ضوابط قيم الإسلام الخلقية ( 5- 10).

 

وهذا منطبق في القيم الخلقية تماماً, فالصدق مثلاً حسن في ذاته, والأصل ترتب المصلحة على الأخذ به والتزامه, ولكن قد يختلف هذا الأثر في بعض الأوقات أو مع بعض الأشخاص, لذا جاء الإذن بالكذب في بعض الأحوال:

فعن أم كلثوم (1)  بنت عقبة بن أبي معيط أنها سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول: (ليس الكذاب الذي يصلح بين الناس فينمي خيراً, أو يقول خيراً) (2)

وعن أسماء بن يزيد (3)  قالت: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يصلح الكذب إلا في ثلاث: يحدث الرجل امرأته ليرضيها, والكذب في الحرب والكذب ليصلح بين الناس) (4) .

وفي قوله عليه الصلاة والسلام: (لا يصلح الكذب إلا ....) دليل على صلاحه في هذه المواطن لما يترتب عليه من مصالح أعظم من مفسدة الكذب.

وفي المقابل فإن بعض الأفعال القبيحة في ذاتها قد يعرض لها ما يسوغ الأخذ بها, وفي هذا يقول العز بن عبد السلام (5)  :" الغيبة مفسدة محرمة, لكنها جائزة إذا تضمنت مصلحة واجبة التحصيل أو جائزة التحصيل – وذكر لذلك أمثلة منها- أن يشاور في مصاهرة إنسان، فذكره بما يكره, كما قال عليه الصلاة والسلام:( أن أبها جهم (6)  ضرّاب للنساء، وأن معاوية (7) صعلوك لا مال له(8) , فذكرهما بما يكرهانه نصحاً لها، ودفعاً لضيق العيش مع معاوية، وتعريضاً لضرب أبي جهم, فهذا جائز, والذي يظهر لي أنه واجب لأمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالنصح لكل مسلم" (9)

وقال أيضاًَ:" النميمة مفسدة محرمة, لكنها جائزة إذا تضمنت مصلحة واجبة التحصيل أو جائزة التحصيل, ويدل على ذلك قوله تعالى: (وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ) [ القصص: 20] الآية، وكذلك ما نقله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم عن المنافقين" (10) .

وتبرز أهمية النظر في الحلال والحرام أيضاً عند تعارض القيم الخلقية, فيلتبس ما حقه التقديم بغيره.

ومما يعين على سلوك الطريق الأسلم, النظر في درجة الوجوب, فيترك الأقل للأعلى, والمستحب للمتعين, وفرض الكفاية لفرض العين, وهكذا...

كما أنه قد يترتب على القيام ببعض الفضائل تلبس ببعض المحظورات, أو إيقاع طرف آخر في ذلك, ففي الحديث أن أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم وهو واقف بعرفة, فأخذ بطرف ردائه فسأله إياه, فأعطاه وذهب, -وفيه- أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إني لأعطي الرجل العطية فينطلق بها تحت إبطه, وما هي إلا النار), فقال عمر: ولم تعط يا رسول الله ما هو نار؟ فقال: أبى الله لي البخل, وأبوا إلا مسألتي ) (11).

ولتبين الموقف الصحيح في مثل هذه الحال ينظر في مقدار المصالح والمفاسد, ويرجح الراجح منهما.

قال شيخ الإسلام:" القاعدة العامة فيما إذا تعارضت المصالح والمفاسد والحسنات والسيئات أو تزاحمت, فإنه يجب ترجيح الراجح منها.., فإن الأمر والنهي وإن كان متضمناً لتحصيل مصلحة ودفع مفسدة فينظر في المعارض له، فإن كان الذي يفوت  من المصالح أو يحصل من المفاسد أكثر لم يكن مأموراً به، بل يكون محرماً إذا كانت مفسدة أكثر من مصلحته, ولكن اعتبار مقادير المصالح والمفاسد هو بميزان الشرع, فمتى قدر الإنسان على اتباع النصوص لم يعدل عنها، وإلا اجتهد برأيه لمعرفة الأشباه والنظائر"(12).


(1)  أم كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط القرشية الأموية, أسلمت قديماً, وهي أخت عثمان لأمه, ماتت في خلافة علي, أسد الغابة(6/386) الإصابة( 4/467) تقريب التهذيب ص 758.

(2)  متفق عليه, ابن حجر الفتح (5 / 299) النووي شرح صحيح مسلم (5 / 464) قال النووي: تعليقاً على هذا الحديث: اختلفوا في المراد بالكذب المباح فيها ما هو. فقالت طائفة: هو على إطلاقه, فأجازوا قول ما لم يكن في هذه المواضع للمصلحة, قالوا: الكذب المذموم ما فيه مضرة, قالوا: ولا خلاف أنه لو قصد ظالم قتل رجل عنده مختفي وجب عليه الكذب في أنه لا يعلم أين هو, وقال آخرون: لا يجوز الكذب في شيء أصلاً, قالوا: وما جاء من الإباحة في هذا المراد به التورية واستعمال المعاريض لا صريح الكذب, المرجع نفسه ص 464-465, ولعل الأقرب هو ما دل عليه ظاهر الحديث من جواز الكذب في هذه المواطن, الكذب الذي لا يترتب عليه إهمال واجب أو فعل محرم، كالمخادعة في منع ما عليه أو أخذ ما ليس له من زوجته, وإنما في مثل إظهار الود والمحبة ونحو ذلك, فإن الأول وهو المخادعة محرم بإجماع المسلمين كما ذكر ذلك النووي رحمه الله، وعلى كل حال ففي التورية مندوحة عن الكذب والأخذ بها أفضل.

(3)  هي أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأوسية, من بني عبد الأشهل شهدت اليرموك وقتلت تسعة من الروم بعمود فسطاطها, وعاشت بعد ذلك دهراً, أسد الغابة( 6/18) الإصابة (4/229).

(4)  رواه الترمذي, المباركفوري، تحفة الأحوذي (6/ 68-69) انظر: الألباني– صحيح الجامع الصغير (6/ 238).

(5) هو عبد العزيز بن عبد السلام السلمي, ففيه شافعي مجتهد, يلقب بسلطان العلماء, توفي سنة 660هـ, شذرات الذهب (5/301 )الإعلام( 4/21).

(6)  هو عمار وقيل عبيد بن حذيفة بن غانم القرشي العدوي, أسلم عام الفتح ومات في خلافة ابن الزبير, وقيل في آخر خلافة معاوية, أسد الغابة( 5/59)الإصابة( 4/35).

(7)  هو معاوية بن أبي سفيان: صخر بن حرب القرشي الأموي, أبو عبد الرحمن أمير المؤمنين, أسلم قبل الفتح, وكتب الوحي لرسول الله صلى الله عليه وسلم مات سنة 60 هـ, البداية والنهاية( 8/117) الإصابة( 3/312).

(8)  رواه مسلم, النووي شرح صحيح مسلم (3 / 693, 700).

(9)  عبد العزيز بن عبد السلام – قواعد الأحكام في مصالح الأنام (1/ 97)

(10)  عبد العزيز بن عبد السلام – قواعد الأحكام (1 / 97-98).

(11)  رواه أحمد والترمذي, أحمد البنا – الفتح الرباني بترتيب مسند الإمام أحمد بن حنبل الشيباني (9 / 108-109).

انظر: الألباني, صحيح الترغيب والترهيب (1 / 337-338) المكتب الإسلامي – بيروت, ط2 سنة 1406هـ.

(12)  ابن تيمية – الحسبة في الإسلام ص 64-65.

 



بحث عن بحث