كما تورث دراسة السيرة القلب طمأنينة بالرزق، فالرزاق هو الله، ولا يستطيع مخلوق كائنا من كان أن يتحكم أو يؤثر في رزق مخلوق آخر والله تعالى يقول: (قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ) [سورة سبأ/ 39].

وكم من جائع أطعمه الله من غير سبب ظاهري، أو احتيال بشري.

فعن جابر قال: "بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر علينا أبا عبيدة بن الجراح نتلقى عيراً لقريش، وزودنا جراباً من تمر لم يجد لنا غيره، فكان أبو عبيدة يعطينا تمرة تمرة، قلت: كيف كنتم تصنعون بها؟ قال: كنا نمصها كما يمص الصبي، ثم نشرب عليها من الماء فتكفينا يومنا إلى الليل، وكنا نضرب بعصينا الخبط(1) ثم نبله بالماء فنأكله، فانطلقنا على ساحل البحر، فرفع لنا على ساحل البحر كهيئة الكثيب الضخم، فأتيناه فإذ هو دابة تدعى العنبر، قال أبو عبيدة ميتة!! ثم قال: لا، بل نحن رسل رسول الله صلى الله عليه وسلم،وفي سبيل الله عز وجل، وقد اضطررتم، فكلوا، قال: فأقمنا عليه شهراً، ونحن ثلاثمائة حتى سمنا، ولقد رأيتنا نغترف من وقب عينه بالقلال(2) الدهن،ونقتطع منه الغدر كالثور، أو كقدر الثور، ولقد أخذ منا أبو عبيدة ثلاثة عشر رجلاً فأقعدهم في وقب عينيه، وأخذ ضلعا من أضلاعه فأقامه، ثم رحل أعظم بعير معنا فمر من تحتها، وتزودنا من لحمها وشايق(3)، فلما قدمنا المدينة أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فذكرنا ذلك له، فقال: هو رزق أخرجه الله عز وجل لكم، فهل معكم من لحمه شيء فتطعمونا؟ فأرسلنا إلى رسول الله منه فأكله"(4).

فهذا الحديث فيه كثير من العظات والعبر لمن أراد أن يتذكر أو يعتبر، فلقد رزق الله الكريم عباده الصادقين، رزقا طيبا حلالاً، غير حالهم من الجوع إلى الشبع، ومن الضعف إلى القوة، فبعد أن كانوا يمصون كل يوم تمرة، بل ونفد التمر،فيأكلون ورق الشجر، إذ بفرج الله يأتيهم فيأكلون الكثير من اللحم، بل ويدهنون، وسبحان الله الرزاق ذي القوة المتين.

فدارس السيرة يعتبر لأنه يجد صوراً واقعية لما في القرآن الكريم من وعد الله لعباده المؤمنين في قوله: (إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنْ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ) [سورة الحج /38]، وفي قوله: (وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ) [ سورة الطلاق / 2-3 ]،  والكثير من الآيات القرآنية، مما يدعو كل صاحب عقل إلى الاتعاظ والعبرة.

يقول أحد الباحثين: " من أهم ثمرات دراسة التاريخ – والسيرة جزء منه – التعرف على السنن الربانية في الكون، فإن لله سننا في خلقه أرشدنا إليها، وطلب منا التعامل معها، قال تعالى: (قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ) [سورة آل عمران / 137].

والتاريخ بما يحوي من الحوادث المتشابهة، والمواقف المتماثلة، يساعد على كشف هذه السنن، التي هي غاية في الدقة والعدل والثبات، وفي إدراكنا للسنن الربانية فوائد عظيمة، حتى لو لم نقدر على تفادي حدوثها، والنجاة منها، حيث يعطينا هذا الإدراك والمعرفة صلابة في الموقف، بخلاف من يجهل مصدر الأحداث، فإن الذي يعلم تكون لديه بصيرة وطمأنينة، أما الذي يجهل فليس لديه إلا الحيرة والخوف والقلق(5).


 

(1)    الخبط – بفتح الخاء والباء – ورق الشجر الساقط من ضرب الشجر بالعصا.
(2)    القلال جمع قلة، وهي الجرة الكبيرة التي يحملها الرجل بين يديه.
(3)    الوشايق هو اللحم يؤخذ فيغلي إغلاء ولا ينضح ويحمل في الأسفار، واحدها وشيقة.
(4)    الحديث أخرجه البخاري في صحيحه، كتاب المغازي، باب غزوة سيف البحر ( 4360 )، ومسلم في صحيحه واللفظ له، كتاب الصيد، باب إباحة ميتات البحر ( 4998 ).
(5)    منهج كتابة التاريخ الإسلامي لمحمد بن صامل السلمي ص 54 ط: دار الوفاء.

 



بحث عن بحث