مثل القلب مثل الريشة

 

عَنْ أَبِي مُوسَى الْأَشْعَرِيِّ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (مَثَلُ الْقَلْبِ مَثَلُ الرِّيشَةِ تُقَلِّبُهَا الرِّيَاحُ بِفَلاةٍ)(1).

 

شرح المفردات(2):

(الرِّيشَةِ): قال الرازي: الريش للطائر، الواحدة: (ريشة)، ويجمع على أرياش.

(تقلبها): قلب الشيء صرفه عن وجه إلى وجه وسمي قلبا لكثرة تقلبه.

(الرياح): جمع ريح.

(بِفَلاَةٍ): الْأَرْض الْخَالِيَة مِن الْعُمْرَان.

 

شرح الحديث:

   قال المناوي نقلاً عن الطيبي: المثل هنا بمعنى الصفة لا القول السائر, والمعنى: صفة القلب العجيبة الشأن وورود ما يرد من عالم الغيب وسرعة تقلبه كصفة ريشة, يعني: أن القلب في سرعة تقلبه لحكمة الابتلاء بخواطر ينحرف مرةً إلى حق, ومرةً إلى باطل, وتارةً إلى خير, وتارةً إلى شر, وهو في مقره لا ينقلب في ذاته غالباً إلا بقاهر مزعج من خوف مفرط.

   وقوله: (تقلبها الرياح بفلاة): أي: بأرض خالية من العمران؛ فإن الرياح أشد تأثيرًا فيها منها في العمران, وجمع الرياح لدلالتها على التقلب ظهرًا لبطن؛ إذ لو استمر الريح لجانب واحد لم يظهر التقلب؛ كما يظهر من الرياح المختلفة.

  وقال الغزالي: إنما كان (القلب) كثير التقلب؛ لأنه منزله الإلهام والوسوسة, وهما أبدًا يقرعانه ويلقنانه, وهو معترك المعسكرين: الهوى وجنوده, والعقل وجنوده, فهو دائمًا بين تناقضهما وتحاربهما, والخواطر له كالسهام لا تزال تقع فيه, كالمطر لا يزال يمطر عليه ليلاً ونهارًا, وليس كالعين التي بين جفنين تغمض وتستريح, أو تكون في ليل أو ظلمة, أو اللسان الذي هو من وراء حجابين الأسنان والشفتين وأنت تقدر على تسكينه, بل القلب عرش الخواطر لا تنقطع عنه بحال, والآفات إليه أسرع من جميع الأعضاء, فهو إلى الانقلاب أقرب؛ ولهذا خاف الخواص على قلوبهم, وبكوا عليها وصرفوا عنايتهم إليها, ومقصود الحديث: أن يثبت العبد عند تقلب قلبه, وينظر إلى همومه بنور العلم, فما كان خيرًا أمسك القلب عليه, وما كان شرًا أمسكه عنه(3).

 

من فوائد الحديث:

1-     قال القاضي أبو بكر بن العربي: القلب جزء من البدن خلقه الله وجعله للإنسان محل العلم والكلام وغير ذلك من الصفات الباطنة وجعل ظاهر البدن محل التصرفات الفعلية والقولية ووكل بها ملكا يأمر بالخير وشيطانا يأمر بالشر فالعقل بنوره يهديه والهوى بظلمته يغويه والقضاء والقدر مسيطر على الكل والقلب ينقلب بين الخواطر الحسنة والسيئة واللمة من الملك تارة ومن الشيطان أخرى والمحفوظ من حفظه الله تعالى(4).

2-     الثبات على دين الله عز وجل نعمة من الله يمن بها على من يشاء من عباده المؤمنين، قال تعالى: (يُثَبِّتُ اللهُ الذين آمنوا بالقَوْلِ الثَّابتِ في الحياةِ الدُّنيا وفي الآخرةِ ويُضِلُّ اللهُ الظالمينَ ويفعلُ اللهُ ما يشاء) (إبراهيم/27).

3-     أن على المسلم أن يعتصم بالله تعالى ويداوم على سؤاله الاستقامة على الطاعة والثبات على الدين، فإنه لا سبيل إلى ثبات القلب وسلامته من التقلب إلا بتثبيت الله تعالى له، ولقد كان أكثر دعاء النبي صلى الله عليه وسلم: (يا مقلب القلوب ثبت قلبي على دينك فقيل له في ذلك ؟ قال : إنه ليس آدمي إلا وقلبه بين إصبعين من أصابع الله فمن شاء أقام و من شاء أزاغ)(5).

 


 


(1)     
سنن ابن ماجه، برقم: (88). والجامع الصغير وزيادته، 1/ 1078، برقم: (10772)، وصحّحه الشيخ الألباني: ينظر صحيح الجامع، برقم: (5833).
(2)     ينظر: فيض القدير للمناوي، 5/ 508.
(3)     ينظر: المرجع السابق، 5/ 508-509.
(4)     ابن حجر، فتح الباري 11/ 527.
(5)     رواه الترمذي من حديث أم سلمة،  وقال الشيخ الألباني : (صحيح) انظر حديث رقم : 4801 في صحيح الجامع.

 



بحث عن بحث