخرج بعضها عن الإطار الشرعي، أو الأطر المصلحية العامة، ولذا كثرة الأسئلة عن بعض الأحداث يستوجب أهمية البيان.

وفي هذه الخطبة نقف وقفات تعيننا على تسطير الطريق السليم.

أيها المسلمون: مما تؤكده هذه الأحداث أنه يجب أن نجدد إيماننا ويقيننا بأن    ما جرى وما يجري ما هو إلا بقضاء الله وقدره، علمه سبحانه وكتبه وقدره وأوجده قبل خلق السموات والأرض قال تعالى: {مَا أَصَابَ مِن مُّصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِّن قَبْلِ أَن نَّبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ } هذا الإيمان عباد الله يفرض علينا أن نتذكر أن كل شيء لا يكون إلا بقدر الله سبحانه، وأن ما يحاول الناس أن يعملوه ما هو إلا من باب الأسباب التي يجتهدون فيها لتحري ما يفيدهم أو ينفعهم، كما يفرض علينا هذا الإيمان أن لا نجزم بأن ما يجري عقوبة أو عذابًا بل قد يكون كذلك أو ابتلاء من عند الله أو نتيجة لاختلاف أعمال البشر مع سنن الله جل وعلا الشرعية أو القدرية لكن سواء كان ذلك أو غيره، فالأمر يتطلب الرجوع الصادق إلى الله تعالى والعودة إليه أفرادًا ومؤسسات ودولًا، هذا الرجوع الذي يتمثل في الإيمان، والعمل بشرع الله تعالى في جميع مناحي الحياة، والتواصي بذلك، والتعاون عليه وإدراك أن النجاة والسلامة، والرقي والتقدم، والعزة والنصر مرهون بتنفيذ أوامر الله سبحانه، والانتهاء عن نواهيه، والوقوف عند حدوده، فمن المعلوم ـ عباد الله ـ أن حركة الكون كلها إيجابًا وسلبًا مرتبطة بحركة الإنسان، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَـكِن كَذَّبُواْ فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُواْ يَكْسِبُونَ }.

أيها المسلمون: مما تؤكده هذه الأحداث بيان مسؤولية الفرد المسلم تلك المسؤولية القائمة عليه ما دام موجودًا في هذه الحياة، هذه المسؤولية تنطلق من قوله سبحانه: {إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }.

ومن قول النبي صلى الله عليه وسلم: «كلكم راع وكلكم مسؤول عن رعيته» لكن مما يجب إدراكه ألا يتعدى الفرد بمسؤوليته إلى ما لا يطيقه، أو ما لا يدركه، أو ما لا يفقه حكمه، أو يتعدى على مسؤولية غيره، فحينئذٍ سيحمل نفسه ما لا يحتمل، وقد يَضل ويُضل.

أخي المسلم: إن من أهم المسؤوليات أن تدرك أن الواجبات التي تمليك، فهناك مستحب وواجب، وواجب وأوجب فلا تضيع الواجبات في غمرة الأحداث، ومن ثم إصدار الأحكام الخاطئة والعمل الخاطئ، ومن أهم الواجبات الدعاء للمسلمين بصلاحهم، وصلاح أحوالهم، وصيانة أعراضهم وحقن دماءهم والمحافظة على ممتلكاتهم، ونزع الخوف والرعب منهم.

ومنها: ضبط اللسان، والمشاعر، لئلا تنفلت في غمرة مثل هذه الفتن فتروج وتموج ولذلك شدد الإسلام على أهمية اللسان قال تعالى: {مَا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ } ، وقال عليه الصلاة والسلام: «يا معاذ كف عليك هذا» ويمسك أبو بكر رضي الله عنه بلسانه ويقول: (هذا الذي أوردني الموارد) وكثير من الضلال لم ينتشر إلا بسبب اللسان، وفي هذه الفتنة كثر الكلام، وتنوعت الأحاديث، وفتن كثير من الناس بما يحدث، ولو سألت عن المصدر لا يتعدى الفضائيات أو النت بدون معرفة قائله، ولذلك يتوجب الحذر حتى لا تروج الإشاعات المغرضة.

ومن واجبات الفرد البعد عن مواطن الفتن ومن ذلك الدخول إلى مواقع النت التي ندبت نفسها للخوض في تلك الفتن، وكأنها الموجه والمرشد لهم مع فقدان لأبسط مقومات تلك المجتمعات ولو أبذل ذلك الإنسان جهده هذا بالاجتهاد للدعاء لإخوان المسلمين بما فيه خير لهم، فتلك فتن لا يدري ما عواقبها، وما هو الأصلح فيها.

ومن واجبات الفرد التثبت من القضايا الشرعية والحكم فيها، فقد زل فيها أقوام، وكثرت فيها أقاويل، وأصبح كثير ممن يستهوي الحديث في هذه الأحداث يطلق الأحكام الشرعية دون الرجوع إلى دليل شرعي أو سؤال عالم، بل وأصبح كثير من الناس يطلقون الأحكام على الناس وتصرفاتهم، فهذا باب مذلة عظيم.

ومنها: بُعد الفرد عن المعاصي فليست المسؤولية مقتصرة على المؤسسات، أو الحكّام، أو العلماء فحسب بل هي على الأفراد أولًا، ومنها بُعد الأفراد والأسر عن الذنوب صغيرها وكبيرها، والمعاصي هي بوابة الشرور والمفاسد، وقد حذَّر المولى سبحانه وتعالى منها، وإذا فعلها الناس استوجبوا العقاب في الدنيا والآخرة.

ومنها: كثرة العبادة في زمن الفتن فهي من أعظم ما يجليها ويبعدها فقد قال عليه الصلاة والسلام: «العبادة في الهرج كهجرة معي» والهرج هو القتل.

أيها المسلمون: وإن مما تمليه هذه الأحداث الوقوف لأخذ العبر، وتذكر الأصول التي تحفظ بها المجتمعات، وتعصم من القواصم، ومن ذلك التذكير بالتمسك بالكتاب والسنة والعض عليهما بالنواجذ فهما الأصلان اللذان يجتمع عليهما المسلمون ولا يجيدون عنها قال تعالى:{ وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ } وقال عليه الصلاة والسلام: «تركت فيكم ما تمسكتم بها لن تضلوا كتاب الله وسنتي».

ومن ذلك التمسك بالجماعة وعدم الشذوذ والفرقة والاختلاف، والخروج عنها فقد قال عليه الصلاة والسلام: «عليكم بالجماعة فإن الشيطان مع الواحد وهو من الاثنين أبعد» وقال أيضا صلى الله عليه وسلم : «ثلاث لا يغل عليهن قلب مسلم: إخلاص العمل لله، ومناصحة أئمة المسلمين، والتمسك بالجماعة، فإن الدعوة محيط من ورائهم» والجماعة هي الاجتماع على ولاة الأمر وعلى علمائهم، وهذا من أعظم العواصم من القواصم، نسال الله أن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن، نفعني الله وإياكم بهدي كتابه وسنة رسوله الله صلى الله عليه وسلم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم الجليل الكريم لي ولكم ولسائر المسلمين، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية:

الحمد لله رب العالمين والعاقبة للمتقين ولا عدوان إلا على الظالمين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن نبينا محمدًا عبده ورسوله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وأصحابه أجمعين والتابعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعد:

فإن مما تبرزه هذه الأحداث ضرورة العودة إلى النفس البشرية وتحديد  القيم التي تتعامل بها كبارًا وصغارًا، رعاة ورعية، ومن ذلك: الإخلاص في العبادة والعمل، والصدق، والشفافية، وحسن الأداء والإتقان،والعدل، وإعطاء الحقوق، وسد ما يخالفها كالحسد، والحقد، والظلم، والتعدي، والإخلال بالأمن، وأكل أموال الناس بالباطل، والرشوة، والربا، والانشغال بالملهيات، والاستهزاء بالدين أو العلماء أو الولاة، كل هذه القيم من أهم المهمات فهي من أسس مقومات المجتمعات ورخائها وقوتها، وعدم الاستهانة بها.

أيها المسلمون: إن الإصلاح مبدأ عظيم وهو من مقررات هذا الدين، والمصلحون هم ورثة الأنبياء والمرسلين لأن الإصلاح  مهمتهم، فقد قال تعالى عن شعيب عليه السلام في مخاطبة لقومه: (ِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ) وقال عليه الصلاة والسلام في شأن هؤلاء المصلحين: «نضر الله امرءًا سمع مقالتي فوعاها فأداها كما سمعها فرب مبلغ أوعى من سامع».

أيها المسلمون: لكن الإصلاح لا يبلغ غايته إلا بأن يكون على منهج الله وشرعه في غايته ووسائله وآدابه، والبُعد عن الوسائل المحرمة في سبيل الإصلاح فحسن الغاية لا يبرر الوسيلة، ومما وقع في هذه الأحداث من حرق النفس، أو التعرض للقتل، واستعمال العنف أو نهب الممتلكات والتعدي على الحقوق، وكل هذه وسائل محرمة لا يجوز أن تكون وسائل إصلاح وإن كان من فعلها خالص النية لكن قد يفتح الباب لمن يعملها، وهذا في منهج الله أمور محرمة يجب الحذر من الوقوع فيها قال تعالى: (وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا) فحرم الإسلام قتل النفس والسرقة والاعتداء والنيل من الإعراض فإذا أريد الإصلاح فلتسلك مسالكه الشرعية ووسائله المرعية.

أيها المسلمون: ومما تبرزه هذه الأحداث التنبه لمكائد الأعداء أيا كانوا فلهم مداخلهم ووسائلهم وهذه لا تدرك إلا بالرجوع إلى أهل العلم، والدراية والخبرة كل في مجاله لئلا يلج إلى المجتمعات العدو، والمنافق، والانتهازي، والمستغل لمناطق الضعف والفوضى وهذا يوجب على أهل الرأي والحكمة والعلم التنبيه لها، وإيقاظ الضمائر لصد الأبواب التي يولج منها بادعاء الإصلاح فمن كان بعيدًا عن الله تعالى فهو عن غيره أبعد، وإن جرت الكلمات المعسولة على كلامه وأجراها على لسانه أو خطتها أنامله وقد حذَّر الله تعالى من كيد الكائدين وعدوان المعتدين.

أيها المسلمون: ومما يؤكد عليه مرة بعد أخرى تفويض الأمور لله سبحانه، وكثرة الإلحاح أن تكون العواقب إلى خير، فكم من حدث أوله مفرح، ونتائجه وخيمة، وقد يكون أوله حزنًا ونتائجه حسنة، لذلك نسأل الله أن يجعل هذه الأحداث خيرًا للإسلام والمسلمين، ثم صلوا وسلموا على البشير النذير كما أمركم الله تعالى في محكم كتابه بقوله سبحانه: (إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليمًا).

 

 



بحث عن بحث