النوع الثاني : عطف طاعة الرسول على طاعة الله مع تكرار فعل الطاعة.

 

 وفي آية النساء بالذات ( يأيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم... إلى آخر الآية) أكثر من دليل على أن للرسول - عليه الصلاة والسلام - طاعة منحها الله إياه فيما يصدر عنه من بيان الكتاب أو غير بيان له، لأنه:

أولاً : كرر العامل وقرن طاعته بطاعته.

 ثانيا : أنه عطف أولي الأمر على الرسول بواو العطف، ولم يكرر العامل عند ذكر أولي الأمر، وذلك دليل على أن أولي الأمر ليس لهم طاعة مستقلة، وليس لهم تشريع يصدر عنهم، وإنما يطاعون فيما شأنه أن يتولوه ويباشروه في إطار من الدين الذي شرعه الله، قرآنا كان أو سنة.

 قال ابن القيم مبينا ذلك : " فأمر تعالى بطاعته وطاعة رسوله، وأعاد الفعل إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب، بل إذا أمر وجبت طاعته مطلقا، سواء كان ما أمر به في الكتاب أو لم يكن فيه، فإنه أوتى الكتاب ومثله معه، ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا، بل حذف الفعل، وجعل طاعتهم في ضمن طاعة الرسول إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول، فمن أمر منهم بطاعة الرسول وجبت طاعته، ومن أمر بخلاف ما جاء به الرسول فلا سمع له ولا طاعة، كما صح عنه - صلى الله عليه وسلم- أنه قال : ( لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق )(1).

وثالثا : ما أبانه تعالى مما يجب أن يتبعه المؤمنون عند التنازع، من وجوب الرد إلى الله والرسول، وكما يكون الرد إلى الله مفهوما منه الرد إلى كتابه الكريم من وقت نزوله إلى يوم القيامة، فكذلك يكون الرد إلى الرسول من وقت تبلغيه إلى أن تقوم القيامة، لأنه لم يزل عنه وصف الرسالة بانتقاله إلى الرفيق الأعلى، ولأنه مبين للكتاب الكريم، ومظهر مراد الله منه(2).

 قال الطبري مشيرًا إلى ذلك في تفسيره لآية المائدة ( وهو أمر من الله بطاعة رسوله في حياته فيما أمر ونهى، وبعد وفاته باتباع سنته، وذلك أن الله عمَّ بالأمر بطاعته، ولم يخصص بذلك في حال دون حال، فهو على العموم – حتى يخص ذلك – ما يجب التسليم له) وبمثل هذا قال الرازي أيضا (3).

 ففي آية النساء من الأوجه التي ذكرتها ما يدل على تأكيد عموم طاعة الرسول، ووجوب طاعته في جميع ما يصدر عنه، وفيها من إشارات القرآن الكريم وبيانه ما يسقط قول القائل: إن وجوب طاعة الرسول فيما نزل عليه من القرآن فقط، لأن قائل هذا مع هذه الآيات الكثيرة يدل بنفسه على نفسه أنه ليس له معرفة باللغة وأسرارها، والقرآن وإشاراته، الأمر الذي يجعل قائل هذا القول أكثر بعدًا عن الحق والصواب؛ لجهله بأساليب القرآن الكريم العربي الفصيح.

 ولقد قال الرازي(4) في تفسيره لآية النساء قولا دقيقا له أهميته، وهو جدير بالنظر والاعتبار، إذ قال بعد أن ذكر أصول الشريعة المستفادة من الآية، وذكر أنها مشتملة على أكثر علم أصول الفقه، قال بعد ذلك ما نصه ( أما الكتاب والسنة فقد وقعت الإشارة إليهما، بقوله تعالى ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) فإن قيل : أليس أن طاعة الرسول هي طاعة الله فما معنى هذا العطف؟ قلنا : قال القاضي: الفائدة في ذلك بيان الدلالتين فالكتاب يدل على أمر الله ثم نعلم منه أمر الرسول لا محالة، والسنة تدل على أمر الرسول ثم نعلم منه أمر الله لا محالة، فثبت بما ذكرناه أن قوله ( أطيعوا الله وأطيعوا الرسول) يدل على وجوب متابعة الكتاب والسنة).

 وللإمام الشيخ محمد عبده(5)في إعادة العامل وهو ( أطيعوا) كلام مأخوذ من الرازي(6) والألوسي (7)، ولأهميته أذكره بنصه ( أمر بطاعة الله وهي العمل بكتابه العزيز وبطاعة الرسول؛ لأنه هو الذي يبين للناس ما نزل إليهم، وقد أعاد لفظ الطاعة لتأكيد طاعة الرسول؛ لأن دين الإسلام دين توحيد محض، لا يجعل لغير الله أمرًا، ولا نهيًا، ولا تشريعا، ولا تأثيرا، فكان ربما يستغرب في كتابه الأمر بطاعة غير وحي الله، ولكن قضت سنة الله بأن يبلغ عنه شرعه للناس رسل منهم، وتكفل بعصمتهم في التبليغ، ولذلك وجب أن يطاعوا فيما يبينون به الدين والشرع.

 مثال ذلك أن الله تعالى هو الذي شرع لنا عبادة الصلاة، وأمرنا بها، ولكنه لم يبين لنا في الكتاب كيفيتها، ولا عدد ركعاتها، ولا ركوعها، ولا سجودها، ولا تحديد أوقاتها، فبينها الرسول - صلى الله عليه وسلم- في مثل قوله ( وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم)[ سورة النحل /44]. فهذا البيان بإرشاد من الله تعالى فاتباعه لا ينافي التوحيد ولا كون الشارع هو الله تعالى وحده).

 وهذا مضمون ما سبق بيانه عند قوله تعالى ( بإذن الله) في قوله : ( وما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله)، فالرسل عامة تجب طاعتهم، ورسولنا - صلى الله عليه وسلم-داخل في وصف الرسالة، وهو بهذا الوصف تجب طاعته.

 غير أن الله تعالى نص على وجوب طاعته استقلالا، اهتماما بأمره، وإن كانت طاعته قد وجبت بالسنة الإلهية في وجوب طاعة الرسل عامة.

 هذا. وإن تعقيب كل الأوامر التي ورد فيها اقتران طاعة الرسول بطاعة الله – في هذه الآيات التي ذكرتها من النوعين كأمثلة – مقترنة بالترغيب في الثواب والوعد بحسن الجزاء، أو الوعيد على معصيته.

 كل ذلك يجعل الأمر في ( أطيعوا) للوجوب، حيث حف بالقرائن من الترغيب والترهيب، ولا يحتمل الندب، بخلاف صيغته عند التجرد من القرائن، فإن بعض المتكلمين والفقهاء يقولون بإفادته الندب، وجمهور العلماء على إفادته الوجوب، لأنه أمر من أعلى إلى أدنى، ومذهب الغزالي التوقف فيه، والأوامر في هذه الآيات جاءت مقترنة بالقرائن التي تمحضها للوجوب قولاًَ واحداً.

 بقى بعد هذا أن أنبه إلى ما يستفاد من تكرار اقتران الأمر بطاعة الرسول مع طاعة الله في كل مناسبة، وقد ورد ذلك في آيات كثيرة من القرآن ذكرت بعضها كأمثلة، دليلا على أن الله تعالى أراد من كل ذلك عموم طاعة الرسول في كل ما يصدر عنه.

 قال الشاطبي (8): وأيضا فإن الله قد قال في كتابه : ( يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولى الأمر منكم)، وقال : ( وأطيعوا الله ورسوله) في مواضع كثيرة، وتكراره يدل على عموم الطاعة بما أتى به مما في الكتاب ومما ليس فيه مما هو من سنته).

وجه الدلالة في هذه الآيات بنوعيها :

أنها أن أخذت بآحادها آية آية كانت:

 من دلالة النص الظاهر على وجوب طاعة الرسول في كل ما يصدر عنه؛ لأن دلالة الأمر على وجوب الطاعة يحتمل التخصيص أو التأويل، ويدفع جميع الاحتمالات عنه ما استفيد من التشريك بواو العطف، وتكرار العامل، وتعدد الأوامر بوجوب الطاعة مصحوبة بالقرائن التي جعلت الأمر للوجوب.

 ومن دلالة الظاهر عند الشافعية، لأن التشريك في الأمر، ودلالته على الوجوب، وعموم الطاعة لم ينشأ كل ذلك عن وضع اللغة، وإنما استفيد من التشريك بواو العطف، أو تكرار العامل، ومن مصاحبة الأوامر والنواهي للقرائن التي جعلتها للإيجاب أو التحريم، ومن العرف أيضا، إذ كان الأمر من أعلى إلى أدنى.


 


(1) - إعلام الموقعين ( 2/89 )، والحديث أخرجه أحمد ( 4/426، 432) .

(2) - انظر : السنة النبوية ومكانتها في التشريع لعباس حمادة ص 53-58.

(3) - انظر : الفخر الرازي ( 3/255).

(4) - الفخر الرازي ( 3/249).

(5) - تفسير المنار ( 5/ 180).

(6) - تفسير الفخر الرازي ( 3/246).

(7) - روح المعاني ( 5/65).

(8) - الموافقات : ( 3/42).

 

 



بحث عن بحث