السنة المستقلة بالتشريع وآراء العلماء فيها(15)

 

 

ثانيا : أدلة المنكرين لاستقلال :

اعتمد المنكرون لاستقلال السنة بالتشريع في تقرير مذهبهم على أن القرآن الكريم كلية التشريع وينبوع الأحكام ، وأن السنة راجعة في معناها إلى الكتاب لأنها بيان له فلا تجد في السنة أمرا إلا والقرآن قد دل على معناه دلالة إجمالية أو تفصيلية ، ومسالك هذا الفريق في إرجاع السنة إلى الكتاب متعددة ذكرها الشاطبي ، منها :

المسلك الأول : أن القرآن دل على وجوب العمل بالسنة ، فكل عمل جاءت به السنة عمل بالقرآن ، وممن أخذ بهذه الطريقة الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود .

فقد روى أن امرأة من بني أسد أتته فقالت : يا أبا عبد الرحمن بلغني أنك لعنــت  الواشمات والمستوشمات ، والمتنمصات والمتفلجات للحسن ، المغيرات خلق الله ؟ فقال : وما لي لا ألعن من لعنه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وهو في كتاب الله ؟ فقالت المرأة : لقد قرأت ما بين لوحي المصحف فما وجدته ! فقال : لئن كنت قرأتيه  لوجدتيه ، قال الله عز وجل : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا  )(1).

ومن ذلك أن عبد الرحمن بن يزيد رأى محرما عليه ثيابه فنهاه ، فقال : ائتني بآية من كتاب الله تترع ثيابي ، فقرأ عليــه : (وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا  )(2) .

غير أن الشاطبي ومن سلك مسلكه عرضوا بهذا الوجه ، وقالوا : إنه وجه عام ، قال الشاطبي في هذا : " منها : ما هو عام جدا ، وكأنه جار مجرى أخذ الدليل من الكتاب على صحة العمل بالسنة ولزوم الاتباع لها "(3) .

وأقول : هذا الوجه وإن كان عاما إلا أنه كفيل بإيجاب العمل بكل ما صح عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، ولا يعارضه أحد ممن يقول بالسنة بكل أنواعها ، ولا سيما أنه المسلك الذي سلكه الصحابي الجليل عبد الله بن مسعود وغيره في المجادلة والحاجة .

وقال الشيخ دراز تعليقا على قول الشاطبي في هذا المسلك :" وهذا المأخذ يشبه الاستدلال على إعمال السنة أو هو هو ، ولكنه أدخل مدخل المعاني التفصيلية التي يدل عليها الكتاب من السنة " .

قال في قوله(( ولكنه أدخل .... )) أي سلكوا به مسلك الدال على المعاني التفصيلية التي في السنة ، وجعلوا دلالة السنة على تلك المعاني دلالة للكتاب عليها ، كما رأيت في الآثار المتقدمة ، وإلا ، فليست بذاتها ولا بكليها مدلولا عليها في الكتاب ، وإنما المدلول عليه في الكتاب منها كلى الاعتداد بها ووجوب امتثالها(4).

وقال الدكتور عبد الغني عبد الخالق : " قوله " ولكنه أدخل .... إلخ " لا يفيده في موضوع النزاع شيئا ، فإن النص الدال على حجية السنة لا يقال : إنه نص على الأحكام الفرعية التي ثبتت بالسنة ، كما يقال : إن قوله تعالى : ((وَأَقِيمُواْ الصَّلاَةَ)) نص على وجوبها .

ثم نقول له : إن هذا المأخذ يعكس الأمر ، فيكون القرآن هو المبين لما في السنة ، فإن القرآن دال على حجية السنة ، والمعقول أن الدال هو الذي يبين ما اشــتمل عليه المدلول وما ثبت به ، لا العكس .

وإن أبيت أن المدلول هو المبين للدال ــ قلنا لك : قد ورد في السنة أيضا ما يفيد وجوب العمل بالقرآن ، فيكون القرآن أيضا مبينا لما في السنة على ما ذكرت ولا يصح أن يكون مستقلا ، أفتقول ذلك ؟(5) .


(1) الحديث سبق تخريجه والتعريف بغريبه .

(2) أخرجه الأجري في " الشريعة " صـ 51 ، وابن عبد البر في " جامع بيان العلم " ( 2/ 1182 ـ 1183 رقم 2338 ) بإسناد جيد .

(3) الموافقات ( 4/ 340 ) .

(4) الموافقات ( 4 / 342 ) .

(5) حجية السنة صــ527 .

 



بحث عن بحث