أحاديث البيوع (17)

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين وعلى آله وصحبه أجمعين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وبعد:

فقد تحدثنا في الحلقات الماضية عن بعض الأنواع من البيوع الجاهلية التي قد جاء الإسلام بتحريمها لما تشمل الغرر أو الجهالة وأكل أموال المسلمين بالباطل، ولما يؤدي في الغالب إلى النزاع والخصام بين البائع والمشتري.

 وفي هذه الحلقة نتحدث عن نوع آخر من البيوع التي كانت شائعة في الجاهلية، ولها وجود حتى الآن في كثير من البلاد الإسلامية وغير الإسلامية، ولكن الإسلام قد حرّمها لما تشتمل على الغرر والجهالة، ولأنها تؤدي في كثير من الأحيان إلى النزاع والخلاف، ولما فيه من أكل أموال الناس بالباطل، وبالتالي ينشأ الحقد بين المسلمين، وهم مأمورون أن يحب أحدهم لأخيه ما يحب لنفسه من الخير، وأن يكره لأخيه ما يكره لنفسه من الشر، وهذا البيع هو بيع الثمار على الأشجار قبل أن يبدو صلاحها إذا بيعت دون أصولها، روى الإمام البخاري رحمه الله:

عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا(نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثِّمَارِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا)[صحيح البخاري، كتاب الزكاة، باب من باع ثماره أو نخله أو أرضه أو زرعه، رقم الحديث 1487].

وعن عَبْد اللَّهِ بْن دِينَارٍ سَمِعْتُ ابْنَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا( نَهَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَكَانَ إِذَا سُئِلَ عَنْ صَلَاحِهَا قَالَ حَتَّى تَذْهَبَ عَاهَتُهُ) [صحيح البخاري برقم 1486]

وقال البخاري رحمه الله: بَاب بَيْعِ الثِّمَارِ قَبْلَ أَنْ يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَقَالَ اللَّيْثُ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ كَانَ عُرْوَةُ بْنُ الزُّبَيْرِ يُحَدِّثُ عَنْ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَثْمَةَ الْأَنْصَارِيِّ مِنْ بَنِي حَارِثَةَ أَنَّهُ حَدَّثَهُ عَنْ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ كَانَ النَّاسُ فِي عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَتَبَايَعُونَ الثِّمَارَ فَإِذَا جَدَّ النَّاسُ وَحَضَرَ تَقَاضِيهِمْ قَالَ الْمُبْتَاعُ إِنَّهُ أَصَابَ الثَّمَرَ الدُّمَانُ أَصَابَهُ مُرَاضٌ أَصَابَهُ قُشَامٌ عَاهَاتٌ يَحْتَجُّونَ بِهَا فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( لَمَّا كَثُرَتْ عِنْدَهُ الْخُصُومَةُ فِي ذَلِكَ فَإِمَّا لَا فَلَا تَتَبَايَعُوا حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُ الثَّمَرِ كَالْمَشُورَةِ يُشِيرُ بِهَا لِكَثْرَةِ خُصُومَتِهِمْ وَأَخْبَرَنِي خَارِجَةُ بْنُ زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ أَنَّ زَيْدَ بْنَ ثَابِتٍ لَمْ يَكُنْ يَبِيعُ ثِمَارَ أَرْضِهِ حَتَّى تَطْلُعَ الثُّرَيَّا فَيَتَبَيَّنَ الْأَصْفَرُ مِنْ الْأَحْمَرِ) قَالَ أَبُو عَبْد اللَّهِ رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ بَحْرٍ حَدَّثَنَا حَكَّامٌ حَدَّثَنَا عَنْبَسَةُ عَنْ زَكَرِيَّاءَ عَنْ أَبِي الزِّنَادِ عَنْ عُرْوَةَ عَنْ سَهْلٍ عَنْ زَيْدٍ.

ففي هذين الحديثين والآثار النهي عن بيع الثمار حتى يبدو صلاحها، والنهي يشمل البائع والمشتري، فالبائع لا يجوز له أن يبيع الثمار قبل بدو صلاحها والمشتري كذلك لا يقبل شراء الثمار التي على الشجر ولم يبد صلاحها، والحكمة في نهي بيع الثمار قبل بدو صلاحها أنها إذا بيعت قبل وقت الصلاح، فإنها قد تتعرض للآفات والتلف، فالبائع يقول إنه قد باع وبرئت ذمته بعد بيع هذه الثمار التي لم تكن موجودة أصلا عند بيعها، ولا يهمه إلا النقود وقد حصل، وأما المشتري فهو في قلق لأن هذه الثمار التي شراها قد يلحقها الضرر، قد تصيبها آفة من الآفات من الدود أو المرض أو البرد أو مطر شديد فتتلف نهائيا أو تتضرر ضررا بالغا، فالمشتري يطلب من البائع أن يقيل هذا البيع أو يرد له من المبلغ مقابل ما أصاب الثمار من الآفات قبل قطفها، فيحصل النزاع والخصام، فلأجل هذا سدّ الشارع الحكيم هذا الباب وحرم بيعها قبل وقت صلاحها، وهذا يشمل جميع أنواع الثمار.

ومعنى بدو الصلاح: أي ظهور أوائل الصلاح على هذه الثمار.

فالنبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الثمار على رؤوس الأشجار؛ حتى يظهر نضجها، وتأخذ لونها الذي يدل على طيبها وصلاحها.

وقد وردت أحاديث أخرى في هذا المعنى، فعن أَنَس بْن مَالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عَن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (أَنَّهُ نَهَى عَنْ بَيْعِ الثَّمَرَةِ حَتَّى يَبْدُوَ صَلَاحُهَا وَعَنْ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ. قِيلَ: وَمَا يَزْهُو قَالَ: يَحْمَارُّ أَوْ يَصْفَارّ)ُ. [صحيح البخاري، كتاب البيوع، باب بيع النخل قبل أن يبدو صلاحها (2197)]

و حَدَّثَنِي عَلِيُّ بْنُ حُجْرٍ السَّعْدِيُّ وَزُهَيْرُ بْنُ حَرْبٍ قَالَا حَدَّثَنَا إِسْمَعِيلُ عَنْ أَيُّوبَ عَنْ نَافِعٍ عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَهَى عَنْ بَيْعِ النَّخْلِ حَتَّى يَزْهُوَ وَعَنْ السُّنْبُلِ حَتَّى يَبْيَضَّ وَيَأْمَنَ الْعَاهَةَ نَهَى الْبَائِعَ وَالْمُشْتَرِيَ )[صحيح مسلم، كتاب البيوع، باب النهي عن بيع الثمار قبل بدو صلاحها (1535)]

قال النووي رحمه الله: وَالْإِزْهَاء فِي الثَّمَر أَنْ يَحْمَرّ أَوْ يَصْفَرّ , وَذَلِكَ عَلَامَة الصَّلَاح فِيهَا وَدَلِيل خَلَاصهَا مِن الْآفَة. يُقَال إِذَا ظَهَرَتْ الْحُمْرَة أَوْ الصُّفْرَة فِي النَّخْل فَقَدْ ظَهَرَ فِيهِ الزَّهْو, ( وَيَأْمَن الْعَاهَة ) هِيَ الْآفَة تُصِيب الزَّرْع أَوْ الثَّمَر وَنَحْوه فَتُفْسِدهُ.

قَوْله: ( وَعَنْ السُّنْبُل حَتَّى يَبْيَضّ ) فِيهِ دَلِيل على أَنَّهُ يَجُوز بَيْع السُّنْبُل الْمُشْتَدّ.

عَنْ أَنَسٍ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ( نَهَى عَنْ بَيْعِ الْعِنَبِ حَتَّى يَسْوَدَّ وَعَنْ بَيْعِ الْحَبِّ حَتَّى يَشْتَدَّ). [سنن أبي داود، كتاب البيوع، باب في بيع الثمار قبل أن يبدو صلاحها (3371)،سنن الترمذي، كتاب البيوع، باب ما جاء في كراهية بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها (1228)]

وعُبِر عنه في بعض الأحاديث بالمخاضرة, وهى أن يباع الثمر وهو أخضر.

فعَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (نَهَى عَن الْمُزَابَنَةِ وَالْمُخَاضَرَةِ وَقَالَ الْمُخَاضَرَةُ بَيْعُ الثَّمَرِ قَبْلَ أَنْ يَزْهُوَ وَالْمُخَابَرَةُ بَيْعُ الْكَرْمِ بِكَذَا وَكَذَا صَاعٍ). [سنن النسائي، كتاب الأيمان والنذور، (3883)].

قال ابن المنذر: أجمع العلماء على القول بجملة هذا الحديث. أي اتفقوا على النهي من بيع الثمر قبل بدو صلاحها.

ويقول ابن عبد البر: هذه الأحاديث بجملتها؛ تنهى عن بيع الثمار حتى تطعم، حتى تخرج من العاهة، حتى تُزهى، حتى تصفر, وهذه ألفاظ كلها محفوظ عن النبي صلى الله عليه وسلم، ومعناها واحد.

* الأحوال التي تتعلق ببيع الثمرة قبل بدو الصلاح كما قسمها ابن قدامة:

1- أن يشتريها المشتري بشرط إبقائها على رؤوس الأشجار؛ وفي ملك البائع. وهذا البيع فاسد بالإجماع .

2- أن يبيعها بشرط القطع في الحال, فحكمه الجواز؛ لأنها أمنت نزول الآفة عليها. وقال بعدم جوازه وحرمته الثوري وابن أبي ليلى.

      3- باع ثمرة مطلقاً ولم يشترط قطع أو إبقاء, فالبيع باطل عند مالك والشافعي وأحمد خلافاً لأبي حنيفة؛ لأن النهي محمول على بيع الثمار قبل وجودها أصلاً، فإذا وجدت صح البيع؛ ما لم يشترط التبقية في أصل العقد. والأرجح قول الجمهور؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقيده.

ضابط بدو الصلاح:     

المذهب الأول: أن يطيب أكلها ويظهر نضجها على الصفة التي يُطلب عليها، وبدو الصلاح في كل ثمرٍ بحسبه.

المذهب الثاني: أن يدخل الزمان الذي فيه يكون الصلاح عادةً. عن ابن عمر (سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمار. قال: حتى تذهب العاهة. قال: وما ذاك. قال: حين تطلع الثريا).الثريا: نجم في السماء يظهر في شهر آيار، وهو علامة على دخول الصيف، وهو أوان طيب الثمر.

والأرجح القول الأول مع صحة هذا الحديث، وعن زيد بن ثابت؛ إنه كان لا يبيع إلا في هذا الوقت.

أسأل الله تعالى أن يرزقنا الفقه في الدين إنه ولي ذلك والقادر عليه.وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

 



بحث عن بحث