وقفة مع تخرصات المستشرقين وأوهام المستغربين (1-2)

 

        عرضنا فيما سبق لتعريف السنة في اللغة والاصطلاح، وذكرنا استعمالها في القرآن الكريم، ومفهومها في السنة، ولدى سلف الأمة، ونبهنا قبل ذلك على ضرورة إدراك الفوارق بين المعاني اللغوية والمعاني الاصطلاحية، لأن عدم إدراك ذلك، والجهل به، يوقع صاحبه في خلط كثير، ولغط كبير، وهذا ما حدث لمصطلح السنة، فنرى أعداء الإسلام والسنة المطهرة قد استغلوا هذه الفوارق استغلالاً بشعا ينبئ عن حقدهم الدفين على الإسلام وأهله، فهم في هجومهم على السنة المطهرة يركزون على بعض معانيها اللغوية، أو الاصطلاحية، مهملين _عن جهل تارة، وعن علم تارة أخرى_ باقي معانيها الاصطلاحية؛ بغية الوصول إلى هدفهم وغايتهم من التشكيك في حجيتها، وعدم العمل بها، ومن ذلك تركيزهم على معنى السنة في اصطلاح الفقهاء وهي ما ليس بواجب، مما يمدح فاعلها، ولا يذم تاركها(1).

   وهذا التعميم في تعريف السنة محض الضلال(2)؛ إذ فيه صرف لهذه الكلمة عن معناها الاصطلاحي عند المحدثين وعلماء الأصول، وعلى أنها مصدر تشريعي مستقل ملازم للقرآن الكريم في الاحتجاج، وأن الأحكام التكليفية الخمسة تدور فيها، كما تدور في القرآن الكريم بالتمام(3).

   ومن المعاني اللغوية التي يركز عليها أعداء الإسلام في تعريفهم بالسنة؛ معناها الوارد بمعنى الطريقة والسيرة، حسنة كانت أو سيئة، ويعبرون عن ذلك المعنى بالعادة والعرف كما قال المستشرق (جولد تسيهر)(4): (السنة هي جماع العادات والتقاليد الوراثية في المجتمع العربي الجاهلي ؛ فنقلت إلى الإسلام، فأصابها تعديل جوهري عند انتقالها، ثم أنشأ المسلمون من المأثور من المذاهب، والأقوال، والأفعال، والعادات، لأقدم جيل من أجيال المسلمين سنة جديدة)(5). وتابعهم على ذلك سائر من جاء بعده من المستشرقين(6).

   وردد هذا الكلام الدكتور/ على حسن عبد القادر في كتابه(7) (نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي) فقال: (وكان معنى السنة موجوداً في الأوساط العربية قديماً، ويراد به الطريق الصحيح في الحياة للفرد وللجماعة، ولم يخترع المسلمون هذا المعنى، بل كان معروفاً في الجاهلية، وكان يسمى عندهم سنة هذه التقاليد العربية وما وافق عادة الأسلاف. وقد بقى هذا المعنى في الإسلام في المدارس القديمة في الحجاز، وفي العراق أيضاً، بهذا المعنى العام يعني العمل القائم، والأمر المجتمع عليه في الأوساط الإسلامية، والمثل الأعلى للسلوك الصحيح من غير أن يختص ذلك بسنة النبي - صلى الله عليه وسلم- وأخيراً حدد هذا المعنى، وجعلت السنة مقصورة على سنة الرسول - صلى الله عليه وسلم-، ويرجع هذا التحديد إلى أواخر القرن الثاني الهجري، بسبب طريقة الإمام الشافعي التي خالف بها الاصطلاح القديم)(8).

   وأقول: نعم، لفظ السنة ومعناها كانا معروفين في لغة العرب قبل الإسلام ولم يخترع المسلمون هذه الكلمة ولا معناها، ولكن ليس الأمر كما زعم المستشرقون والدكتور على حسن عبد القادر من أن معنى السنة في صدر الإسلام العادة والعرف(9) الجاهلي، أو أنها الطريق الصحيح فقط، وإنما تشمل الطريق الصحيح وغير الصحيح على رأي جمهور علماء اللغة، ويؤيدهم في الإطلاق القرآن الكريم، والأحاديث النبوية، والأشعار الجاهلية، وقد سبق بيان ذلك.

    كما أن استعمال القرآن الكريم والسنة المطهرة لكلمة السنة بالمعنى اللغوي لا يعني ذلك أن هذا المعنى اللغوي (الطريقة)، أو (السيرة)، أو (العادة)، هو المراد شرعاً بالسنة، فهذه الكلمة انتقلت من معناها اللغوي إلى المعنى الاصطلاحي (سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الشاملة لأقواله، وأفعاله، وتقريراته، وصفاته الخلقية والخلقية....) وهي بهذا المعنى مصدر تشريعي ملازم للقرآن الكريم لا ينفك أحدهما عن الآخر.

   وهذا المعنى الاصطلاحي لكلمة السنة كان محدداً ومعلوماً في صدر الإسلام والنبي - صلى الله عليه وسلم- بين ظهراني أصحابه - رضي الله عنهم-،وليس الأمر كما زعم الدكتور/ علي حسن عبد القادر تبعاً للمستشرقين أن هذا المعنى الاصطلاحي للسنة تحدد في أواخر القرن الثاني الهجري...

   ومن المعاني اللغوية التي يركز عليها أعداء الإسلام في تعريفهم بالسنة معناها الوارد بمعنى الطريقة، ثم يعرفون السنة النبوية؛ بأنها الطريقة العملية، أو السنة العملية، أما أقواله وتقريراته وصفاته - صلى الله عليه وسلم- فليست من السنة، وإطلاق لفظ حديث أو سنة على ذلك إنما هو في نظرهم اصطلاح مستحدث من المحدثين، ولا تعرفه اللغة، ولا يستعمل في أدبها، هكذا زعم محمود أبوريه(10) في كتابه (أضواء على السنة المحمدية)(11) تبعاً للدكتور/ توفيق صدقي(12).

   وفي ذلك أيضا ًيقول الدكتور/ المهندس محمد شحرور(13) في كتابه (الكتاب والقرآن قراءة معاصرة): (إن ما اصطلح على تسميته بالسنة النبوية إنما هو حياة النبي صلى الله عليه وسلم كنبي وكائن إنساني عاش حياته في الواقع، بل في الصميم منه، وليس في عالم  الوهم).

   وفي موضع آخر يقول: (من هنا يأتي التعريف الخاطئ برأينا للسنة النبوية بأنها كل ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو أمر، أو نهي، أو إقرار. علماً بأن هذا التعريف للسنة ليس تعريف النبي - صلى الله عليه وسلم- نفسه، وبالتالي فهو قابل للنقاش والأخذ والرد، وهذا التعريف كان سبباً في تحنيط الإسلام، علماً بأن النبي - صلى الله عليه وسلم- وصحابته لم يعرفوا السنة بهذا الشكل، وتصرفات عمر بن الخطاب تؤكد ذلك)(14).

 


 


(1)    البحر المحيط للزركشي 1/284، وإرشاد الفحول للشوكاني 1/155، وأصول الفقه للشيخ محمد الخضري ص 54، وأصول الفقه للشيخ عبد الوهاب خلاف ص 111.

(2)     انظر: تعميم محمود أبو ريه لذلك في أضواء على السنة ص 38.

(3)     انظر: ضوابط الرواية عند المحدثين ص 25، 26بتصرف.

(4)     جولد تسيهر: مستشرق مجري يهودي، رحل إلى سورية وفلسطين ومصر، ولازم بعض علماء الأزهر. له تصانيف باللغات الألمانية، والإنكليزية، والفرنسية. ترجم بعضها إلى العربية، قال الدكتور/ السباعي: " عرف بعدائه للإسلام، وبخطورة كتاباته عنه، ومن محرري دائرة المعارف الإسلامية " كتب عن القرآن والحديث، ومن كتبه: تاريخ مذاهب التفسير الإسلامي" و" العقيدة والشريعة في الإسلام " و " فضائح الباطنية " وغير ذلك مات سنة 1921م له ترجمة في: الأعلام للزركلي 1/284، والاستشراق للدكتور / السباعي ص 31-32، وآراء المستشرقين حول القرآن وتفسيره للدكتور/ عمر إبراهيم 1/161-162.

(5)     العقيدة والشريعة في الإسلام ص 49، 251.

(6)     دائرة المعارف الإسلامية 7/330، وانظر: دراسات في الحديث للدكتور/ الأعظمي 1/5-11، ومنهجية جمع السنة وجمع الأناجيل للدكتورة/ عزية على طه ص 62، 122، 123.

(7)     علي حسن عبد القادر: أستاذ تاريخ التشريع الإسلامي، حاصل على العالمية في الفلسفة من ألمانيا، ومجاز من كلية أصول الدين في قسم التاريخ، وعميد كلية الشريعة بالأزهر الشريف سابقاً، من مؤلفاته: نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي.

(8)     نظرة عامة في تاريخ الفقه الإسلامي ص 122، 123.

(9)     يصح تعريف السنة بالعادة والعرف، ولكن المراد بالعادة في هذه الحالة عادة الرسول - صلى الله عليه وسلم- أي ما عمله، أو أقره، أو رآه، فلم ينكره، وهي في هذه الحالة من الدين. كما تطلق على السيرة العملية لحياة الصحابة - رضي الله عنهم- ولا تعني العادة والعرف السائد في الجاهلية كما يوهمه كلام جولد تسيهر ومن قال بقوله. انظر: حجية السنة للدكتور/ عبد الغني عبد الخالق ص 49-51، والمدخل إلى السنة النبوية لأستاذنا الفاضل الدكتور/ عبد المهدي عبد القادر ص 25-26.

(10)     محمود أبو ريه: كاتب مصري كان منتسباً إلى الأزهر في صدر شبابه، فلما انتقل إلى مرحلة الثانوية الأزهرية أعياه أن ينجح أكثر من مرة، فعمل مصححاً للأخطاء المطبعية بجريدة في بلده، ثم موظفاً في دائرة البلدية حتى أحيل إلى التقاعد، من مصنفاته التي طعن فيها في السنة والصحابة، أضواء على السنة، وقصة الحديث المحمدي، شيخ المضيرة (أبو هريرة) انظر: السنة ومكانتها في التشريع للدكتور/ السباعي ص 466.

(11)     أضواء على السنة ص 39.

(12)     الدكتور/ توفيق صدقي: هو الدكتور محمد توفيق صدقي طبيب بمصلحة السجون بالقاهرة، كتب مقالات في مجلة المنار بعنوان " الإسلام هو القرآن وحده " مات سنة 1920م، ترجم له الشيخ محمد رشيد رضا في مجلة المنار المجلد 483/21 وما بعدها، وانظر: مجلة المنار المجلد 11/774.

(13)     محمد شحرور: كاتب سوري معاصر، حاصل على الدكتوراه في الهندسة من الجامعة القومية الإيرلندية في دبلن. من مؤلفاته: الكتاب والقرآن قراءة معاصرة، والإسلام والإيمان منظومة القيم، والدولة والمجتمع.

(14)     الكتاب والقرآن قراءة معاصرة ص 546-548.



بحث عن بحث