تساؤل:

 قررنا فيما سبق أن السنة وحي كالقرآن، غير أنها وحي غير متلو، الأمر الذي يطرح تساؤلاً وهو: كيف يكون الحديث النبوي منسوبا إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، ثم نقول عنه إنه من الوحي الذي أوحي إليه؟.

 

 والجواب عن هذا التساؤل:

 أن الوحي بالنسبة إلي السنة النبوية ينقسم إلي قسمين:

 الأول: قسم أوحى الله تعالى بمعناه إلي رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وعبر عنه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بألفاظ من عنده، وهذا القسم هو الأعم الأغلب من السنة النبوية المطهرة.

 الثاني: هو ما صدر عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- باجتهاده، وما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم- باجتهاده: إما أن يقر عليه من ربه - عز وجل- وهو الغالب، فيكون بهذا الإقرار منزها عن الخطأ، وإما أن يصوب اجتهاده بنزول الوحي عليه بكتاب أو سنة، ببيان أنه أخطأ، وأن الصواب كذا وكذا، وهو بهذا التصويب عصم من نقص البلاغ، أو تكذيب الواقع لخطابه - صلى الله عليه وسلم-.

 يقول الدكتور/ عبد المهدي: (والوحي إليه - صلى الله عليه وسلم- قسمان:

 أ - إعلامي: وفيه يعلمه الله - سبحانه وتعالى- الشيء بكيفية من كيفيات هذا النوع وستأتي.

 ب - إقراري: وفيه يجتهد - صلى الله عليه وسلم- في المسألة، ويراقبه الوحي، فإن أصاب أقره وإلا نبهه)(1).

 

 كيفيات الوحي الإعلامي:

 وللوحي الإعلامي كيفيات متعددة هي:

 الكيفية الأولي: أن يوحي إليه بواسطة الإلهام، فيلقي الله في قلبه المعاني، مع العلم اليقيني أن هذا من عند الله - سبحانه وتعالى-، وهذه الكيفية هي المرتادة من قول الله - سبحانه وتعالي-: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا)(2)، إذ يقابلها إجمال بقية الكيفيات في قوله سبحانه: (أو من وراء حجاب، أو يرسل رسولا فيوحي بإذنه ما يشاء)، وبهذا قال أكثر المفسرين.

 الكيفية الثانية: أن يكلمه الله - سبحانه وتعالى- من وراء حجاب، فلا يرى - صلى الله عليه وسلم- ربه، وإنما يسمع كلامه - سبحانه وتعالى-، مع اليقين بأنه يكلمه الله تعالى، وهذا مفهوم من قول الله – سبحانه -: (وما كان لبشر أن يكلمه الله إلا وحيا أو من وراء حجاب) فقوله سبحانه: (أو من وراء حجاب) هي الكيفية المذكورة هنا.

 وتكليم الله نبيه - صلى الله عليه وسلم- إما في اليقظة، كما في ليلة الإسراء حين فرض – سبحانه - الصلاة، وإما في النوم كما في حديث (أتاني الليلة ربي تبارك وتعالى في أحسن صورة - قال: أحسبه قال في المنام - فقال: يا محمد هل تدري فيم يختصم الملأ الأعلى؟....الحديث) وفي رواية: (إني قمت من الليل فتوضأت فصليت ما قدر لي فنعست في صلاتي فاستثقلت، فإذا أنا بربي تبارك وتعالي في أحسن صورة فقال: يا محمد، قلت: رب لبيك، قال فيم يختصم الملأ الأعلى.......)(3)

 الكيفية الثالثة: الرؤيا الصادقة، حيث يرى - صلى الله عليه وسلم- الشيء في الرؤيا فيكون كما رأى، لأن رؤيا الأنبياء وحي، وكانت أول مراتب الوحي في حق نبينا الرؤيا الصالحة في النوم. كما جاء في حديث عائشة - رضي الله عنها-: (أول ما بدئ به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح....)(4).

 وواضح من قولها - رضي الله عنها -: (أول ما بدئ به... من الحي الرؤيا الصالحة) أن الرؤيا الصالحة كيفية من كيفيات الوحي، وقد جاء ذلك مصرحا به في أحاديث منها:

 - ما أخرجه البخاري عن عبيد بن عمير بن قتادة، قال: (إن رؤيا الأنبياء وحي، ثم قرأ (إني أرى في المنام أني أذبحك)..)(5).

 - ما أخرجه الحاكم عن ابن عباس قال: (رؤيا الأنبياء وحي)(6).

 الكيفية الرابعة: أن يوحى إليه بواسطة الملك، وقد تمثل له الملك رجلا، فيكلمه بما أمر به من الوحي، فيعي عنه ما يقول، وقد صرح بهذه الكيفية ما جاء في حديث الحارث بن هشام: (... وأحيانا يتمثل لي الملك رجلا فيكلمني فأعي ما يقول)(7).

 وقد كان جبريل - عليه السلام- يأتي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- علي صورة دحية الكلبي، فيبلغه عن الله ما أمره - سبحانه وتعالى- به.

 فعن ابن عمر قال: (وكان جبريل - عليه السلام- يأتي النبي - صلى الله عليه وسلم- في صورة دحية)(8).

 ودحية هذا صحابي جليل، شهد المشاهد مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- خلا بدر، وكان جميل الهيئة.

 وهذه الكيفية نادرة، ومنها حديث جبريل الطويل من رواية عمر بن الخطاب - رضي الله عنه-، والذي سأل فيه رسول الله - صلى الله عليه وسلم- عن الإسلام والإيمان والإحسان والساعة، وفي نهايته قال - صلى الله عليه وسلم-: يا عمر أتدري من السائل؟ قلت: الله ورسوله أعلم. قال: فإنه جبريل أتاكم يعلمكم دينكم(9).

 الكيفية الخامسة: أن يوحى إليه بواسطة الملك ولا يرى الملك، وإنما يعلم بمجيء وحي بظهور علامات تدل على ذلك، من دوي كدوي النحل، أو صلصلة كصلصلة الجرس، فيكلمه الملك بالوحي، وهذه الكيفية يدل لها حديث الحارث بن هشام السابق، وفيه: (أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، وهو أشده علي)، فهي أثقل الكيفيات حتى قالت عائشة -رضي الله عنها-: (ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيصم عنه، وإن جبينه ليتفصد عرقا).

 ويدل لها أيضا حديث عمر: (كان إذا نزل على رسول الله - صلى الله عليه وسلم- الوحي يسمع عند وجهه دوي كدوي النحل....الحديث)(10).

 ومن هذه الكيفية حديث يعلى بن أمية أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو بالجعرانة، وعليه جبة، وعليه أثر الخلوق، وفيه أن يعلى رآه - صلى الله عليه وسلم- حال نزول الوحي محمر الوجه يغط كما يغط البكر...)(11).

 الكيفية السادسة: أن يوحى إليه بواسطة الملك، دون أن يرى الملك، ودون أن يكلمه، وإنما يلقي الملك في قلبه - صلى الله عليه وسلم- ما أمر به من الوحي.

 ومن هذه الكيفية حديث: (إن روح القدس نفث في روعي أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها، فاتقوا الله وأجملوا في الطلب)(12).

 الكيفية السابعة: أن يوحى إليه بواسطة الملك، وقد ظهر الملك على صورته التي خلقه الله عليها، له ستمائة جناح، كل جناح قد سد الأفق.

 روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود قال: رأى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- جبريل في صورته، وله ستمائة جناح، كل جناح منها قد سد الأفق، يسقط من جناحه من التهاويل والدر والياقوت ما الله به عليم.(13)

 ومن هذه الكيفية رؤيته - صلى الله عليه وسلم- جبريل في ليلة المعراج على صورته التي خلق عليها، وفي هذه الليلة أبلغه جبريل عن الله ما أبلغه، وأجابه ورافقه.

 هذه هي كيفيات الوحي الإعلامي، منها ما هو بدون ملك، ومنها ما فيه الملك، ومنها ما يكون في اليقظة، ومنها ما يكون في النوم، والصفة العامة في كل هذه الكيفيات أنه - صلى الله عليه وسلم- يحدث عنده علم يقيني بأن هذا من الله - عز وجل-.

 

 

 


(1) السنة النبوية، مكانتها، عوامل بقائها، تدوينها ص 26.

(2) سورة الشورى / 51.

(3) أخرجه الترمذي من حديث ابن عباس، كتاب التفسير، باب ومن سورة ص رقم (3233، 3234) وقال: هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه. ومن حديث معاذ بن جبل، رقم (3235) وقال: هذا حديث حسن صحيح، ونقل نفس الحكم عن البخاري - رحمه الله تعالي-.

(4) أخرجه البخاري في بدء الوحي، رقم (3).

(5) أخرجه البخاري، كتاب الوضوء، باب التخفيف في الوضوء، رقم (138)، وكتاب الأذان، باب وضوء الصبيان، رقم 859)

(6) المستدرك، كتاب التفسير، تفسير سورة الصافات (2 / 431) وقال: صحيح علي شرط الشيخين، ووافقه الذهبي.

(7) أخرجه البخاري في بدء الوحي، رقم (2).

(8) أخرجه أحمد (2 / 107) وذكر الحافظ في الإصابة (2 / 385) أن النسائي أخرجه أيضا بإسناد صحيح.

(9) أخرجه مسلم، كتاب الإيمان، رقم (1).

(10) أخرجه أحمد (1/ 34).

(11) أخرجه البخاري، كتاب الحج، باب غسل الخلوق ثلاث مرات، رقم (1563).والغطيط: صوت النفس المتردد من النائم أو المغمي.

(12) أخرجه الحاكم، كتاب البيوع، باب إن الله لا ينال فضله بمعصية: (2 / 4) عن ابن مسعود أخرجه شاهدا لحديث جابر الذي ساقه أصلا ثم شاهدا لهذا الأصل، وأخرجه أبو نعيم في الحلية (10 / 26، 27).

(13) المسند (3748) وقال الشيخ شاكر: إسناده صحيح. 



بحث عن بحث