الحديث الثاني

وجوب تعميم الأعضاء في الوضوء

 

عن عبد الله بن عمرو بن العاص، وأبي هريرة، وعائشة - رضي الله عنهم- قالوا: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (ويل للأعقاب من النار).

*    *       *

هذا الحديث من جوامع كلمه- صلى الله عليه وسلم-، ويحتوي على فوائد عظيمة، أوجزها في الوقفات الآتية:

الوقفة الأولى: هذا الحديث له سبب، وذلك فيما رواه البخاري، ومسلم عن عبد الله بن عمرو - رضي الله عنهما-  قال: تخلف النبي - صلى الله عليه وسلم- عنا في سفرة سافرنا، فأدركنا وقد أرهقنا العصر، فجعلنا نتوضأ، ونمسح على أرجلنا، فنادى بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار) مرتين أو ثلاثاً.

وفي رواية لمسلم، قال عبد الله بن عمرو: رجعنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من مكة إلى المدينة، حتى إذا كنا بماء بالطريق تعجل قوم عند العصر، فتوضأوا وهم عجال، فانتهينا إليهم، وأعقابهم تلوح، لم يمسها بالماء، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (ويل للأعقاب من النار، أسبغوا الوضوء).

وروى مسلم عن أبي هريرة - رضي الله عنه- أن النبي - صلى الله عليه وسلم- رأى رجلاً لم يغسل عقبيه فقال: (ويل للأعقاب من النار).

الوقفة الثانية: قوله - صلى الله عليه وسلم-: (ويل) هذه الكلمة من المصادر التي لا أفعال لها، ومثلها: ويح، وهي هنا نكرة غير معرفة، قال الحافظ ابن حجر - رحمه الله-: جاز الابتداء بالنكرة؛ لأنه دعاء. أما معناها فقيل فيها أقوال عدة، منها: أنها كلمة عذاب، وحزن، وهلاك، وقيل إنها صديد أهل النار، وأظهرها أنه واد في جهنم؛ لما روى ابن حبان في صحيحه من حديث أبي سعيد مرفوعاً: (ويل واد في جهنم) اهـ.

زيد في رواية: (لو أرسلت فيه الجبال لماعت من حرّه).

الوقفة الثالثة: قوله (الأعقاب) جمع عقب، وهي مؤخرة القدم، وعقب كل شيء آخره، والمراد: أصحاب الأعقاب، وجاء في رواية لمسلم: (ويل للعراقيب من النار)، وهي جمع عرقوب، وهو العصب الذي فوق عقب الإنسان.

وخص ذكرها في الحديث، وعقابها بالنار؛ لكونها التي لم تغسل غالباً. واللام في (الأعقاب) للعهد، أي الأعقاب التي لا ينالها الماء، قال البغوي: معناه: ويل لأصحاب الأعقاب المقصرين في غسلها.

الوقفة الرابعة: في هذا الحديث دليل على وجوب تعميم الأعضاء في حال الوضوء، وأن ترك بعضٍ منها غير مجزئ لهذا الوعيد الشديد الذي توعد الرسول - صلى الله عليه وسلم- من ترك غسل عقب رجليه.

الوقفة الخامسة: استدل أهل العلم بهذا الحديث على أن الواجب رؤيتهما يلوحان بغير غسل، بل قد جاء في بعض طرق الحديث قوله - عليه الصلاة والسلام-: (أسبغوا الوضوء، ويل للأعقاب من النار)، قال النووي - رحمه الله-: (ولو أن المسح كافياً لما تواعد من ترك غسل عقبيه).

وغسل الرجلين هو المنقول عن النبي - صلى الله عليه وسلم-، قولاً و فعلاً، خلافاً لمن قال بالمسح، أو التخيير بين الغسل والمسح.

ومن ذلك ما رواه الشيخان من حديث حمران مولى عثمان بن عفان، أنه رأى عثمان - رضي الله عنه- دعا بوضوء، فأفرغ على يديه من إنائه، فغسلهما ثلاث مرات، ثم أدخل يمينه في الوضوء، ثم تمضمض، واستنشق، واستنثر، ثم غسل وجهه ثلاثاً، ويديه إلى المرفقين ثلاثاً، ثم مسح برأسه، ثم غسل كلتا رجليه ثلاثاً، ثم قال: رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم- (توضأ نحو وضوئي هذا)، وغير هذا الحديث كثير...

الوقفة السادسة: استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على وجوب نزع الخاتم في الوضوء، فقد ترجم البخاري - رحمه الله- لهذا الحديث بقوله باب: غسل الأعقاب، وكان ابن سيرين يغسل موضع الخاتم إذا توضأ.

وذكر الحافظ ابن حجر - رحمه الله- أنه روي عنه بإسناد صحيح أنه كان إذا توضأ حرك خاتمه، قال ابن حجر: فيحمل على أنه كان واسعاً بحيث يصل الماء إلى خاتمه بالتحريك اهـ.

وهذه مسألة يغفل عنها كثير من الناس، فينبغي التنبه لها.

الوقفة السابعة: استدل بعض أهل العلم بهذا الحديث على الذنوب الصغيرة، أو التي يراها الناس في أعينهم صغيرة، يعذبون عليها، فإن عدم غسل العقب مما قد يظنه بعض الناس أمراً هيناً، ومع ذلك فقد توعد عليه الرسول - صلى الله عليه وسلم-، بالويل وهو واد في جهنم.

الوقفة الثامنة: استدل بهذا الحديث على وجوب تعليم الجاهل، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر، فإن الرسول - صلى الله عليه وسلم- لما رأى هؤلاء المستعجلين لم يغسلوا أعقابهم لم يسكت، فنادى بأعلى صوته: (ويل للأعقاب من النار)، بل كانت هذه حاله - صلى الله عليه وسلم- معلماً ومربياً، داعياً إلى الله تعالى، آمراً بالمعروف، وناهياً عن المنكر، وسيرته العطرة مليئة بالأحداث والوقائع الدالة على ذلك.

 



بحث عن بحث