حديث (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل......)

 

 

قال الإمام مسلم رحمه الله في كتاب المساجد ومواضع الصلاة من صحيحه: حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم ـ واللفظ لأبي بكر ـ قال إسحاق: أخبرنا، وقال أبو بكر: حدثنا زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مُرة عن عبد الله بن الحارث النجراني قال: حدثني جندب قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم  قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلاً، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، ألا وإن من كان قبلكم كانوا يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد إني أنهاكم عن ذلك)).

المبحث الأول: التخريج:

هذا الحديث انفرد مسلم عن البخاري بإخراجه، فأخرجه في هذا الموضع من صحيحه عن جندب بن عبد الله رضي الله عنه ولم يكرره، وقد أخرجه أبو عوانة في مستخرجه على صحيح مسلم فقال: حدثنا أبو داود الحراني قال حدثنا عبد الله بن جعفر بن غيلان (ح) وحدثنا أبو أمية قال حدثنا زكريا بن عدي قالا حدثنا عبيد الله بن عمرو عن زيد بن أبي أنيسة عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث قال حدثني جندب أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم  قبل أن يموت بخمس وهو يقول: ((قد كان لي فيكم إخوة وأصدقاء، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل، وإن الله عزوجل قد اتخذني خليلاً كما اتخذ إبراهيم خليلا، ولو كنت متخذاً من أمتي خليلا لاتخذت أبا بكر خليلا، ألا من كان قبلكم يتخذون قبور أنبيائهم وصالحيهم مساجد، ألا فلا تتخذوا القبور مساجد فإني أنهاكم عن ذلك))، وهذا الحديث يشتمل على أمرين:

(أحدهما) إثبات منقبة عظيمة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، و(الثاني) النهي عن اتخاذ القبور مساجد.

أما منقبة الصديق رضي الله عنه فقد عدها السيوطي في كتابه (الأزهار المتناثرة في الأحاديث المتواترة) عدّها من قبيل المتواتر فقال: حديث ((لو كنت متخذاً خليلا غير ربي لاتخذت أبا بكر خليلا)) أخرجه الشيخان عن أبي سعيد، وابن عباس، والبخاري عن ابن الزبير، ومسلم عن ابن مسعود وجندب البجلي، والترمذي عن أبي المعلى وأبي هريرة، والبزار عن أنس، والطبراني عن ابن عمر وابن عباس وأبي واقد وعائشة. انتهى. وأما النهي عن اتخاذ القبور مساجد فقد ورد فيه أحاديث كثيرة في الصحيحين وغيرهما، وحديث جندب بن عبد الله البجلي هذا، أورده المجد بن تيمية في المنتقى، وقال الشوكاني في تخريجه: وفي الباب عن عائشة عند الشيخين، والنسائي وعن أبي هريرة عند الشيخين، وأبي داود والنسائي وعن ابن عباس عند أبي داود والترمذي وحسنه، وله حديث آخر عند الشيخين والنسائي، وعن أسامة بن زيد عند أحمد والطبراني بإسناد جيد، وعن زيد بن ثابت عند الطبراني بإسناد جيد أيضاً، وعن ابن مسعود عند الطبراني بإسناد جيد أيضاً، وعن أبي عبيدة بن الجراح عند البزار، وعن عليّ عند البزار أيضاً، وعن أبي سعيد عند البزار أيضاً وفي إسناده عمر بن صهبان وهو ضعيف، وعن جابر عند ابن عدي.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول والثاني: شيخا مسلم  أبو بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم بن راهويه، وقد مر ذكرهما في رجال إسناد الحديث الأول.

الثالث: زكريا بن عدي، قال الحافظ في (التقريب): زكريا بن عدي بن الصلت التيمي مولاهم، أبو يحيى نزيل بغداد ـ وهو أخو يوسف ـ ثقة جليل يحفظ، من كبار العاشرة، مات سنة إحدى عشرة أو اثنتى عشرة ومائتين. ورمز لكونه من رجال البخاري في (الأدب المفرد)، ومسلم، وأبي داود في (المراسيل)، والترمذي، والنسائي، وابن ماجه، وكذا في (تهذيب التهذيب) و(خلاصة تذهيب تهذيب الكمال)، لكن ذكره المقدسي فيمن اتفق البخاري ومسلم على الإخراج له، وذكر أنه سمع ابن المبارك في الصحيحين، ومروان بن معاوية عند البخاري، وعبيد الله بن عمرو الرقي ويزيد بن زريع عند مسلم، وقال: روى عنه محمد بن عبد الرحيم في (الوصايا)، و(غزوة أحد) عند البخاري، وإسحاق الحنظلي، وأحمد الدارمي، وأبو بكر بن أبي شيبة، وغيرهم سماهم عند مسلم. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): الكوفي نزيل بغداد، ثم ذكر جماعة روى عنهم، وجماعة رووا عنه، ثم ذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه، ونقل توثيقه عن العجلي وابن خراش وابن سعد.

الرابع: عبيد الله بن عمرو، قال في (التقريب): عبيد الله بن عمرو بن أبي الوليد الرقي أبو وهب الأسدي، ثقة فقيه ربما وهم، من الثامنة، مات سنة ثمانين ـ أي بعد المائة ـ عن ثمانين إلا سنة. ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): الأسدي مولاهم، أبو وهب الجزري الرقي، روى عن عبد الملك بن عمير، وعبد الله بن محمد بن عقيل، ويحيى بن سعيد الأنصاري، والأعمش، وابن أبي أنيسة، وغيرهم سماهم.

وعنه بقية، وعبد الله بن جعفر الرقي، وزكريا بن عدي، ويوسف بن عدي، وغيرهم سماهم. ونقل توثيقه عن ابن معين والنسائي، وأبي حاتم، وابن سعد، والعجلي، وابن نمير، وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات)، وقال: كان راوياً لزيد بن أبي أنيسة.

الخامس: زيد بن أبي أنيسة، قال في (التقريب): زيد بن أبي أنيسة الجزري أبو أسامة، أصله من الكوفة ثم سكن الرُّها، ثقة له أفراد، من السادسة، مات سنة تسع عشرة وقيل سنة أربع وعشرين ـ أي بعد المائة ـ وله ست وثلاثون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): زيد بن أبي أنيسة واسمه زيد الجزري، أبو أسامة الرهاوي، كوفي الأصل الغنوي مولاهم، روى عن أبي إسحاق السبيعي، وعطاء بن أبي رباح، وعمرو بن مرة، والمنهال بن عمرو، وغيرهم سماهم. وعنه: مالك، ومسعر، ومعقل بن عبيد الله، وأبو عبد الرحيم الحراني، وعبيد الله بن عمرو الرقي وهو راويته، وغيرهم. ونقل توثيقه عن ابن معين، وعمرو بن عبد الله الأودي، والعجلي، وأبي داود، ويعقوب بن سفيان، والذهلي، وابن نمير، والبرقي. وقال ابن سعد: كان يسكن الرها، مات بها، وكان ثقة كثير الحديث فقيهاً، راوية للعلم. وحكى العقيلي عن أحمد: أن حديثه حسن مقارب، وأن فيه لبعض النكرة وهو على ذلك حسن الحديث. وعده المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) ممن خرج له مسلم دون البخاري، وقال: الغنوي مولى لغني بن عمر الجزري، سكن الرها. انتهى.

وذكره الحافظ في مقدمة (الفتح) وقال: متفق على الاحتجاج به وتوثيقه. ثم ذكر ما نقل عن الإمام أحمد في تليينه، ثم قال: قلت: في صحيح البخاري حديثه عن المنهال بن عمرو. انتهى.

السادس: عمرو بن مرة، قال في (التقريب): عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملي ـ بفتح الجيم والميم ـ المرادي أبو عبد الله الكوفي الأعمى، ثقة عابد، كان لا يدلس ورُمي بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة ثمان عشرة ومائة وقيل قبلها، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقد ذكرت ترجمته في رجال إسناد الحديث الثاني عشر من الأحاديث التي اخترتها من صحيح البخاري.

السابع: عبد الله بن الحارث النجراني، قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن الحارث الزبيدي ـ بضم الزاي ـ النجراني ـ بنون وجيم ـ الكوفي، المعروف بالمكتب، ثقة من الثالثة، ورمز لكونه من رجال مسلم، والأربعة، والبخاري في (الأدب المفرد)، وقال في (تهذيب التهذيب): روى عن ابن مسعود، وجندب بن عبد الله البجلي، وطليق بن قيس، وأبي كثير الزبيدي، وغيرهم.

وعنه: عمرو بن مرة، وحميد بن عطاء الأعرج، وأبو سنان ضرار بن مرة، والمغيرة بن عبد الله اليشكري. قال الدوري عن ابن معين: ثبت. وقال النسائي: ثقة. وذكره ابن حبان في (الثقات). انتهى.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عبد الله بن الحارث قال بعضهم: النجراني، وقال بعضهم: الزبيدي المكتب، الكوفي، سمع جندباً في (الصلاة)، روى عنه عمرو بن مرة ـ أي في صحيح مسلم ـ. انتهى. ولم أقف لأحد على ذكر سنة وفاته.

الثامن: الصحابي جندب، وهو ابن عبد الله رضي الله عنه ، قال الحافظ في (التقريب): جندب بن عبد الله بن سفيان البجلي ثم العلقي ـ بفتحتين ثم قاف ـ أبو عبد الله وربما نسب إلى جده، له صحبة، ومات بعد الستين، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال الخزرجي في (الخلاصة): له ثلاثة وأربعون حديثاً، اتفقا على سبعة، وانفرد مسلم بخمسة. روى عنه الحسن، وابن سيرين، وأبو مجلز، مات بعد الستين. انتهى. وذكر الحافظ في مقدمة الفتح أن له في (صحيح البخاري) ثمانية أحاديث. وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): كان بالكوفة ثم انتقل إلى البصرة ثم خرج منها، وحديثه عند أهل المصرين، يعنى أهل الكوفة وأهل البصرة.

المبحث الثالث: لطائف إسناده وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) روى مسلم الحديث عن شيخيه أبي بكر بن أبي شيبة وإسحاق بن إبراهيم، ثم بيَّن من له اللفظ منهما وهو أبو بكر، ثم بيَّن صيغة الأداء عند كل منهما وهي الإخبار في رواية إسحاق، والتحديث في رواية أبي بكر، وهذه طريقة مسلم رحمه الله التي سلكها في صحيحه وأكثر من استعمالها فيه.

(2) صيغة الأداء في رواية إسحاق بن إبراهيم بن راهويه هي الإخبار، وهذه هي الطريقة التي سلكها إسحاق، يستعمل (أخبرنا) دون (حدثنا)، قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) ـ في شرح حديث نزول عيسى بن مريم عليه السلام في (كتاب الأنبياء) من صحيح البخاري، وقد رواه البخاري عن إسحاق غير منسوب ـ: قوله (حدثنا إسحاق) هو ابن إبراهيم المعروف بابن راهويه، وإنما جزمت بذلك مع تجويز أبي عليّ الجياني أن يكون هو أو إسحاق بن منصور لتعبيره بقوله (أخبرنا يعقوب بن إبراهيم)، لأن هذه العبارة يعتمدها إسحاق بن راهويه، كما عرف بالاستقراء من عادته أنه لا يقول إلاّ (أخبرنا) ولا يقول (حدثنا)، وقال: وقد أخرج أبو نعيم في (المستخرج) هذا الحديث من مسند إسحاق بن راهويه وقال: أخرجه البخاري عن إسحاق. انتهى.

(3) في الإسناد راو وصف بأنه أمير المؤمنين في الحديث وهو: إسحاق بن راهويه كما تقدم في الحديث الأول.

(4) زكريا بن عدي، رمز الحافظ في (التقريب) و(تهذيب التهذيب) لكونه من رجال البخاري في (الأدب المفرد)، وكذا رمز الخزرجي في (الخلاصة)، وقال الحافظ في ترجمته في (تهذيب التهذيب): وروى عنه البخاري في غير (الجامع). انتهى.

 وليس الأمر كذلك بل قد خرج له البخاري في (الصحيح) حديثين رواهما عنه بواسطة محمد بن عبد الرحيم صاعقة: أحدهما في (كتاب الوصايا) والثاني في (غزوة أحد). كما ذكر ذلك المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين)، والحديث الذي في (الوصايا) يرويه عن مروان بن معاوية وهو في وصية سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه ، وفيه: ((الثلث والثلث كثير)). أما الحديث الذي في غزوة أحد، فيرويه عن عبد الله بن المبارك وهو في صلاته صلى الله عليه وسلم  على قتلى أحد.

(5) زكريا بن عدي هو أخو يوسف بن عدي كما في (التقريب)، ويوسف من رجال البخاري دون مسلم، وليس له في صحيح البخاري إلاّ حديث واحد أخرجه عنه في تفسير سورة (حم السجدة).

(6) عبيد الله بن عمرو الرقي شيخ زكريا بن عدي، ليس له إلاّ حديث واحد في صحيح البخاري في تفسير سورة (حم السجدة) يرويه عنه يوسف بن عدي أخو زكريا.

(7) زيد بن أبي أنيسة، عده المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين) من رجال مسلم دون البخاري، وليس الأمر كذلك فهو من رجال البخاري أيضاً، وليس له في (صحيح البخاري) سوى حديث واحد في تفسير (سورة حم السجدة)، وهو الحديث الذي رواه عنه عبيد الله بن عمرو، ورواه عن عبيد الله يوسف بن عدي، فهم ثلاثة أشخاص يروى بعضهم عن بعض، وليس لهم في (صحيح البخاري) سوى ذلك الموضع، وزيد بن أبي أنيسة يرويه عن المنهال بن عمرو وليس في (صحيح البخاري) غيره أيضاً سوى حديث واحد وهو حديث تعويذ النبي صلى الله عليه وسلم  للحسن والحسين، وهو في (كتاب الأنبياء).

(8) عبد الله بن الحارث النجراني يلقب المكتب، وليس له في (صحيح مسلم) سوى هذا الحديث الواحد كما أشار إليه المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين).

(9) رجال الإسناد الثمانية خرج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ أنَّ أبا بكر بن أبي شيبة لم يخرج له الترمذي، وإسحاق بن إبراهيم لم يخرج له ابن ماجه، وزكريا بن عدي لم يخرج له أبو داود في السنن وروى له في (المراسيل)، وعبد الله بن الحارث النجراني لم يخرج له البخاري.

(10) زيد بن أبي أنيسة قال فيه ابن سعد: كان ثقة كثير الحديث فقيهاً، راوية للعلم. انتهى. توفي وعمره ست وثلاثون سنة. قال الذهبي في (تذكرة الحفاظ): مات شاباً لم يكتهل.

(11) هذا الحديث انتقده الدار قطني على مسلم فقال: وأخرج مسلم أيضاً حديث زكريا بن عدي عن عبيد الله بن عمرو عن زيد عن عمرو بن مرة عن عبد الله بن الحارث حدثني جندب سمعت النبي صلى الله عليه وسلم  يقول: ((لو كنت متخذاً خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلاً، وإني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل))، قال خالفه أبو عبد الرحيم قال فيه: عن حميد النجراني عن حريث، رجل مجهول، والحديث صحيح من رواية أبي سعيد وابن مسعود. انتهى.

ولم يتعرض النووي في شرحه هذا الحديث في (صحيح مسلم) لذكر هذا الانتقاد، ولعل ذلك لكون الدار قطني نفسه حكم بصحة الحديث عن أبي سعيد وابن مسعود، والحديث كما لا يخفى متواتر عن الرسول صلى الله عليه وسلم ، رواه عنه كثيرون من أصحابه رضي الله عنه ، وتقدم في التخريج ذكر السيوطي له في المتواتر، وذكر من روى عنه من الصحابة رضي الله عنه ، والذي اشتهر بالكنية بأبي عبد الرحيم من رجال الكتب الستة خالد بن أبي يزيد الحراني، قال عنه الحافظ في (التقريب): ثقة من السادسة، مات سنة أربع وأربعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال مسلم والبخاري في (الأدب المفرد)، وأبي داود، والنسائي، أخرج مسلم في صحيحه له حديثاً في (رمي جمرة العقبة) رواه عن أحمد بن حنبل عن محمد بن سلمة عنه عن زيد بن أبي أنيسة، كما ذكره المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين).

ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين، وأبي القاسم البغوي، وقال: قال أحمد وأبو حاتم: لا بأس به. وقال: وذكره ابن حبان في (الثقات) وقال: حسن الحديث متقن فيه. هذا هو كل ما ذكره في (تهذيب التهذيب) في توثيقه والثناء عليه. أما زكريا بن عدي، فقد قال عنه الحافظ في (التقريب): ثقة جليل يحفظ. ونقل توثيقه في (تهذيب التهذيب) عن العجلي، وابن خراش، وابن سعد. وقال عنه ابن معين: لا بأس به. وقال المنذر بن شاذان: ما رأيت أحفظ منه، جاءه أحمد بن حنبل ويحيى بن معين فقالا له: أخرج إلينا كتاب عبيد الله بن عمرو. فقال: ما تصنعون بالكتاب، خذوا حتى أملي عليكم كله. وكان يحدث عن أصحاب الأعمش فيميز ألفاظهم. وقال عباس الدوري: حدثنا زكريا بن عدي وكان من خيار خلق الله، وإذا قارنا بين زكريا بن عدي وأبي عبد الرحيم الحراني وجدنا أن زكريا بن عدي من رجال الجماعة، خرج له البخاري حديثين، وخرج له مسلم كثيراً، ووجدنا الثناء عليه أكثر منه على أبي عبد الرحيم، على أن أبا عبد الرحيم لم يخرج له البخاري شيئاً ولم يخرج له مسلم سوى حديث واحد، فمخالفته لزكريا بن عدي لا تؤثر شيئاً على روايته كما يبدو، ومما لا يخفى أن زكريا بن عدي متأخر عن أبي عبد الرحيم، وعبيد الله بن عمرو الرقي شيخه شارك أبا عبد الرحيم في الرواية عن زيد بن أبي أنيسة.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) هذا الحديث اشتمل على عنصرين أساسيين: (أحدهما) بيان منـزلة أبي بكر الصديق وفضله رضي الله عنه ، و(الثاني) التحذير من اتخاذ القبور مساجد، ولما كان من عادة مسلم ـ رحمه الله ـ أنه لا يكرر الحديث في أكثر من موضع غالباً، أورد هذا الحديث في مواضع الصلاة مستدلاً به وبغيره من الأحاديث في معناه على تحريم اتخاذ القبور مساجد، لأن العنصر الثاني من العنصرين اللذين اشتمل عليهما الحديث خطره عظيم، والمعصية فيه كبيرة، لأن الوقوع فيه وسيلة من وسائل الشرك، وذريعة من ذرائع صرف حق الخالق إلى المخلوق، وهذا مثال من أمثلة دقة الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ في صحيحه واختياره للحديث المشتمل على عدة مسائل الموضع الأولى والأليق.

(2) لما كان اتخاذ القبور مساجد من أسباب الوقوع في الشرك، كانت العناية في التحذير منه كبيرة، فجاء المنع منه على صيغ مختلفة وطرق شتى، بل وكان ذلك في أواخر أيامه صلى الله عليه وسلم ، بل وفي أواخر لحظاته صلوات الله وسلامه عليه، فثبت في الصحيحين من حديث عائشة وابن عباس رضي الله عنهما قالا: لما نزل برسول الله صلى الله عليه وسلم  طفق يطرح خميصة له على وجهه، فإذا اغتم بها كشفها عن وجهه فقال ـ وهو كذلك ـ: ((لعنة الله على اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، يحذر ما صنعوا.

وقولهما رضي الله عنهما في الحديث (لما نزل) يعنيان الموت، وقد اشتمل هذا الحديث على ثلاثة أمور:

 الأمر الأول: الدعاء على اليهود والنصارى باللعن.

والأمر الثاني: بيان سبب اللعن وهو اتخاذ قبور أنبيائهم مساجد.

والأمر الثالث: بيان الغرض من ذكر ذلك وهو تحذير هذه الأمة من الوقوع فيما وقع فيه اليهود والنصارى، فيستحقوا اللعنة. وقد صرح بالنهى عن ذلك في حديث جندب المذكور وغيره. وثبت في الصحيحين أيضاً أن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم  في مرضه الذي لم يقم منه: ((لعن الله اليهود والنصارى اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد))، قالت: فلولا ذلك أبرز قبره، غير أنه خشي أن يتخذ مسجداً. وثبت في الصحيحين أيضاً عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ((قاتل الله اليهود، اتخذوا قبور أنبيائهم مساجد)). وثبت في الصحيحين أيضاً من حديث عائشة رضي الله عنها، وصف الذين يبنون المساجد على القبور بأنهم شرار الخلق عند الله، لما ذكرت أم حبيبة وأم سلمة كنيسة رأتاها في الحبشة وما فيها من الصور، قال صلى الله عليه وسلم : ((إن أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور))، ثم قال: ((أولئك شرار الخلق عند الله)).

وهذه الأحاديث الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  اشتملت على التحذير من اتخاذ القبور مساجد مطلقاً، وبعضها يفيد حصول ذلك منه قبل أن يموت بخمس، وبعضها يفيد حصوله في مرضه الذي مات فيه صلى الله عليه وسلم ، والتحذير من ذلك جاء على صيغ متعددة، فجاء بصيغة الدعاء باللعنة على اليهود والنصارى، وجاء بصيغة الدعاء بمقاتلة الله لليهود، وجاء بوصف المتصفين بذلك بأنهم شرار الخلق عند الله، وجاء بصيغة (لا) الناهية في قوله: ((ألا فلا تتخذوا القبور مساجد))، وبصيغة لفظ النهي بقوله: ((إني أنهاكم عن ذلك)). وهذا من كمال نصحه لأمته صلى الله عليه وسلم ، وحرصه على نجاتها، وشفقته عليها صلى الله وبارك عليه، وجزاه أوفى جزاء وأثابه أتم مثوبة.

(3) واتخاذ القبور مساجد يشمل بناء المسجد على القبر، كما قال صلى الله عليه وسلم  في النصارى: ((أولئك إذا كان فيهم الرجل الصالح فمات، بنوا على قبره مسجداً، وصوروا فيه تلك الصور، أولئك شرار الخلق عند الله)). وهو في الصحيحين من حديث عائشة رضي الله عنها، ويشمل قصدها واستقبالها في الصلاة كما قال صلى الله عليه وسلم : ((لا تجلسوا على القبور ولا تصلوا إليها)) أخرجه مسلم من حديث أبي مرثد الغنوي رضي الله عنه ، ويشمل السجود على القبر من باب أولى، إذ هو أخص من الصلاة إليه.

(4) وهذا الحكم الثابت في هذه الأحاديث المتواترة من تحريم اتخاذ القبور مساجد أجمع عليه العلماء كما حكاه ابن تيمية رحمه الله، وقد ألّف في هذه المسألة العلامة الشوكاني المتوفى سنة (1250هـ) رسالة سماها (شرح الصدور بتحريم رفع القبور) أجاد فيها وأفاد، قال فيها: ((اعلم أنه قد اتفق الناس سابقهم ولاحقهم، وأولهم وآخرهم، من لدن الصحابة إلى هذا الوقت، أن رفع القبور والبناء عليها بدعة من البدع التي ثبت النهي عنها واشتد وعيد رسول الله صلى الله عليه وسلم  لفاعلها، ولم يخالف في ذلك أحد من المسلمين أجمعين، لكنه وقع للإمام يحيى مقالة تدل على أنه يرى أنه لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، ولم يقل بذلك غيره، ولا روي عن أحد سواه، ومن ذكرها من المؤلفين في كتب الفقه من الزيدية فهو جري على قوله واقتداء به، ولم نجد القول بذلك ممن عاصره أو تقدم عصره عليه، لا من أهل البيت، ولا من غيرهم، ثم ذكر أن صاحب (البحر) الذي هو مدرس كبار الزيدية، ومرجع مذهبهم، ومكان البيان لخلافهم في ذات بينهم، وللخلاف بينهم وبين غيرهم، لم ينسب القول بجواز رفع القباب والمشاهد على قبور الفضلاء إلاّ إلى الإمام يحيى وحده، فقال ما نصه: مسألة الإمام يحيى، لا بأس بالقباب والمشاهد على قبور الفضلاء، والملوك لاستعمال المسلمين ولم ينكر)). انتهى.

إلى أن قال الشوكاني رحمه الله: ((فإذا عرفت هذا تقرّر لك أن هذا الخلاف واقع بين الإمام يحيى وبين سائر العلماء من الصحابة والتابعين ومن المتقدمين من أهل البيت، والمتأخرين، ومن أهل المذاهب الأربعة، وغيرهم، ومن جميع المجتهدين أولهم وآخرهم، ولا يعترض هذا بحكاية من حكى قول الإمام يحيى في مؤلفه ممن جاء بعده من المؤلفين، فإن مجرد حكاية القول لا يدل على أن الحاكي يختاره ويذهب إليه....)).

إلى أن قال رحمه الله: ((فإذا أردت أن تعرف هل الحق ما قاله الإمام يحيى أو ما قاله غيره من أهل العلم؟ فالواجب عليك ردّ هذا الاختلاف إلى ما أمرنا الله بالرد إليه وهو كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ...، ثم ذكر بعض الآيات المقتضية ذلك وبين وجه دلالتها على المطلوب، ثم ذكر جملة من الأحاديث الكثيرة الواردة عن الرسول صلى الله عليه وسلم  في تحريم اتخاذ القبور مساجد، والتي مر ذكر بعضها، وبين أن ذلك يفضي بفاعله إلى الشرك بالله.

ثم قال: ((فلاشك ولا ريب أن السبب الأعظم الذي نشأ منه هذا الاعتقاد في الأموات، هو ما يزينه الشيطان للناس من رفع القبور، ووضع الستور عليها، وتجصيصها وتزيينها بأبلغ زينة، وتحسينها بأكمل تحسين، فإن الجاهل إذا وقعت عينه على قبر من القبور قد بُنيت عليه قبة، فدخلها ونظر على القبور الستور الرائعة، والسرج المتلألئة، وقد سطعت حوله مجامر الطيب، فلا شك ولا ريب أنه يمتلئ قلبه تعظيماً لذلك القبر، ويضيق ذهنه عن تصور ما لهذا الميت من المنـزلة، ويدخله من الروعة والمهابة ما يزرع في قلبه من العقائد الشيطانية التي هي من أعظم مكائد الشيطان للمسلمين، وأشد وسائله إلى ضلال العباد، مما يزلزله عن الإسلام قليلاً قليلاً، حتى يطلب من صاحب ذلك القبر مالا يقدر عليه إلاّ الله سبحانه، فيصير في عداد المشركين، وقد يحصل له هذا الشرك بأول رؤية لذلك القبر الذي صار على تلك الصفة، وعند أوّل زورة له، إذ لابد أن يخطر بباله أن هذه العناية البالغة من الأحياء بمثل هذا الميت، لا تكون إلاّ لفائدة يرجونها منه، إما دنيوية، أو أخروية، فيستصغر نفسه بالنسبة إلى من يراه من أشباه العلماء زائراً لذلك القبر، وعاكفاً عليه، ومتمسحاً بأركانه، وقد يجعل الشيطان طائفة من إخوانه من بني آدم يقفون على ذلك القبر يخادعون من يأتي إليه من الزائرين، يهولون عليهم الأمر، ويصنعون أموراً من أنفسهم وينسبونها إلى الميت، على وجه لا يفطن له من كان من المغفلين، وقد يصنعون أكاذيب مشتملة على أشياء يسمونها كرامات لذلك الميت، ويبثونها في الناس ويكررون ذكرها في مجالسهم، وعند اجتماعهم بالناس، فتشيع وتستفيض ويتلقاها من يحسن الظن بالأموات، ويقبل عقله ما يروى عنهم من الأكاذيب، فيرويها كما سمعها، ويتحدث بها في مجالسه، فيقع الجهال في بلية عظيمة من الاعتقاد الشركي، وينذرون على ذلك للميت بكرائم أموالهم، ويحبسون على قبره من أملاكهم ما هو أحبها إلى قلوبهم، لاعتقادهم أنهم ينالون بجاه ذلك الميت خيراً عظيماً، وأجراً كبيراً، ويعتقدون أن ذلك قربة عظيمة، وطاعة نافعة، وحسنة متقبلة، فيحصل بذلك مقصود أولئك الذين جعلهم الشيطان من إخوانه من بني آدم على ذلك القبر، فإنهم إنما فعلوا تلك الأفاعيل، وهولوا على الناس بتلك التهاويل، وكذبوا تلك الأكاذيب، لينالوا جانباً من الحطام من أموال الطغام الأغتام، وبهذه الذريعة الملعونة، والوسيلة الإبليسية، تكاثرت الأوقاف على القبور، وبلغت مبلغاً عظيماً، حتى بلغت غلاَّت ما يوقف على المشهورين منهم ما لو اجتمعت أوقافه لبلغ ما يقتاته أهل قرية كبيرة من قرى المسلمين، ولو بيعت تلك الحبائس الباطلة لأغنى الله بها طائفة كبيرة من الفقراء، وكلها من النذر في معصية الله، وقد صح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  أنه قال: ((لا نذر في معصية الله))، وهي أيضاً من النذر الذي لا يبتغي به وجه الله، بل كلها من النذور التي يستحق بها فاعلها غضب الله وسخطه، لأنها تفضي بصاحبها إلى ما يفضي به اعتقاد الإلهية في الأموات، من تزلزل قدم الدين، إذ لا يسمح بأحب أمواله وألصقها بقلبه إلا وقد زرع الشيطان في قلبه من محبة وتعظيم وتقديس ذلك القبر وصاحبه، والمغالاة في الاعتقاد فيه ما لا يعود به إلى الإسلام سالماً، نعوذ بالله من الخذلان...)).

إلى أن قال: ((وأما ما استدل به الإمام يحيى حيث قال: لاستعمال المسلمين ذلك ولم ينكروه فقول مردود، لأن علماء المسلمين ما زالوا في كل عصر يروون أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم  في لعن من فعل ذلك، ويقررون شريعة رسول الله صلى الله عليه وسلم  في تحريم ذلك في مدارسهم، ومجالس حفاظهم، يرويها الآخر عن الأوّل، والصغير عن الكبير، والمتعلم عن العالم، من لدن أيام الصحابة إلى هذه الغاية، وأوردها المحدثون في كتبهم المشهورة من الأمهات، والمسندات، والمصنفات، وأوردها المفسرون في تفاسيرهم، وأهل الفقه في كتبهم الفقهية، وأهل الأخبار والسير في كتب الأخبار والسير، فكيف يقال إن المسلمين لم ينكروا على من فعل ذلك، وهم يروون أدلة النهي عنه واللعن لفاعله خلفاً عن سلف في كل عصر، ومع هذا فلم يزل علماء الإسلام منكرين لذلك مبالغين في النهي عنه، وقد حكى ابن القيم عن شيخه تقي الدين ـ رحمهما الله ـ وهو الإمام المحيط بمذهب سلف هذه الأمة وخلفها، أنه قد صرح عامة الطوائف بالنهي عن بناء المساجد على القبور، ثم قال: وصرّح أصحاب أحمد ومالك والشافعي بتحريم ذلك، وطائفة أطلقت الكراهة، لكن ينبغي أن يحمل على كراهة التحريم إحساناً للظن بهم، وأن لا يظن بهم أن يجوزوا ما تواتر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  لعن فاعله والنهي عنه)). انتهى.

هذا تلخيص لما اشتملت عليه رسالة هذا الإمام من الإيضاح والتحقيق في هذه المسألة التي تواترت الأحاديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم  فيها، وأجمع العلماء على حكمها، ومع ذلك فقد تحقق للشيطان مراده في كثير من البلاد الإسلامية من مخالفة كثير من الناس ما تواتر وانعقد عليه الإجماع من تحريم البناء على القبور واتخاذها مساجد. وكأن الإجماع في نظرهم انعقد على جواز واستحباب ذلك فالله المستعان ونعوذ بالله من الخذلان.

(5) قول (جندب رضي الله عنه سمعت النبي صلى الله عليه وسلم  قبل أن يموت بخمس). يدل على ضبط جندب رضي الله عنه في روايته هذا الحديث، حيث علم مع الحديث الزمن الذي قيل فيه هذا الحديث، ويدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم  قال هذا القول، وبيَّن هذا الحكم في أواخر أيامه، ويدل على أن هذا الحكم محكم غير منسوخ، ويدل على مزيد عنايته صلى الله عليه وسلم  في بيان هذا الحكم، حيث قال ذلك قبل أن يموت بخمس ليال، بل لقد حذّر من ذلك في اللحظات التي نزل به الموت فيها، وهذا من كمال نصحه لأمته صلى الله عليه وسلم ، فإنه صلى الله عليه وسلم  لما بعثه الله رحمة للعالمين صار يقول: ((يا أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا)) لأنها كلمة التوحيد التي تثبت العبادة لله وحده، وتنفيها عن كل ما سواه، ولما كان في اللحظات الأخيرة حذّر من الوسائل التي تفضي إلى الإخلال بما تضمنته هذه الكلمة، من إخلاص العبادة لله وحده، فإخلاص العبادة لله وحده به بدأ صلى الله عليه وسلم  دعوته لأمته، وبالتحذير من الإخلال بذلك ختم حياته الدنيوية صلوات الله وسلامه عليه.

(6) قوله (إني أبرأ إلى الله أن يكون لي منكم خليل). قال النووي: معنى أبرأ: أي أمتنع من هذا وأنكره، والخليل هو المنقطع إليه، وقيل: المختص بشيء دون غيره، قيل: هو مشتق من الخلة ـ بفتح الخاء ـ وهي الحاجة، وقيل: من الخلة ـ بضم الخاء ـ وهي تخلل المودة في القلب، فنفى صلى الله عليه وسلم  أن تكون حاجته وانقطاعه إلى غير الله تعالى، وقيل: الخليل من لا يتسع القلب لغيره. انتهى.

(7) قوله (فإن الله قد اتخذني خليلا كما اتخذ إبراهيم خليلا): فيه إثبات الخلة لمحمد صلى الله عليه وسلم ، كما أنها ثابتة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام كما في قوله تعالى: (واتَّخَذَ اللّهُ إِبْرَاهِيمَ خَلِيلاً (، والخلة هي نهاية المحبة، والفرق بينها وبين المحبة العموم والخصوص، فكل خلة محبة، وليست كل محبة خلة، فالخلة ثبتت لإبراهيم ومحمد عليهما الصلاة والسلام، والمحبة ثبتت لهما ولغيرهما، فهما عليهما الصلاة والسلام خليلا الله وحبيباه، وغيرهم من أنبياء الله والصالحين من عباده أحباؤه. والخلة أكمل من المحبة ولهذا لم تثبت خلة الله لأحد سواهما، بخلاف المحبة كما في قوله: (واللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ )، (إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ )، وفي ذلك رد على من يخص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد صلى الله عليه وسلم ، والحق أن الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة، ومما يدل أيضاً على أن الخلة أكمل من المحبة، أنه صلى الله عليه وسلم  نفى أن يكون له خليل غير ربه، مع أنه أخبر بأنه يحب عائشة وأباها وغيرهم من الصحابة رضي الله عنه .

(8) قوله (ولو كنت متخذًا من أمتي خليلاً لاتخذت أبا بكر خليلا). فيه إثبات هذه المنقبة العظيمة لأبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وهو دليل واضح غاية الوضوح على أفضليته وتفوقه على جميع الصحابة الكرام رضي الله عنه  في الفضل، وأنه لا يساويه أحد بل ولا يدانيه، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم، وفي إخبار الرسول صلى الله عليه وسلم  بذلك قبل أن يموت بخمس تنبيه على أنه الأولى من غيره في النيابة عنه بعد وفاته، لاسيما وقد قدمه لإمامة الناس في الصلاة في مرضه، ولم يرض بأن يقوم مقامه أحد في الصلاة بهم، وقد تم ذلك، فاتفق المسلمون على تولية أمرهم خيرهم وأفضلهم رضي الله عنه وعن سائر الصحابة أجمعين.

(9) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) كمال نصح الرسول صلى الله عليه وسلم  وشفقته على أمته وحرصه على سلامتها ونجاتها.

(2) ضبط جندب رضي الله عنه وإتقانه في رواية الحديث حيث ضبط مع الحديث الزمن الذي قيل فيه هذا الحديث.

(3) أن الأحكام التي اشتمل عليها هذا الحديث محكمة غير منسوخة لصدورها في أواخر أيام النبي صلى الله عليه وسلم .

(4) براءته صلى الله عليه وسلم  مما لا يسوغ فعله.

(5) ثبوت خلة الله لمحمد صلى الله عليه وسلم  كما أنها ثابتة لإبراهيم عليه الصلاة والسلام.

(6) أن خلة الله خاصة بالخليلين محمد وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام.

(7) أن الخلة أكمل من المحبة.

(8) بيان عظم منـزلته صلى الله عليه وسلم  عند ربه.

(9) أن خلته صلى الله عليه وسلم  خاصة بالله تعالى.

(10) أنه لا يصلح له صلى الله عليه وسلم  أن يتخذ من المخلوقين خليلاً.

(11) أنه لو أمكن حصول خلته صلى الله عليه وسلم  لأحد من الخلق لكان أحق الناس بذلك أبو بكر رضي الله عنه .

(12) بيان فضل أبي بكر الصديق رضي الله عنه وتفوقه على غيره في الفضل.

(13) الإشارة إلى أنه أولى الصحابة بالخلافة بعد النبي صلى الله عليه وسلم .

(14) الرد على من يخص الخلة بإبراهيم والمحبة بمحمد عليهما الصلاة والسلام، بل الخلة خاصة بهما، والمحبة عامة لهما ولغيرهما من أولياء الله.

(15) الإخبار عما لا يكون أن لو كان كيف يكون، فإن حصول خلته صلى الله عليه وسلم  لا يكون لأحد سوى الله ولو حصل ذلك لكان لأبي بكر الصديق رضي الله عنه .

(16) تحذيره صلى الله عليه وسلم  من اتخاذ القبور مساجد.

(17) أن فتنة اتخاذ القبور مساجد أصيب بها من كان قبلنا وتحذيرنا من سلوك سبيلهم في ذلك.

(18) إخباره صلى الله عليه وسلم  عن أحوال الماضين وهو من الغيب الذي أطلعه الله عليه.

(19) التحذير من الغلو في الصالحين لإفضائه إلى الشرك.

(20) المبالغة في التحذير من اتخاذ القبور مساجد في الجمع بين صيغتي النهي في قوله: ((ألا فلا تتخذوا القبور مساجد)). وقوله: ((إني أنهاكم عن ذلك)).

(21) إثبات صفة الخلة لله تعالى.

(22) أن أحباء الله متفاوتون في محبته إياهم.

 

 



بحث عن بحث