أقسام السنة من حيث علاقتها بالقرآن(4)

 

 

بقية صور بيان السنة للقرآن:

الصورة الرابعة : توضيح المشكل : على معنى أن تكون في القرآن آيات مشكلة ومتعارضة في ظاهرها مع آيات وأحاديث أخرى فتأتي السنة مزيلة وموضحة هذا الإشكال ، ومن أمثلة ذلك :

1ـ قوله سبحانه وتعالى : ((وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً.... )) [سورة البقرة / 143 ] .

فإنها مشكلة مع واقع أمته صلى الله عليه وسلم ، إذ هي متأخرة زمانا ، فكيف تكون شهيدة على الأمم السابقة ؟ وكيف يكون الرسول شهيدا على سائر الرسل السابقين أيضا مع أنه آخرهم زمانا ؟

فجاءت السنة فأزالت هذه الإشكالات ، فعن أبي سعيد الخدري ـ رضي الله عنه ـ قال ، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يجيء النبي ومعه الرجلان ، ويجيء ومعه الثلاثة ، وأكثر من ذلك وأقل ، فيقال له : هل بلغت قومك ؟ فيقول : نعم فيدعى قومه فيقال : هل بلغكم ؟ فيقولون : لا ، فيقال : من يشهد لك ؟ فيقول : محمد وأمته ، فتدعى أمة محمد ، فيقال : هل بلغ هذا ؟ فيقولون : نعم ، فيقول : وما علمكم بذلك ؟ فيقولون : أخبرنا نبينا بذلك : أن الرسل قد بلغوا ، فصدقناه ، قال : فذلكم قوله تعالى : ((كَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِّتَكُونُواْ شُهَدَاء عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً )) (1) .

2ـ قوله تعالى : (وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّواْ الصِّيَامَ إِلَى الَّليْلِ.... )[ سورة البقرة / 187 ] .

فقد فهم بعض الصحابة من الخيط الأبيض والخيط الأسود حقيقتهما وأنه يباح الأكل للصائم حتى تتبين له رؤيتهما .

فجاءت السنة فرفعت هذا الإشكال ، وبينت أن الخيط الأبيض ، والخيط الأسود مجازان عن بياض النهار ، وسواد الليل .

فعن عدي بن حاتم قال :" لما نزلت هذه الآية : ((وَكُلُواْ وَاشْرَبُواْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الأَسْوَدِ)) عمدت إلى عقالين : أحدهما أسود ، والآخر أبيض ، قال : فجعلتهما تحت وسادتي ، قال ، فجعلت أنظر إليهما ، فلما أصبحت غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخبرته بالذي صنعت ، فقال: (إن وسادك لعريض ، إنما ذلك بياض النهار من سواد الليل) " (2) .

3 ـ ما جاء عن أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها قال : " قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ( من حوسب يوم القيامة عذب) ، فقلت : أليس قد قال الله عز وجل : " فسوف يحاسب حسابا يسيرا "؟ فقال : "ليس ذاك الحساب وإنما ذاك العرض ، من نوقش الحساب يوم القيامة عذب " (3) .

فأم المؤمنين عائشة رضي الله عنها ظنت أن الحساب في قوله صلى الله عليه وسلم " من حوسب يوم القيامة عذب " هو بعينه : الحساب المذكور في الآية ، ومن هنا نشأ الإشكال عندها ، فجاءت النبي صلى الله عليه وسلم مستوضحة الأمر ، فبين لها النبي صلى الله عليه وسلم المراد : بأن الحساب في الحديث يراد منه المناقشة ، وفي الآية يراد منه العرض على الله تعالى .

 وبالتالي فلا تعارض ولا إشكال لانفكاك الجهة ، إذا التعارض أو الإشكال إنما يكون إذا اتحدت الجهة ، ولا اتحاد هنا.

رأي العلماء في الوجهين السابقين من علاقة السنة بالقرآن

وهذان الوجهان اللذان سبقا لا خلاف بين العلماء فيهما ، قال الإمام الشافعي موضحا ذلك : ( فلم أعلم من أهل العلم مخالفا في أن سنن النبي من ثلاثة وجوه ، فاجتمعوا منها على وجهين ، والوجهان يجتمعان ويتفرعان :

أحدهما : ما أنـــزل الله فيه نــص كتـــاب ، فبين رســول الله مثل مـــا نــــص الكتــاب .

والآخر : مما أنزل الله فيه جملة كتاب ، فبين عن الله معنى ما أراد .

وهذان الوجهان اللذان لم يختلفوا فيهما (4) ، يقصد السنة الموافقة والسنة المبينة

الوجه الثالث : أن تستقل السنة بتشريع أحكام جديدة ليست في القرآن ، وهذا النوع مثار جدل ومحل خلاف بين العلماء ، فمنهم من قال : جعل الله بما افترض من طاعته ، وسبق في علمه من توفيقه لرضاه ، أن يسن فيما ليس فيه نص كتاب ، ومنهم من قال : لم يسن سنة قط إلا ولها أصل في الكتاب ، ومن أجل هذا الخلاف ومعرفة الراجح فيه سأفرد هذا النوع بمبحث مستقل وهو الآتي إن شاء الله . 


(1) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الأنبياء ، باب قوله تعالى : " إنا أرسلنا نوحا إلى قومه " ، رقم ( 3339 ) وكتاب التفسير ، سورة البقرة ، رقم ( 4487 ) ، والترمذي في السنن ، كتاب التفسير ، سورة البقرة ، رقم ( 2961 ) ، وقال : هذا حديث حسن صحيح ، وابن ماجه في السنن ، كتاب الزهد ، باب صفة أمة محمد صلى الله عليه وسلم ، رقم ( 4284 ) واللفظ له .

(2) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب الصوم ، باب قول الله تعالى : " وكلوا واشربوا حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر " ، رقم ( 4509 ) ، ومسلم في الصحيح ، كتاب الصيام ، باب بيان أن الدخول في الصوم يحصل بطلوع الفجر ، رقم ( 2533 ) .

(3) الحديث أخرجه البخاري في الصحيح ، كتاب العلم ، باب من سمع شيئا فراجع حتى يعرفه ، رقم ( 103 ) ، ومسلم في الصحيح ، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها ، باب إثبات الحساب ، رقم ( 7225 ) .

(4) الرسالة صـ91 ، 92 .

 



بحث عن بحث