حديث: ( من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت )

 

قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الأيمان والنذور) من صحيحه:

حدثنا عبد الله بن مسلمة عن مالك عن نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب ـ وهو يسير في ركب يحلف بأبيه ـ فقال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).

 

المبحث الأول/ التخريج:

أورد البخاري هذا الحديث في خمسة مواضع من صحيحه هذا أحدها في (باب "لا تحلفوا بآبائكم")، والثاني في (كتاب الشهادات، باب كيف يستحلف؟) ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا جويرية قال: ذكر نافع عن عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت)، والثالث في (كتاب مناقب الأنصار، باب أيام الجاهلية) ولفظه: حدثنا قتيبة حدثنا إسماعيل بن جعفر عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ألا من كان حالفاً فلا يحلف إلاّ بالله، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم)، والرابع في (كتاب الأدب) في (باب من لم ير إكفار من قال ذلك متأوّلاً أو جاهلاً) ولفظه: حدثنا قتيبة حدثنا الليث عن نافع عن ابن عمر رضي الله عنهما: أنه أدرك عمر بن الخطاب في ركب وهو يحلف بأبيه فناداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله وإلاّ فليصمت). والخامس في (كتاب التوحيد، باب السؤال بأسماء الله تعالى والاستعاذة بها) ولفظه: حدثنا أبو نعيم حدثنا ورقاء عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، ومن كان حالفاً فليحلف بالله).

ورواه مسلم عن تسعة من مشايخه بأسانيده إلى نافع بمثل رواية البخاري في (كتاب الأدب)، ورواه عن أربعة من مشايخه عن إسماعيل عن عبد الله بن دينار عن ابن عمر بمثل رواية البخاري في (أيام الجاهلية).

ورواه الترمذي في جامعه في (كتاب النذور والأيمان، باب ما جاء في كراهية الحلف بغير الله) ولفظه: حدثنا قتيبة حدثنا سفيان عن الزهري عن سالم عن أبيه سمع النبي صلى الله عليه وسلم عمر وهو يقول: وأبي وأبي فقال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، فقال عمر: فو الله ما حلفت به بعد ذلك ذاكراً ولا آثراً. قال: وفي الباب: عن ثابت بن الضحاك، وابن عباس، وأبي هريرة، وقتيلة، وعبد الرحمن بن سمرة.

قال أبو عيسى: حديث ابن عمر حديث حسن صحيح. قال أبو عيسى: قال أبو عبيد: معنى قوله (ولا آثراً) أي: لم آثره عن غيري، يقول: لم أذكره عن غيري. حدثنا هناد حدثنا عبدة عن عبيد الله بن عمر عن نافع عن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر وهو في ركب وهو يحلف بأبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، ليحلف حالف بالله أو ليسكت)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن صحيح.

وأخرجه النسائي في (باب التشديد في الحلف بغير الله تعالى) فقال: أخبرنا عليّ بن حجر عن إسماعيل ـ وهو ابن جعفر ـ قال حدثنا عبد الله بن دينار عن ابن عمر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله، وكانت قريش تحلف بآبائها، فقال: لا تحلفوا بآبائكم)، أخبرني زياد بن أيوب قال حدثنا ابن علية قال حدثنا يحيى بن أبي إسحاق قال حدثني رجل من بني غفار في مجلس سالم بن عبد الله قال سالم بن عبد الله: سمعت عبد الله ـ يعني ابن عمر ـ وهو يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، ورواه في (باب الحلف بالآباء) عن شيخيه عبيد الله بن سعيد، وقتيبة بن سعيد بمثل رواية قتيبة بن سعيد عند الترمذي.

ورواه ابن ماجه في (كتاب الكفارات، باب من حلف له بالله فليرض) ولفظه: حدثنا محمد بن إسماعيل بن سمرة حدثنا أسباط بن محمد عن محمد بن عجلان عن نافع عن ابن عمر قال: سمع النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً يحلف بأبيه فقال: (لا تحلفوا بآبائكم، من حلف بالله فليصدق، ومن حلف له بالله فليرض، ومن لم يرض بالله فليس من الله).

ورواه مالك في (الموطأ) عن نافع عن ابن عمر ومتنه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أدرك عمر بن الخطاب وهو يسير في ركب وهو يحلف بأبيه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم، فمن كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).

ورواه البخاري في صحيحه عن سعيد بن عفير بسنده إلى سالم بن عبد الله عن عبد الله بن عمر عن عمر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، قال عمر: فو الله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا آثراً. وروى نحوه النسائي وابن ماجه.

وللحديث شواهد كثيرة منها: ما رواه النسائي وأبو داود بإسناده إلى أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلا بالله، ولا تحلفوا إلا وأنتم صادقون).

وقال الحافظ في (الفتح): ووقع في (مصنف ابن أبي شيبة) من طريق عكرمة قال: قال عمر: حدثت قوماً فقلت: لا وأبي، فقال رجل من خلفي: (لا تحلفوا بآبائكم)، فالتفت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (لو أن أحدكم حلف بالمسيح هلك والمسيح خير من آبائكم)، قال الحافظ: وهذا مرسل يتقوى بشواهده.

ومنها ما رواه الترمذي في جامعه حيث قال: حدثنا قتيبة حدثنا أبو خالد الأحمر عن الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة أن ابن عمر سمع رجلاً يقول: لا والكعبة، فقال ابن عمر: لا يحلف بغير الله، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك)، قال أبو عيسى: هذا حديث حسن. وفسر هذا الحديث عند بعض أهل العلم أن قوله (فقد كفر أو أشرك) على التغليظ، والحجة في ذلك حديث ابن عمر أن النبي صلى الله عليه وسلم سمع عمر يقول: وأبي وأبي فقال: (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم)، وحديث أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (من قال في حلفه:واللات والعزى فليقل:لا إله إلا الله)، قال أبو عيسى: هذا مثل ما روي عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (إن الرياء شرك)، وقد فسر بعض أهل العلم هذه الآية: {فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}الكهف110 الآية، قال: لا يرائي.

ورواه أبو داود في سننه فقال: حدثنا محمد بن العلاء حدثنا ابن إدريس قال: سمعت الحسن بن عبيد الله عن سعد بن عبيدة قال: سمع ابن عمر رجلاً يحلف والكعبة فقال له ابن عمر: إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (من حلف بغير الله فقد أشرك).

 

المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري عبد الله مسلمة ـ وهو القعنبي ـ: قال الحافظ ابن حجر في (التقريب): عبد الله بن مسلمة بن قعنب القعنبي الحارثي، أبو عبد الرحمن البصري، أصله من المدينة وسكنها مدة، ثقة عابد، كان ابن معين وابن المديني لا يقدمان عليه في الموطأ أحداً، من صغار التاسعة، مات في أول سنة إحدى وعشرين ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عبد الله بن مسلمة بن قعنب الحارثي التيمي المدني، سكن البصرة، يكنى أبا عبد الرحمن، سمع مالك بن أنس، وإبراهيم بن سعد، وغير واحد. روى عنه البخاري ومسلم وأكثرا. انتهى.

ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه والثناء عليه، ومن ذلك: قول عبد الله بن داود الخريبي: ((حدثني القعنبي عن مالك، وهو والله عندي خير من مالك))، وقول ابن سعد: ((كان عابداً فاضلاً، قرأ عن مالك كتبه))، وقول العجلي: ((بصري ثقة، رجل صالح، قرأ مالك عليه نصف الموطأ، وقرأ هو على مالك النصف الباقي))، وقول ابن زرعة: ((ما كتبت عن أحد أجل في عيني منه))، وقول الحنيني: ((كنا عند مالك فقيل: قدم القعنبي، فقال مالك: قوموا بنا إلى خير أهل الأرض)). انتهى. وقال الذهبي في (العبر): ((وهو أوثق من روى الموطأ)).

الثاني: مالك ـ وهو ابن أنس ـ: قال الحافظ في (التقريب): مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عمرو الأصبحي، أبو عبد الله المدني، الفقيه، إمام دار الهجرة، رأس المتقنين، وكبير المتثبتين، حتى قال البخاري: أصح الأسانيد كلها: مالك عن نافع عن ابن عمر، من السابعة، مات سنة تسع وسبعين ـ أي بعد المائة ـ وكان مولده سنة ثلاث وتسعين. وقال الواقدي: بلغ تسعين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة. ونقل في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك: قول ابن عيينة: ((ما كان أشد انتقاد مالك للرجال وأعلمه بشأنهم))، وقول الشافعي: ((مالك حجة الله على خلقه بعد التابعين)). وقول النسائي: ((ما عندي بعد التابعين أنبل من مالك، ولا أجل منه، ولا أوثق، ولا آمن على الحديث منه، ولا أقل رواية عن الضعفاء، ما علمناه حدث عن متروك إلا عبد الكريم)). وقول ابن حبان في (الثقات): ((كان مالك أول من انتقى الرجال من الفقهاء بالمدينة، وأعرض عمن ليس بثقة في الحديث، ولم يكن يروي إلا ما صح، ولا يحدث إلا عن ثقة مع الفقه والدين، والفضل والنسك، وبه تخرج الشافعي)). وقول ابن مهدي: ((ما رأيت رجلاً أعقل من مالك))، ثم قال في ختام ترجمته: ومناقبه كثيرة جداً لا يحتمل هذا المختصر استيعابها، وقد أفردت بالتصنيف. وقال الذهبي في (العبر): قال معن القزاز وجماعة: ((حملت بمالك أمه ثلاث سنين))، وقال: قال ابن عيينة ـ وبلغه موت مالك ـ: ((ما ترك على ظهر الأرض مثله))، وترجم له في (تذكرة الحفاظ) وقال: قد كنت أفردت ترجمة مالك في جزء وطولتها في تاريخي الكبير. انتهى.

الثالث: نافع مولى عبد الله بن عمر: قال الحافظ ابن حجر في (تقريب التهذيب): نافع أبو عبد الله المدني، مولى ابن عمر، ثقة ثبت فقيه مشهور، من الثالثة، مات سنة سبع عشر ومائة أو بعد ذلك، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في (تهذيب التهذيب): نافع الفقيه مولى ابن عمر، أبو عبد الله المدني، أصابه ابن عمر في بعض مغازيه، ونقل توثيق الأئمة له وثناءهم عليه، ومن ذلك قول البخاري: ((أصح الأسانيد: مالك عن نافع عن ابن عمر)). وقول مالك: ((كنت إذا سمعت من نافع يحدث عن ابن عمر لا أبالي أن لا أسمعه من غيره)). وقول الخليلي: ((نافع من أئمة التابعين بالمدينة، إمام في العلم، متفق عليه، صحيح الرواية، منهم من يقدمه على سالم ومنهم من يقارنه به، ولا يعرف له خطأ في جميع ما رواه)).

الرابع: صحابي الحديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما: قال الحافظ في (التقريب): عبد الله بن عمر بن الخطاب العدوي، أبو عبد الرحمن، ولد بعد المبعث بيسير، واستصغر يوم أحد وهو ابن أربع عشرة سنة، وهو أحد المكثرين من الصحابة والعبادلة، وكان من أشد الناس اتباعاً للأثر، مات سنة ثلاث وسبعين في آخرها أو أول التي بعدها، ورمز لكونه حديثه في الكتب الستة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): له ألف (1) وستمائة حديث وثلاثون حديثاً، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على مائة وسبعين، وانفرد البخاري بأحد وثمانين، ومسلم بأحد وثلاثين. وذكر الحافظ في مقدمة الفتح: أن له عند البخاري مائتين وسبعين حديثاً. وقال ابن كثير في ترجمته في (البداية والنهاية): أبو عبد الرحمن المكي ثم المدني، أسلم قديماً مع أبيه ولم يبلغ الحلم، وهاجرا وعمره عشر سنين، وقد استصغر يوم أحد، فلما كان يوم الخندق أجازه وهو ابن خمس عشرة سنة، فشهدها وما بعدها، وهو شقيق حفصة بنت عمر أم المؤمنين أمهما زينب بنت مظعون أخت عثمان بن مظعون، وذكر كثيراً من أخلاقه الفاضلة وسجاياه الحميدة رضي الله عنه وعن أبيه وأخته وسائر الصحابة أجمعين.

 

المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الأربعة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم ما عدا شيخ البخاري عبد الله بن مسلمة القعنبي فلم يرو له ابن ماجه.

(2) رجال الإسناد الأربعة مدنيون، وابن عمر رضي الله عنه مكي ثم مدني، وشيخ البخاري مدني ثم بصري.

(3) رجال الإسناد الأربعة: كنية اثنين منهم أبو عبد الله وهما: مالك بن أنس وشيخه نافع مولى ابن عمر، وكنية اثنين منهم أبو عبد الرحمن وهما: ابن عمر رضي الله عنه، وعبد الله بن مسلمة القعنبي.

(4) نافع هو مولى عبد الله بن عمر من أسفل، وعبد الله مولى نافع من أعلى، فالحديث من رواية مولى من أسفل عن مولى من أعلى.

(5) هذا الإسناد مشتمل على السلسلة التي وصفها البخاري بأنها أصح الأسانيد على الإطلاق وهي: رواية مالك عن نافع عن ابن عمر. ويقال لها: السلسلة الذهبية. وفي (تهذيب التهذيب): قال محمد بن إسحاق الثقفي: سئل محمد بن إسماعيل عن أصح الأسانيد فقال: مالك عن نافع عن ابن عمر.

(6) صيغ الأداء في جميع الإسناد (عن) إلا في رواية البخاري عن شيخه فهي التحديث. ويسمى مثل ذلك الإسناد المعنعن. والحكم في الإسناد المعنعن حمله على السماع متى كان الذي روى بالعنعنة سالماً من التدليس، أما إذا كان مدلساً فالحكم فيه التوقف لأنه يحتمل السماع، ويحتمل أن هناك واسطة بينه وبين من روى عنه بالعنعنة، فإن صرح بالسماع قبل وزال احتمال التدليس.

(7) عبد الله بن عمر رضي الله عنهما أحد العبادلة الأربعة في الصحابة وسبقت الإشارة إليهم في إسناد الحديث الثاني، وهو أحد المكثرين فيهم من الرواية عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويأتي في الدرجة التالية بعد أبي هريرة رضي الله عنه.

(8) شيخ البخاري مشتهر باسمه ونسبته فيقال له عبد الله بن مسلمة، ويقال له القعنبي، وليس في رجال الكتب الستة من اسم أبيه مسلمة ممن يسمى عبد الله سواه.

 

المبحث الرابع/ شرح الحديث:

(1) قوله (ألا إن الله ينهاكم أن تحلفوا بآبائكم): ورد النهى عن الحلف بغير الله على صيغ مختلفة هذا أحدها.

ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تحلفوا بآبائكم).

ومنها قوله: (ألا من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله).

ومنها قوله: (لا تحلفوا بآبائكم، ولا بأمهاتكم، ولا بالأنداد، ولا تحلفوا إلاّ بالله، ولا تحلفوا إلاّ وأنتم صادقون).

ومنها قول ابن عمر رضي الله عنهما: (لا يُحلف بغير الله، فإني سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "من حلف بغير الله فقد كفر أو أشرك").

(2) قوله (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت): قال في (الفتح): قال العلماء: السر في النهى عن الحلف بغير الله، أن الحلف بالشيء يقتضي تعظيمه، والعظمة في الحقيقة إنما هي لله وحده، وظاهر الحديث تخصيص الحلف بالله خاصة لكن قد اتفق الفقهاء أن اليمين تنعقد بالله وذاته وصفاته العلية، وقال: وكأن المراد بقوله (بالله) الذات لا خصوص لفظ الله.

(3) السر في التنصيص على الآباء في منع الحلف بهم مع أن الحكم شامل لهم ولغيرهم أن الحلف بالآباء هو سبب الحديث، ولكونه عادة جاهلية كما في رواية البخاري في (باب أيام الجاهلية) ولفظه: (ألا من كان حالفاً فلا يحلف إلا بالله، فكانت قريش تحلف بآبائها فقال: لا تحلفوا بآبائكم).

(4) النهي عن الحلف بغير الله لا يعارضه ما ورد في القرآن من إقسامه تعالى ببعض مخلوقاته، فذاك خاص به سبحانه، فهو سبحانه يقسم في كتابه بنفسه وبما شاء من مخلوقاته، وليس لغيره أن يقسم إلاّ به (من كان حالفاً فليحلف بالله أو ليصمت).

(5) النهي عن الحلف بغير الله قد يعارضه ما ورد في حديث: (أفلح وأبيه إن صدق)؛ والجواب عن ذلك ما قاله الحافظ ابن حجر في (الفتح) بعد إشارته إلى الحديث المشار إليه قال: فإن قيل: ما الجامع بين هذا وبين النهي عن الحلف بالآباء؟ أجيب: بأن ذلك كان قبل النهي، أو بأنها كلمة جارية على اللسان لا يقصد بها الحلف، كما جرى على لسانهم عقرى حلقى. وما أشبه ذلك ثم ذكر وجوها أخرى وقال: وأقوى الأجوبة الأولان.

(6) جاء عن سلف هذه الأمة ما يبين سلامتهم من الحلف بغير الله وبعدهم عن التعلق بغيره سبحانه، وبيان خطورة هذا الأمر، فأمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول بعد أن قال له الرسول صلى الله عليه وسلم ما قال: (فو الله ما حلفت بها منذ سمعت النبي صلى الله عليه وسلم ذاكراً ولا آثراً).

وقال الحافظ ابن حجر في (الفتح): قال الشعبي: (لأن أقسم بالله فأحنث، أحب إليَّ من أن أحلف بغيره فأبر)، ثم قال: وجاء مثله عن ابن عباس وابن مسعود وابن عمر.

وقال الشيخ محمد بن عبد الوهاب ـ رحمه الله ـ في (كتاب التوحيد الذي هو حق الله على العبيد)، في (باب قول الله تعالى:{فَلاَ تَجْعَلُواْ لِلّهِ أَندَاداً وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ}البقرة22 قال: وقال ابن مسعود: ((لأن أحلف بالله كاذباً أحب إليَّ من أن أحلف بغيره صادقاً)).

وقال حفيده الشيخ عبد الرحمن بن حسن في كتاب (فتح المجيد): ((ومن المعلوم أن الحلف بالله كاذباً كبيرة من الكبائر، لكن الشرك أكبر من الكبائر وإن كان أصغر، فإذا كان هذا حال الشرك الأصغر فكيف بالشرك الأكبر الموجب للخلود بالنار، كدعوة غير الله، والاستغاثة به، والرغبة إليه، وإنزال حوائجه به)).

وقال حفيده الشيخ سليمان بن عبد الله في كتاب (تيسير العزيز الحميد): ((وإنما رجح ابن مسعود رضي الله عنه الحلف بالله كاذباً على الحلف بغيره صادقاً، لأن الحلف بالله توحيد والحلف بغيره شرك، وإن قدر الصدق في الحلف بغير الله فحسنة التوحيد أعظم من حسنة الصدق، وسيئة الكذب أسهل من سيئة الشرك، ذكره شيخ الإسلام ـ يعني ابن تيمية ـ، ثم قال: وفيه دليل على أن الحلف بغير الله صادقاً أعظم من اليمين الغموس، وفيه دليل على أن الشرك الأصغر أكبر من الكبائر، وفيه شاهد للقاعدة المشهورة وهي: ارتكاب أقل الشرَّين ضرراً إذا كان لابد من أحدهما)). انتهى.

وهذا الأثر الذي أورده الشيخ محمد بن عبد الوهاب في (كتاب التوحيد) عن ابن مسعود رضي الله عنه قد ذكره الحافظ المنذري في كتاب (الترغيب والترهيب) في (باب الترهيب من الحلف بغير الله) فقال: وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (لأن أحلف بالله كاذباً أحبّ إليَّ من أن أحلف بغيره وأنا صادق)، ثم قال: رواه الطبراني موقوفاً، ورواته رواة الصحيح.

(7) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:

(1) النهي عن الحلف بالآباء وبكل من سوى الله.

(2) وجوب قصر الحلف على أن يكون بالله.

(3) قضاء الإسلام على العادات المذمومة في الجاهلية.

(4) الإشارة إلى عدم الإكثار من اليمين حيث قال: (من كان حالفاً).

(5) أن الإنسان عند الحلف أمامه أمران لا ثالث لهما: إما الحلف بالله، وإما السكوت وعدم الحلف بغيره، ولو كان ذلك الغير بالغاً من التعظيم اللائق به ما بلغ    كأنبياء الله ورسله وملائكته والكعبة، فلا يجوز أن يقول المسلم في حلفه: والنبي، وجبريل، والكعبة، وبيت الله، وحياتي، وحياتك، وحياة فلان، وغير ذلك من المخلوقات، لأن الحلف بغير الله لا يرضاه الله ولا يرضاه رسوله صلى الله عليه وسلم، بل جاءت سنة المصطفى ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ بتحريمه والتحذير منه، وتقدم في الكلام على هذا الحديث ذكر بعض الأحاديث الصريحة في ذلك، وقد قال الله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا}الحشر7،  وقد نهانا ـ صلوات الله وسلامه عليه ـ أن نحلف بغير الله فيتحتم علينا الانتهاء عن ذلك، وقال سبحانه وتعالى: {وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً مُّبِيناً }الأحزاب36، وقال تعالى: {فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}النور63.

اللهم أرنا الحق حقاً ووفقنا لاتباعه، وأرنا الباطل باطلاً ووفقنا لاجتنابه، ولا تجعله ملتبساً علينا فنضل.


 


(1) كذا ولعله ألفا حديث، كما سيأتي في لطائف إسناد الحديث العشرين.



بحث عن بحث