حديث (اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري...)

 

قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار من صحيحه: حدثنا إبراهيم بن دينار حدثنا أبو قطن عمرو بن الهيثم القطعي عن عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون عن قدامة بن موسى عن أبي صالح السمان عن أبي هريرة رضي الله عنه  قال: كان رسول الله صلى الله عليه  يقول: ((اللهم أصلح لي ديني الذي هو عصمة أمري، وأصلح لي دنياي التي فيها معاشي، وأصلح لي آخرتي التي فيها معادي، واجعل الحياة زيادة لي في كل خير، واجعل الموت راحة لي من كل شر)).

المبحث الأول: التخريج:

هذا الحديث انفرد بإخراجه مسلم عن البخاري، فأخرجه في هذا الموضع من صحيحه، ولم يروه من غير هذه الطريق ولم يكرره، وروى النسائي أوله قبيل (كتاب الجمعة) من سننه فقال: أخبرنا عمرو بن سواد بن الأسود بن عمرو وقال حدثنا ابن وهب قال أخبرني حفص بن ميسرة عن موسى بن عقبة عن عطاء بن أبي مروان عن أبيه: أن كعباً حلف له بالله الذي فلق البحر لموسى إنا لنجد في التوراة أن داود نبي الله صلى الله عليه  كان إذا انصرف من صلاته قال: ((اللهم أصلح لي ديني الذي جعلته لي عصمة، وأصلح لي دنياي التي جعلت فيها معاشي، اللهم إني أعوذ برضاك من سخطك، وأعوذ بعفوك من نقمتك، وأعوذ بك منك، لا مانع لما أعطيت، ولا معطي لما منعت، ولا ينفع ذا الجد منك الجد))، قال: وحدثني كعب أن صهيباً حدثه أن محمداً صلى الله عليه  كان يقولهن عند انصرافه من صلاته. وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) في ترجمة كعب الأحبار بمثله.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ مسلم إبراهيم بن دينار، قال الحافظ ابن حجر في (التقريب): إبراهيم بن دينار البغدادي، أبو إسحاق التمار، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وثلاثين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال مسلم وحده.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع يحيى بن حماد، وحجاج بن محمد، وعمرو بن الهيثم، وأبا عاصم، ورجاء، وابن علية، وابن عيينة، وعبيد الله بن موسى روى عنه مسلم.

وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): وعنه مسلم، وأبو زرعة، وموسى بن حماد، وأبو يعلى، وعبد الله بن أحمد بن حنبل، وعدة. ونقل توثيقه عن أبي زرعة، ومحمد بن إبراهيم بن جنادة، وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات).

الثاني: أبو قطن عمرو بن الهيثم، قال الحافظ في (التقريب): عمرو بن الهيثم بن قطن ـ بفتح القاف والمهملة ـ القطعي ـ بضم القاف وفتح المهملة ـ أبو قطن البصري، ثقة، من صغار التاسعة، مات على رأس المائتين، ورمز لكون البخاري روى عنه في الأدب المفرد، ولكونه من رجال الجماعة سوى البخاري.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): من أهل بغداد، سمع شعبة، وعبد العزيز بن أبي سلمة. روى عنه إبراهيم بن دينار، ومحمد بن حرب الواسطي. ونقل الحافظ في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن الشافعي، وابن المديني، وابن معين، وصالح بن محمد البغدادي. وقال الحافظ: وذكره مسلم بن الحجاج في الطبقة الثالثة من ثقات أصحاب شعبة مع وكيع، ويزيد بن هارون، وغيرهما.

الثالث: عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون، قال الحافظ في (التقريب): عبد العزيز بن عبد الله بن أبي سلمة الماجشون ـ بكسر الجيم بعدها معجمة مضمومة ـ المدني، نزيل بغداد، مولى آل الهدير، ثقة، فقيه، مصنف، من السابعة، مات سنة أربع وستين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): الفقيه أحد الأعلام، مولى آل الهدير التميمي، نزيل بغداد، روى عن أبيه، وعمه يعقوب، ومحمد بن المنكدر، والزهري، وقدامة بن موسى، وغيرهم سماهم. وقال: وعنه ابنه عبد الملك، وزهير بن معاوية، وابن وهب، وابن مهدي، ووكيع، وأبو قطن، وشبابة، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن أبي زرعة، وأبي حاتم، وأبي داود، والنسائي، وابن سعد، وأحمد بن صالح، وأبو بكر البزار.

الرابع: قدامة بن موسى، قال الحافظ في (التقريب): قدامة بن موسى بن عمر بن قدامة بن مظعون الجمحي، المدني، إمام المسجد النبوي، ثقة عمَّر، من الخامسة، مات سنة ثلاث وخمسين ومائة، ورمز لكون البخاري روى له تعليقاً، ولكونه من رجال مسلم، وأبي داود، والترمذي، وابن ماجه.

وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن ابن عمر، وأنس، وأبيه موسى، وأيوب ويقال: محمد بن الحصين، وأبي صالح السمان، وسالم بن عبد الله بن عمر، وعمرو بن ميمون بن مهران، وأبي جعفر محمد بن عليّ بن الحسين. وعنه أخوه عمر، وابنه إبراهيم، وابن جريج، وسليمان بن بلال، ووهيب، وغيرهم سماهم.

 وقال الحافظ: قلت: في صحة سماعه من ابن عمر نظر، فقد أخرج له الترمذي حديثاً، فأدخل بينه وبين ابن عمر ثلاثة أنفس. ونقل توثيقه عن ابن معين، وأبي زرعة. وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات). وقال: كان إمام مسجد رسول الله صلى الله عليه .

 وقال: وقال الزبير بن بكار: عمِّر قدامة بن موسى، وكان ثبتاً. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) بعد أن ذكره ممن انفرد به مسلم: سمع أبا صالح السمان في الدعاء، روى عنه عبد العزيز بن الماجشون.

الخامس: أبو صالح السمان، تقدم في رجال إسناد الحديث السادس.

السادس: أبو هريرة رضي الله عنه  وقد تكرر ذكره.

المبحث الثالث: لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) ثلاثة من رجال الإسناد اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم وهم: أبو هريرة رضي الله عنه ، وأبو صالح السمان، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون. والثلاثة الباقون انفرد مسلم عن البخاري في الإخراج لهم.

(2) أربعة من رجال الإسناد مدنيون وهم: أبو هريرة، وأبو صالح السمان، وقدامة بن موسى، وعبد العزيز بن أبي سلمة الماجشون. وعبد العزيز مدني نزل بغداد، وعمرو بن الهيثم بصري سكن بغداد، وإبراهيم بن دينار بغدادي.

(3) عمرو بن الهيثم له في صحيح مسلم حديثان، أحدهما هذا، والثاني في فضل الصف الأول، كما ذكر ذلك ابن حجر في ترجمته في (تهذيب التهذيب).

(4) في الإسناد ثلاثة اشتهروا بكناهم وهم: أبو هريرة رضي الله عنه ، وأبو صالح السمان، وأبو قطن عمرو بن الهيثم.

(5) قدامة بن موسى إمام المسجد النبوي وهو من المعمرين. قال الحافظ ابن حجر في ترجمته في (التقريب): ثقة عمِّر. وقال في (تهذيب التهذيب): وقال الزبير بن بكار: عمّر قدامة بن موسى وكان ثبتاً. انتهى. وقد ألف الذهبي في المعمرين مصنفاً خاصاً.

(6) في الإسناد تابعيان وهما: أبو صالح السمان، وقدامة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

(7) في الإسناد صيغتان هما: التحديث في موضعين، والعنعنة في أربعة مواضع.

(8) قدامة بن موسى له في صحيح مسلم هذا الحديث الواحد، قال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) بعد أن ذكره فيمن انفرد به مسلم: سمع أبا صالح السمان في الدعاء، روى عنه عبد العزيز بن الماجشون.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) اشتمل هذا الحديث على خمس جمل طلبية: الجملة الأولى: فيها سؤال العبد ربه أن يصلح له دينه الذي فيه عصمة أمره. والجملة الثانية: فيها سؤاله ربه إصلاح دنياه. والثالثة: فيها سؤاله ربه أن يصلح له آخرته. والرابعة: سؤاله أن تكون حياته الدنيوية مباركة معمورة بالأعمال الصالحة. والخامسة: سؤال العبد ربه أن يريحه عند الموت من كل شر، ليكون كل ما يحصل له خيراً.

والجملة الأولى جامعة مشتملة على ما تتضمنه الجمل الأربع بعدها، لأن من وفق لصلاح الدين حصلت له سعادة الدنيا والآخرة، وكانت حياته مباركة وعاقبته حميدة كما قال تعالى:( وَمَن يَعْتَصِم بِاللّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ(، وإنما ذكرت الجمل الأربع مع أن الجملة الأولى شاملة لها، لأن المقام مقام دعاء وتضرع إلى الله. والله يحب من عباده أن يدعوه وأن يلحوا في دعائهم.

قال ابن القيم ـ رحمه الله ـ في (جلاء الأفهام في الصلاة والسلام على خير الأنام) في معرض كلامه على حديث كيفية الصلاة على النبي صلى الله عليه : والجملة الطلبية إذا وقعت موقع الدعاء والسؤال، كان بسطها وتطويلها أنسب من اختصارها وحذفها، ولهذا يشرع تكرارها وإبداؤها وإعادتها، فإنها دعاء، والله يحب الملحين في الدعاء، ولهذا تجد كثيراً من أدعية النبي صلى الله عليه  فيها من بسط الألفاظ، وذكر كل معنى بصريح لفظه، دون الاكتفاء بدلالة اللفظ الآخر عليه ما يشهد لذلك كقوله صلى الله عليه  في حديث عليّ الذي رواه مسلم في صحيحه: ((اللهم اغفر لي ما قدمت وما أخرت، وما أسررت وما أعلنت، وما أنت أعلم به مني، أنت المقدم وأنت المؤخر، لا إله إلا أنت...))، ومعلوم أنه لو قيل: اغفر لي كل ما صنعت كان أوجز، ولكن ذكر ألفاظ الحديث في مقام الدعاء، والتضرع، وإظهار العبودية والافتقار، واستحضار الأنواع التي يتوب العبد منها تفصيلاً، أحسن وأبلغ من الإيجاز والاختصار.

وكذلك قوله في الحديث الآخر: ((اللهم اغفر لي ذنبي كله، دقه وجله، سره وعلانيته، أوله وآخره))، وفي الحديث: ((اللهم اغفر لي خطيئتي، وجهلي، وإسرافي في أمري، وما أنت أعلم به مني، اللهم اغفر لي جدي، وهزلي، وخطئي، وعمدي، وكل ذلك عندي)). وهذا كثير في الأدعية المأثورة، فإن الدعاء عبودية لله وافتقار إليه، وتذلل بين يديه، فكلما كثّره العبد وطوّله، وأعاده وأبداه، ونوّع جمله، كان ذلك أبلغ في عبوديته، وإظهار فقره وتذلـله، وكان ذلك أقرب له من ربه وأعظم لثوابه، وهذا بخلاف المخلوق، فإنك كلما أكثرت سؤاله وكرّرت حوائجك عليه، أبرمته وأثقلت عليه، وهنت عليه، وكلما تركت سؤاله كان أعظم عنده وأحب إليه. والله سبحانه كلما سألته كنت أقرب إليه، وأحب إليه، وكلما ألححت عليه في الدعاء أحبك، ومن لم يسأله يغضب عليه.

 

            فالله يغضب إن تركت سؤاله       وبني آدم حين يسأل يغضب

 

فالمطلوب يزيد بزيادة الطلب وينقص بنقصانه. انتهى كلام ابن القيم رحمه الله.

(2) هذا الحديث لا يدل على جواز الدعاء بالموت، وإنما يدل على الدعاء بحسن الخاتمة، وصلاح العاقبة.

قال الصنعاني في (سبل السلام): وليس فيه دلالة على جواز الدعاء بالموت، بل إنما دل على سؤال أن يجعل الموت في قضائه عليه، ونزوله به، راحة من شرور الدنيا وشرور القبر، لعموم (كل شر) أي من كل شر قبله وبعده.

(3) في الحديث شاهد لما يعرف في علم البلاغة باللف والنشر المرتب، وذلك أنه حصل ذكر الدنيا ثم الآخرة ثم ذكرت الحياة الدنيوية وبعدها الموت الذي هو بدء الحياة الأخروية، فالترتيب في الجملتين الآخيرتين على وفق ترتيب الجملتين قبلهما.

(أ) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) مشروعية الدعاء.

(2) دعاء العبد ربه أن يصلح له دينه.

(3) الدعاء بإصلاح دنيا العبد وآخرته.

(4) أن صلاح دين العبد فيه عصمته ونجاته.

(5) اهتمام العبد بما فيه سعادته الدنيوية والأخروية.

(6) أن البسط والتكرار في الدعاء أولى من الإيجاز والاختصار.

(7) الإيمان بالبعث.

(8) تنبيه العبد إلى التزود من الأعمال الصالحة في الحياة.

(9) أنه في الدعاء يبدأ بالأهم.

(10) الدعاء بحسن الخاتمة.

وإلى هنا انتهى ما يسر الله جمعه وتحريره من الكلام على عشرين حديثاً من صحيح الإمام أبي الحسين مسلم بن الحجاج القشيري النيسابوري ـ رحمه الله ـ بعد التمهيد لها بترجمة مختصرة له وتعريف موجز بصححيه.

وكان الفراغ من ذلك في مساء يوم الجمعة الموافق السابع والعشرين من شهر صفر سنة إحدى وتسعين بعد الثلاثمائة والألف في دار الهجرة. والحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله وخليله وخيرته من خلقه محمد بن عبد الله وعلى آله وأصحابه ومن سلك سبيله واهتدى بهديه إلى يوم الدين.

 



بحث عن بحث