حديث ( لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه )

 

قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب الإيمان) من صحيحه:

حدثنا يعقوب بن إبراهيم قال حدثنا ابن علية عن عبد العزيز بن صهيب عن أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم (ح) وحدثنا آدم قال حدثنا شعبة عن قتادة عن أنس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده والناس أجمعين)).

المبحث الأول/ التخريج:

هذا الحديث أورده الإمام البخاري في صحيحه في موضع واحد في (باب حب الرسول الله صلى الله عليه وسلم من الإيمان)، أورده عقب حديث أبي هريرة رضي الله عنه، ولفظه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((فوالذي نفسي بيده، لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من والده وولده)).

وروى مسلم حديث أنس هذا في (كتاب الإيمان) من صحيحه فقال: وحدثني زهير بن حرب حدثنا إسماعيل بن علية (ح) وحدثنا شيبان بن أبي شيبة حدثنا عبد الوارث كلاهما عن عبد العزيز عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن عبد ـ وفي حديث عبد الوارث (الرجل) ـ حتى أكون أحب إليه من أهله وماله والناس أجمعين)). حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة يحدث عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)).

ورواه النسائي في (باب علامة الإيمان) فقال: أخبرنا حميد بن مسعدة قال حدثنا بشر ـ يعنى ابن المفضل ـ قال حدثنا شعبة عن قتادة أنه سمع أنساً يقول: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)). أخبرنا الحسين بن حريث قال: أنبأنا إسماعيل عن عبد العزيز (ح) وأنبأنا عمران بن موسى قال حدثنا عبد الوارث قال حدثنا عبد العزيز عن أنس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ماله وأهله والناس أجمعين)).

ورواه ابن ماجه في أوائل سننه فقال: حدثنا محمد بن بشار ومحمد بن المثنى قالا: حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة قال: سمعت قتادة عن أنس بن مالك قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين)). وأخرجه الإمام أحمد في مسنده.

 

المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:

أول رجال الإسناد الأول: شيخ البخاري يعقوب بن إبراهيم: قال الحافظ في (التقريب): يعقوب بن إبراهيم بن كثير بن أفلح العبدي مولاهم، أبو يوسف الدورقي، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ـ أي بعد المائتين ـ وله ست وتسعون سنة، وكان من الحفاظ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): روى عن يحيى بن أبي زائدة، ومعتمر بن سليمان، وعبد العزيز بن أبي حازم، وخلق. وعنه الجماعة.

قال الخطيب: كان حافظاً متقناً، صنف المسند. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): العبدي مولى عبد القيس، أبو يوسف الدورقي، الحافظ البغدادي.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): يكنى أبا يوسف أخو أحمد القيسي مولى لعبد القيس، وليس من بلد دورق، وإنما كانوا يلبسون قلانس تسمى الدورقية فنسبوا إليها. وقال: قال أبو العباس السراج: ولد يعقوب سنة ست وستين ومائة وكان بينه وبين أخيه أحمد سنتان، ومات سنة اثنتين وخمسين ومائتين.

الثاني: ابن علية: قال الحافظ في (التقريب): إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم الأسدي مولاهم، أبو بشر البصري، المعروف بابن علية، ثقة حافظ، من الثامنة، مات سنة ثلاث وتسعين ـ أي بعد المائة ـ وهو ابن ثلاث وثمانين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): الأسدي البصري، مولى بني أسد بن خزيمة، يكنى أبا بشر، وأمه علية مولاة لبني أسد، ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيق الأئمة له وثناءهم عليه، ومن ذلك قول شعبة: ((إسماعيل بن علية ريحانة الفقهاء))، وقوله أيضاً: ((ابن علية سيد المحدثين))، وقول أحمد: ((إليه المنتهى في التثبت بالبصرة))، وقول ابن المديني: ((ما أقول إن أحداً أثبت في الحديث من ابن علية)). انتهى. وقال الذهبي في (الميزان): ((وكان حافظاً فقيهاً كبير القدر)).

الثالث: عبد العزيز بن صهيب: قال الحافظ في (التقريب): عبد العزيز بن صهيب البناني ـ بموحدة ونونين ـ البصري، ثقة، من الرابعة، مات سنة ثلاثين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): عبد العزيز بن صهيب البناني بن سعد بن لؤي بن غالب مولاهم، البصري، عن أنس وشهر. عنه شعبة والحمادان. وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): البناني مولاهم، البصري الأعمى. ونقل توثيقه عن أحمد، وابن معين، وابن سعد، والنسائي، والعجلي.

الرابع: صحابي الحديث في الإسنادين أنس بن مالك رضي الله عنه، وتقدم في رجال إسناد الحديث السادس.

أما بقية رجال الإسناد الثاني فأوّلهم: شيخ البخاري آدم بن أبي إياس، وقد تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر.

الثاني: شعبة بن الحجاج، وتقدم في رجال إسناد الحديث العاشر أيضاً.

الثالث: قتادة، قال في (التقريب): قتادة بن دعامة السدوسي، أبو الخطاب البصري، ثقة ثبت، يقال: ولد أكمه، وهو رأس الطبقة الرابعة، مات سنة بضع عشرة ـ أي بعد المائة ـ ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): أبو الخطاب البصري، الأكمه، أحد الأئمة الأعلام، حافظ مدلس، روى عن أنس، وابن المسيب، وابن سيرين، وخلق. وعنه أيوب، وحميد، وحسين المعلم، والأوزاعي، وشعبة، وعلقمة. انتهى.

وقال الذهبي في (الميزان): حافظ، ثقة، ثبت لكنه مدلس، ورمي بالقدر. قال يحيى بن معين: ((ومع هذا فاحتج به أصحاب الصحاح لاسيما إذا قال: حدثنا، مات كهلاً)). انتهى. وقال الحافظ في مقدمة الفتح: قتادة بن دعامة البصري، التابعي الجليل، أحد الأثبات المشهورين، كان يضرب به المثل في الحفظ، إلاّ أنه كان ربما دلس. وقال ابن معين: رمي بالقدر، وذكر ذلك عن جماعة. وأما أبو داود فقال: لم يثبت عندنا عن قتادة القول بالقدر، والله أعلم. واحتج به الجماعة. انتهى.

وترجم له في (تهذيب التهذيب) بأكثر من خمس صفحات، ومما ذكره من الثناء عليه قول ابن سيرين: ((قتادة هو أحفظ الناس))، وقول بكر بن عبد الله المزني: ((ما رأيت الذي هو أحفظ منه، ولا أجدر أن يؤدي الحديث كما سمعه))، ونقل عن بعض العلماء وصفه بالتدليس، ونقل عن بعضهم أنه روى عن جماعة لم يسمع منهم فهو متصف بالإرسال والتدليس.

 

المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه ما الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسنادين السبعة خرّج حديثهم أصحاب الكتب الستة إلاّ شيخ البخاري في الإسناد الثاني آدم بن أبي إياس فلم يرو له مسلم وابن ماجه.

(2) رجال الإسنادين السبعة بصريون إلاّ شيخي البخاري يعقوب فهو بغدادي وآدم عسقلاني نشأ ببغداد.

(3) يعقوب بن إبراهيم الدورقي شيخ البخاري وقد توفي قبله بأربع سنوات، وقد شاركه في الرواية عنه مباشرة بقية أصحاب الكتب الستة.

ومما يحسن ذكره هنا أن يعقوب بن إبراهيم هذا ومحمد بن بشار الملقب بنداراً ومحمد بن المثنى الملقب الزمن، قد ماتوا في سنة واحدة وهي سنة اثنتين وخمسين ومائتين، وكل واحد منهم شيخ لأصحاب الكتب الستة، وقد اتفقوا أيضاً في سنة الولادة إلاَّ أن يعقوب ولد قبلهما بسنة واحدة، حيث كانت ولادته سنة ست وستين ومائة، أما محمد بن بشار ومحمد بن المثنى فقد ولدا في السنة التي مات فيها حماد بن سلمة ـ أي سنة سبع وستين ومائة ـ ولهذا لما ذكر الحافظ ابن حجر محمد بن المثنى في (التقريب) قال: ((وكان هو وبندار فرسي رهان وماتا في سنة واحدة))، وللبخاري شيخ رابع توفي سنة اثنتين وخمسين ومائتين أيضاً وهو زياد بن أيوب الطوسي البغدادي، وولد في السنة التي ولد فيها يعقوب بن إبراهيم.

(4) رجال الإسناد الأول كلهم من الموالى إلا الصحابي أنس بن مالك رضي الله عنه، وابن علية أسدي ولاء من جهة أبيه وأمه.

(5) ابن علية: هو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، وعلية اسم أمه اشتهر بالنسبة إليها، وكان يقول: ((من قال لي ابن علية فقد اغتابني))، ومعرفة مثل هذه النسبة من الأمور المهمة في علم مصطلح الحديث، قال الحافظ ابن حجر في شرح نخبة الفكر: ((ومن المهم معرفة من نسب إلى غير أبيه كالمقداد بن الأسود نسب إلى الأسود الزهري، لكونه تبناه، وإنما هو مقداد بن عمرو، أو إلى أمه كابن علية وهو إسماعيل بن إبراهيم بن مقسم، أحد الثقات، وعلية اسم أمه اشتهر بها، وكان لا يحب أن يقال له ابن علية، ولهذا كان يقول الشافعي: أنبأنا إسماعيل الذي يقال له ابن علية)). انتهى.

فإذا ذكر مع اسمه اسم أبيه أو اسم أبيه وجده ثم ذكر منسوباً إلى أمه فإنه يتعين شيئان: أحدهما أن يعرب (ابن) في النسبة إلى أمه إعراب (ابن) في نسبته إلى أبيه، والثاني أن تثبت الألف في (ابن) في نسبته إلى أمه، وقد نبه على هذا النووي في شرحه لصحيح مسلم في (كتاب الإيمان) لما جاء ذكر المقداد بن عمرو بن الأسود الكندي وقال: ((ولهذا الاسم نظائر منها: عبد الله بن عمرو ابن أم مكتوم، وعبد الله بن أبي ابن سلول، وعبد الله بن مالك ابن بحينة، ومحمد بن عليّ ابن الحنفية، وإسماعيل بن إبراهيم ابن علية، وإسحاق بن إبراهيم ابن راهويه، ومحمد بن يزيد ابن ماجه، فكل هؤلاء ليس الأب فيهم ابناً لمن بعده، فيتعين أن يكتب (ابن) بالألف وأن يعرب بإعراب الابن المذكور أولاً، فأم مكتوم زوجة عمرو، وسلول زوجة أبي، وبحينة زوجة مالك وأم عبد الله، وكذلك الحنفية زوجة عليّ رضي الله عنه، وعلية زوجة إبراهيم، وراهويه هو إبراهيم والد إسحاق، وكذلك ماجه هو يزيد، فهما لقبان، والله أعلم)). ثم أشار إلى وجه ذكر النسبة إلى الأب والنسبة إلى الأم معاً في بعض الأحوال فقال: ومرادهم في هذا كله تعريف الشخص بوصفيه ليكمل تعريفه، فقد يكون الإنسان عارفاً بأحد وصفيه دون الآخر، فيجمعون بينهما ليتم التعريف لكل أحد.

(6) قتادة: هو ابن دعامة، ولا لبس في عدم نسبته في الإسناد لأنه ليس في رجال البخاري من يسمى قتادة سواه إلا قتادة بن النعمان صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(7) ذكر الحافظ ابن حجر في شرحه لنخبة الفكر: أن أرفع مراتب التعديل الوصف بأفعل، كأوثق الناس، أو أثبت الناس، أو إليه المنتهى في التثبت. انتهى.

وفي رجال هذا الإسناد من وصف بذلك، فابن علية قال فيه الإمام أحمد: إليه المنتهى في التثبت في البصرة. وقال فيه ابن المديني: ما أقول إن أحداً أثبت في الحديث من ابن علية. وقتادة بن دعامة، قال فيه ابن سيرين: قتادة هو أحفظ الناس. وقال بكر بن عبد الله المزني: ما رأيت الذي هو أحفظ منه، ولا أجدر أن يؤدي الحديث كما سمعه.

(8) قتادة من المعروفين بالتدليس، والراوي عنه في هذا الحديث شعبة بن الحجاج وهو لا يروى عنه إلا ما سمعه، وقد صرح بالسماع في روايته لهذا الحديث كما في سنن النسائي، وتقدم في التخريج. قال الحافظ ابن حجر في (الفتح) في شرحه لهذا الحديث: ورواية شعبة عن قتادة مأمون فيها من تدليس قتادة، لأنه كان لا يسمع منه إلا ما سمعه، وقد وقع التصريح به في هذا الحديث في رواية النسائي. انتهى.

(9) المتن المسوق رواية قتادة عن أنس، وهو قريب من سياق حديث أبي هريرة وفيه زيادة عليه: (والناس أجمعين)، أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في (الفتح) وقال: واقتصر ـ يعني البخاري ـ على سياق قتادة لموافقته لسياق حديث أبي هريرة رضي الله عنه.

(10) قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): ولفظ عبد العزيز مثله ـ يعني مثل لفظ قتادة ـ إلاَّ أنه قال كما رواه ابن خزيمة في صحيحه عن يعقوب شيخ البخاري بهذا الإسناد: (من أهله وماله) بدل (من والده وولده)، وكذا لمسلم من طريق ابن علية، وكذا للإسماعيلي من طريق عبد الوارث بن سعيد عن عبد العزيز ولفظه: ((لا يؤمن الرجل))، وهو أشمل من جهة، و(أحدكم) أشمل من جهة، وأشمل منهما رواية الأصيلي (لا يؤمن أحد)، فإن قيل: فسياق عبد العزيز مغاير لسياق قتادة، وصنيع البخاري يوهم اتحادهما في المعنى وليس كذلك، فالجواب: أن البخاري يصنع مثل هذا نظراً إلى أصل الحديث لا إلى خصوص ألفاظه. انتهى.

(11) ساق البخاري ـ رحمه الله ـ الإسناد الأول إلى آخره، ثم عطف عليه الإسناد الثاني ولم يحول الإسناد قبل الوصول إلى أنس رضي الله عنه وهو المروى عنه في الإسنادين معاً، ولعلّ السر في ذلك تغاير صيغة الرواية من أنس رضي الله عنه، فسياق روايته عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من طريق عبد العزيز بن صهيب: عن النبي صلى الله عليه وسلم، وسياق روايته من طريق قتادة: قال النبي صلى الله عليه وسلم.

(12) الإسنادان من أولهما إلى أنس رضي الله عنه متحدان سياقاً، فالبخاري يقول في الرواية عن كل من شيخيه: حدثنا، وكل من شيخيه يقول عن شيخه: حدثنا، وشيخا شيخيه ابن علية وشعبة كل منهما يقول عن شيخه: عن، وقتادة وعبد العزيز يقولان: عن أنس رضي الله عنه.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

(1) قوله (لا يؤمن أحدكم حتى أكون أحب إليه...) الخ: قال الحافظ ابن حجر: أي إيماناً كاملاً. قال الشيخ عبد الرؤوف المناوي في (فيض القدير): أي إيماناً كاملاً. وقال في قوله: (حتى أكون أحب إليه): غاية لنفي كمال الإيمان، ومن كمل إيمانه علم أن حقيقة الإيمان لا تتم إلا بترجيح حبه على حب كل من ولده ووالده والناس أجمعين.

وقال الشيخ عبد الرحمن بن حسن في (فتح المجيد): (لا يؤمن أحدكم): أي الإيمان الواجب والمراد كماله، حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إلى العبد من ولده ووالده والناس أجمعين، بل ولا يحصل هذا الكمال إلاّ بأن يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه كما في الحديث أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: ((يا رسول الله، لأنت أحب إلي من كل شيء إلاّ من نفسي. فقال:" والذي نفسي بيده حتى أكون أحب إليك من نفسك "، فقال له عمر: فإنك الآن أحب إليَّ من نفسي. فقال:" الآن يا عمر "))، رواه البخاري، فمن قال: أن المنفى هو الكمال، فإن أراد الكمال الواجب الذي يذم تاركه ويتعرض للعقوبة فقد صدق، وإن أراد أن المنفي الكمال المستحب، فهذا لم يقع قط في كلام الله ورسوله صلى الله عليه وسلم. قاله شيخ الإسلام ـ رحمه الله ـ، فمن ادعى محبة النبي صلى الله عليه وسلم بدون متابعته وتقديم قوله على قول غيره فقد كذب كما قال تعالى:{ وَيَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالرَّسُولِ وَأَطَعْنَا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِّنْهُم مِّن بَعْدِ ذَلِكَ وَمَا أُوْلَئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ }، فنفي الإيمان عمن تولى عن طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، لكن كل مسلم يكون محباً بقدر ما معه من الإسلام، وكل مسلم لابد أن يكون مؤمناً وإن لم يكن مؤمناً الإيمان المطلق، لأن ذلك لا يحصل إلاَّ لخواص المؤمنين.

وقال الشيخ سليمان بن عبد الله بن شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في كتابه (تيسير العزيز الحميد): لا يؤمن أحدكم: أي لا يحصل له الإيمان الذي تبرأ به ذمته ويستحق به دخول الجنة بلا عذاب حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من أهله وولده ووالده والناس أجمعين، بل لا يحصل له ذلك حتى يكون الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه من نفسه أيضاً كما في حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه فساقه، وقال: فمن لم يكن كذلك فهو من أصحاب الكبائر إذا لم يكن كافراً، فإنه لا يعهد في لسان الشرع نفي اسم مسمى أمر الله به ورسوله إلا إذا ترك بعض واجباته، فأما إذا كان الفعل مستحباً في العبادة لم ينفها لانتفاء المستحب.

وقال أيضاً: وأكثر الناس يدَّعي أن الرسول صلى الله عليه وسلم أحب إليه مما ذكر فلابد من تصديق ذلك بالعمل والمتابعة له وإلاَّ فالمدَّعي كاذب، فإن القرآن بين أن المحبة التي في القلب تستلزم العمل الظاهر بحسبها كما قال تعالى: {قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ}.

(2) قوله (حتى أكون أحب إليه من والده وولده): ورد في بعض الروايات عند مسلم وغيره: (من أهله وماله) بدل (من والده وولده)، قال الحافظ ابن حجر: وذكر الولد والوالد أدخل في المعنى لأنهما أعزّ على العاقل من الأهل والمال، بل يكونان أعزّ من نفسه.

(3) قوله (من والده): لفظ الوالد يشمل الوالدة إن أريد به من له الولد، أو يقال: اكتفى بذكر أحدهما كما يكتفى عن أحد الضدين بالآخر. قاله الحافظ ابن حجر في (الفتح).

(4) قوله (والناس أجمعين): وذكره بعد الوالد والولد من عطف العام على الخاص، وهل يشمل النفس؟ قال الحافظ في (الفتح): الظاهر دخوله. انتهى. وتقدم حديث عمر الذي هو نص في نفس الإنسان، ويدل على ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم: ((ثلاث من كن فيه وجد بهن حلاوة الإيمان: أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما))، فإن النفس مما سواهما.

(5) قوله (من والده وولده): قدّم الوالد على الولد في رواية أنس هذه ورواية أبي هريرة عند البخاري، والسر في ذلك تقدمه في الزمان والإجلال، أو للأكثرية، لأن كل أحد له والد من غير عكس، وقدّم الولد على الوالد في رواية النسائي لمزيد الشفقة.

(6) وهل الحكم الذي اشتمل عليه هذا الحديث يكون لسائر الأنبياء والمرسلين أيضاً؟ قال الحافظ في (الفتح): محبة جميع الرسل من الإيمان، لكن الأحبية مختصة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(7) قال الحافظ في (الفتح): ومن علامة الحب المذكور أن يعرض على المرء لو خيِّرَ بين فقد غرض من أغراضه أو فقد رؤية النبي صلى الله عليه وسلم ـ أن لو كانت ممكنة ـ، فإن كان فقدها ـ أن لو كانت ممكنة ـ أشد عليه من فقد شيء من أغراضه، فقد اتصف بالأحبية المذكورة ومن لا فلا، وليس ذلك محصوراً في الوجود والفقد، بل يأتي مثله في نصر سنته والذَبِّ عن شريعته وقمع مخالفيها، ويدخل فيه باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر. ونقل عن النووي أنه قال: فيه تلميح إلى قضية النفس الأمارة والمطمئنة، فإن من رجّح جانب المطمئنة كان حبه للنبي صلى الله عليه وسلم راجحاً، ومن رجّح جانب الأمارة كان حكمه بالعكس. انتهى.

ومعنى ذلك: أن لو تعارض عند الإنسان فعل شيء يحبه الله ورسوله قد أمر النبي صلى الله عليه وسلم بفعله، ونفسه الأمارة بالسوء لا ترتاح إلى فعله، فإن قدّم فعل ما شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما تهواه نفسه حصل له الاتصاف بالأحبية المذكورة في الحديث، وإن قدّم ما تهواه نفسه كان بالعكس. وقال الكرماني: ومحبة الرسول صلى الله عليه وسلم إرادة طاعته وترك مخالفته، وهو من واجبات الإسلام.

وقال ابن القيم في النونية:

فهـو المطاع وأمره العالي على      *   أمر الورى وأمــر ذي السلطان

وهـو المقدم في محبتنــا على     *   الأهليــن والأزواج والولـدان

وعلى العباد جميعهم حتى على الـ  *   ـنفس التي قـد ضمهـا الجنبان

 (8) السر في الأحبية الثابتة في الحديث: كونه صلى الله عليه وسلم سبب هداية الناس الذين بعثه الله إليهم، إذ أخرجهم الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، فلما كان سبب المحبة بين المحب والمحبوب ما يحصل من النفع للمحب، كانت محبة الرسول صلى الله عليه وسلم مقدمة على محبة أعزّ الناس إلى الإنسان، لأن النفع الذي حصل للمسلم بسبب الرسول صلى الله عليه وسلم هو بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، ولهذا كان للنبي صلى الله عليه وسلم أجر عمله ومثل أجور من آمن به من حين بعثه الله إلى قيام الساعة، لأنه صلى الله عليه وسلم هو الذي دلّ الناس على الخير، ومن دلَّ على هدى كان له من الأجر مثل أجور من فعله كما ثبت ذلك عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.

(9) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:

(1) وجوب تقديم محبة الرسول صلى الله عليه وسلم على أعزّ الناس إلى الإنسان.

(2) أن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم واجبة وهي تابعة لمحبة الله لازمة لها.

(3) أن الأعمال من الإيمان لأن المحبة عمل القلب.

(4) أنه قد ينفى الإيمان عن شخص ولا يخرج بذلك عن الإسلام.

(5) أنه إذا كان هذا شأن محبة الرسول صلى الله عليه وسلم فما الظن بمحبة الله؟

(6) الإشارة إلى ما يجب للوالد من التوقير والإجلال، وما يجب للولد من الشفقة.

(7) البدء بالأهم فالمهم.

(8) الإشارة إلى أهمية التفكر لأن الأحبية المذكورة تعرف به وذلك أن محبوب الإنسان إما نفسه وإما غيرها، أما نفسه فهو أن يريد بقاءها سالمة من الآفات، هذا حقيقة المطلوب، وأما غيرها فإذا حقق الأمر فيه فإنما هو بسبب تحصيل نفع ما على وجوهه المختلفة حالاً ومآلاً، فإذا تأمل النفع الحاصل له من جهة الرسول صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه الله به من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، إما بالمباشرة وإما بالسبب، علم أنه سبب بقاء نفسه البقاء الأبدي في النعيم السرمدي، وعلم أن نفعه بذلك أعظم من جميع وجوه الانتفاعات، فاستحق لذلك أن يكون حظه من محبته أوفر من غيره، لأن النفع الذي يثير المحبة حاصل منه أكثر من غيره، ولكن الناس يتفاوتون في ذلك بحسب استحضار ذلك والغفلة عنه، ولا شك أن حظ الصحابة رضوان الله عليهم من هذا المعنى أتم، لأن هذا ثمرة المعرفة وهم بها أعلم، والله الموفق. قاله الحافظ ابن حجر ـ رحمه الله ـ في مؤلفه العظيم (فتح الباري).



بحث عن بحث