السنة المستقلة بالتشريع وآراء العلماء فيها(24)

 

 

المثال الثاني : المسح على الخفين

لقد جاء في القرآن الكريم الأمر بالوضوء مع تحديد أعضائه ، وكذلك جاءت السنة بغسل أعضاء الوضوء أيضا ، لكنه لم ينص في القرآن الكريم على المسح على الخفين ، وإنما ثبت المسح على الخفين بالسنة .

روى البخاري ومسلم من حديث المغيرة بن شعبة قال : كنت مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر ، فأهويت لنزع خفيه ، فقال :" دعهما فإني أدخلنهما طاهرتين " فمسح عليهما(1).

وروى البخاري بسنده عن سعد بن أبي وقاص عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه مسح على الخفين ، وأن عبد الله بن عمر سأل عمر عن ذلك ، فقال : نعم ، إذا حدثك شيئا سعد عن النبي صلى الله عليه وسلم فلا تسأل عنه غيره(2).

وقد ذهب عامة أهل العلم إلى جواز المسح على الخفين في السفر والحضر ولو بلا حاجة ، طالما كان لبسهما على طهارة ، ومع اتفاقهم على الجواز اختلفوا في مخرج الحكم :

فذهب جمهور أهل العلم إلى : أن المسح على الخفين ثابت بالسنة ، وهو وغن كان زائدا عن الكتاب الكريم ، إلا أنه ثبت في القرآن الأمر بطاعة رسول الله صلى الله عليه وسلم طاعة مطلقة ، ووجوب الاعتداد ببيانه ، وبيانه يشمل السنة المستقلة كما يشمل السنة المؤكدة والمبينة .

وذهب الفريق الآخر : إلى أن المسح على الخفين ثابت في الكتاب الكريم بثبوت أصليه ، ويظهرون مخرج ذلك بأن غسل الرجلين في قوله تعالى :( يا أيها الذين آمنوا إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا وجوهكم وأيديكم إلى المرافق ( وَامْسَحُواْ بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَينِ... الآية )[ سورة المائدة / 6 ] ، عام لكل متوضئ ، والمسح على الخفين تخصيص لعام الكتاب الكريم ، فهو من العام الذي خصصته السنة ، وذلك لأن آية الوضوء ظاهرها عموم الأمر بغسل أعضاء الوضوء لكل من أراد الصلاة ، ولو لم يحدث ، وقد خصصت السنة ذلك العموم بمن لم يحدث ، غذ صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم بوضوء واحد صلاتين وصلوات ، فدل ذلك على أن فرض الوضوء في الآية على بعض المصلين ، وهم الذين أحدثوا دون من لم يحدثوا ، فهو عام خصصته السنة ، فكذلك كان غسل الرجلين عاما مخصصا بمن لا خفين عليهما ، فإذا كان عليهما خفان فلبسهما شخص على كمال طهارة - على رأي من يشترط ذلك - كان له المسح عليهما .

فتخصيص المسح على الخفين لعموم غسل الرجلين محمول على تخصيص عموم الأمر بغسل أعضاء الوضوء بمن لم يحدث فإنه لا يتوضأ.

فالمسح على الخفين يكون من هذا الوجه من تخصيص العام في الكتاب الكريم بالسنة ، وهو مندرج تحت الوجه الثاني من وجوه بيان السنة للكتاب الكريم كما تقدم(3).


(1) صحيح البخاري ، كتاب الوضوء ، باب المسح على الخفين ( 206 ) وصحيح مسلم ، كتاب الطهارة ، باب المسح على الخفين ( 79 ) .

(2) صحيح البخاري ، كتاب الوضوء ، باب المسح على الخفين ( 202 )

(3) السنة النبوية ومكانتها في التشريع ص 166، 167 ، والرسالة ص66 .



بحث عن بحث