حديث: ( من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله )

 

قال البخاري ـ رحمه الله ـ في (كتاب فرض الخمس) من صحيحه:

حدثنا محمد بن بشار حدثنا غندر حدثنا شعبة عن عمرو قال سمعت أبا وائل قال: حدثنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه قال: ((قال أعرابي للنبي صلى الله عليه وسلم: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليرى مكانه، من في سبيل الله؟ فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).

 

المبحث الأول/ التخريج:

هذا الحديث أورده الإمام البخاري في أربعة مواضع من صحيحه هذا أحدها في (باب من قاتل للمغنم هل ينقص من أجره)، والثاني في (كتاب العلم، باب من سأل وهو قائم عالماً جالساً)، ولفظه: حدثنا عثمان قال أخبرنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن أبي موسى قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، ما القتال في سبيل الله، فإن أحدنا يقاتل غضباً ويقاتل حمية؟ فرفع إليه رأسه، قال: وما رفع إليه رأسه إلاّ أنه كان قائماً، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عزوجل)). والثالث في (كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا)، ولفظه: حدثنا سليمان بن حرب حدثنا شعبة عن عمرو عن أبي وائل عن أبي موسى رضي الله عنه قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)). والرابع في (كتاب التوحيد، باب: { ولقد سبقت كلمتنا لعبادنا المرسلين }، ولفظه: حدثنا محمد بن كثير حدثنا سفيان عن الأعمش عن أبي وائل عن أبي موسى قال: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل حمية، ويقاتل شجاعة، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).

وأخرجه الإمام مسلم في (كتاب الجهاد) من صحيحه فقال: حدثنا محمد بن المثنى وابن بشار ـ واللفظ لابن المثنى ـ قالا حدثنا محمد بن جعفر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة قال: سمعت أبا وائل قال: حدثنا أبو موسى الأشعري رضي الله عنه: ((أن رجلاً أعرابياً أتى النبي صلى الله عليه وسلم فقال:يا رسول الله، الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل ليذكر، والرجل يقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله أعلى فهو في سبيل الله)). حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة وابن نمير وإسحاق بن إبراهيم ومحمد بن العلاء، قال إسحاق: أخبرنا، وقال الآخرون: حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن أبي موسى قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)). وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا عيسى بن يونس حدثنا الأعمش عن شقيق عن أبي موسى قال: ((أتينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلنا: يا رسول الله، الرجل يقاتل منا شجاعة فذكر مثله. وحدثنا إسحاق بن إبراهيم أخبرنا جرير عن منصور عن أبي وائل عن أبي موسى الأشعري: ((أن رجلاً سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن القتال في سبيل الله عزوجل فقال: الرجل يقاتل غضباً، ويقاتل حمية، قال: فرفع رأسه إليه، وما رفع رأسه إليه إلاّ أنه كان قائماً، فقال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).

ورواه أبو داود في سننه في (كتاب الجهاد، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)، فقال: حدثنا حفص بن عمر حدثنا شعبة عن عمرو بن مرة عن أبي وائل عن أبي موسى: أن أعرابياً جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن الرجل يقاتل للذكر، ويقاتل ليحمد، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل حتى تكون كلمة الله هي أعلى، فهو في سبيل الله عزوجل)). حدثنا عليّ بن مسلم حدثنا أبو داود عن شعبة عن عمرو قال: سمعت من أبي وائل حديثا أعجبني فذكر معناه.

وأخرجه النسائي في (الجهاد) من سننه (باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا) فقال: أخبرنا إسماعيل بن مسعود قال حدثنا خالد قال حدثنا شعبة أن عمرو بن مرة أخبرهم قال: سمعت أبا وائل قال: حدثنا أبو موسى الأشعري قال: ((جاء أعرابي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: الرجل يقاتل ليذكر، ويقاتل ليغنم، ويقاتل ليرى مكانه، فمن في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله عزوجل)).

ورواه الترمذي في جامعه في (أبواب الجهاد، باب ما جاء فيمن يقاتل رياء وللدنيا)، فقال: حدثنا هناد، حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق بن سلمة عن أبي موسى قال: ((سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فأي ذلك في سبيل الله؟ قال: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)). قال أبو عيسى: وفي الباب: عن عمر، وهذا حديث حسن صحيح.

ورواه ابن ماجه في (كتاب الجهاد) من سننه (باب النية في القتال)، فقال: حدثنا محمد بن عبد الله بن نمير حدثنا أبو معاوية عن الأعمش عن شقيق عن أبي موسى قال: ((سئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)).

وأخرجه أيضاً الإمام أحمد في مسنده، وأخرجه أبو نعيم في (الحلية) في ترجمة عمرو بن مرة، وفي ترجمة سفيان الثوري، وأخرجه أبو داود الطيالسي في مسنده.

 

المبحث الثاني/ التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري محمد بن بشار: قال الحافظ في (التقريب): محمد بن بشار بن عثمان العبدي البصري، أبو بكر بندار، ثقة، من العاشرة، مات سنة اثنتين وخمسين ـ أي بعد المائتين ـ وله بضع وثمانون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): يلقب بنداراً، لأنه كان بنداراً في الحديث جمع حديث البصرة، وكان ممن يحفظ حديثه، سمع محمد بن جعفر غندراً، وابن أبي عدي محمداً، وعبد الوهاب الثقفي، وغير واحد عندهما. روى عنه البخاري، ومسلم وأكثر، ولد سنة سبع وستين ومائة، في السنة التي مات فيها حماد بن سلمة.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): روى عنه الجماعة، وابن خزيمة، وابن صاعد، وخلق. وقال عنه أبو بكر البصري: الحافظ بندار، أحد أوعية العلم. ونقل الحافظ في مقدمة الفتح توثيقه عن العجلي، والنسائي، وابن خزيمة، وسماه إمام أهل زمانه، والفرهياني، والذهلي، ومسلمة، وأبي حاتم الرازي. وقال الذهبي في (الميزان): قد احتج به أصحاب الصحاح كلهم، وهو حجة بلا ريب، وقال: كان من أوعية العلم.

الثاني: غندر ـ واسمه محمد بن جعفر ـ: قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): محمد بن جعفر الهذلي مولاهم، أبو عبد الله البصري، المعروف بغندر، صاحب الكرابيس، روى عن شعبة فأكثر، وجالسه نحواً من عشرين سنة، وكان ربيبه، وذكر جماعة روى عنهم، ثم ذكر بعض الذين رووا عنه ومنهم: أحمد بن حنبل، وإسحاق بن راهويه، ويحيى بن معين، وعليّ بن المديني، وبندار.

وقال في (تقريب التهذيب): ثقة، صحيح الكتاب إلاّ أن فيه غفلة، من التاسعة، مات سنة ثلاث أو أربع وتسعين ـ أي بعد المائة ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في مقدمة الفتح: أحد الأثبات المتقنين، من أصحاب شعبة، اعتمده الأئمة كلهم، حتى قال عليّ بن المديني: ((هو أحب إليَّ من عبد الرحمن بن مهدي في شعبة)). وقال ابن المبارك: ((إذا اختلف الناس في شعبة، فكتاب غندر حكم بينهم)). لكن قال أبو حاتم: ((يكتب حديثه عن غير شعبة ولا يحتج به)). قلت: أخرج البخاري له عن شعبة كثيراً، وأخرج له حديثاً عن معمر، وآخر عن عبد الله بن سعيد بن أبي هند توبع فيهما، وروى له الباقون. انتهى.

وقال الذهبي في (الميزان): أحد الأثبات المتقنين ولاسيما في شعبة، وقال: وقال يحيى بن معين: ((كان غندر أصح الناس كتاباً، أراد بعض الناس أن يخطئه فلم يقدر، أخرج إلينا كتاباً، وقال: اجهدوا أن تخرجوا فيه خطأ. فما وجدنا شيئاً، وكان يصوم يوماً ويفطر يوماً منذ خمسين سنة)).

الثالث: شعبة ـ وهو ابن الحجاج ـ: تقدم في رجال إسناد الحديث العاشر.

الرابع: عمرو ـ وهو ابن مرة ـ كما في الإسناد عند مسلم وتقدم في التخريج.

قال في (تقريب التهذيب): عمرو بن مرة بن عبد الله بن طارق الجملي ـ بفتح الجيم والميم ـ المرادي، أبو عبد الله الكوفي الأعمى، ثقة عابد، كان لا يدلس ورمي بالإرجاء، من الخامسة، مات سنة ثمان عشرة ومائة، وقيل: قبلها، ورمز لكونه من رجال الجماعة. وقال في مقدمة الفتح: أحد الأثبات، من صغار التابعين، متفق على توثيقه إلا أن بعضهم تكلم فيه لأنه كان يرى الإرجاء. وقال شعبة: كان لا يدلس، وقد احتج به الجماعة. ونقل في (تهذيب التهذيب) ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول مسعر: ((لم يكن بالكوفة أحب إلي ولا أفضل منه))، وقوله: كان عمرو من معادن الصدق.

الخامس: أبو وائل ـ وهو شقيق بن سلمة ـ: قال الحافظ في (تقريب التهذيب): شقيق بن سلمة الأسدي، أبو وائل، الكوفي، ثقة مخضرم، مات في خلافة عمر بن عبد العزيز وله مائة سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة

 وقال الخزرجي في (الخلاصة): أحد سادة التابعين مخضرم، عن أبي بكر، وعمر، وعثمان، وعليّ، ومعاذ بن جبل، وطائفة. وعنه الشعبي، وعمرو بن مرة، ومغيرة بن مقسم، ومنصور، وزبيد. وذكر في (تهذيب التهذيب) توثيق الأئمة له وثناءهم عليه، ومن ذلك: قول ابن معين: ثقة لا يسأل عن مثله. وقول ابن عبد البر: أجمعوا على أنه ثقة.

السادس: صحابي الحديث أبو موسى الأشعري رضي الله عنه، وقد تقدم في رجال إسناد الحديث الخامس.

 

المبحث الثالث/ لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسناد الستة اتفق أصحاب الكتب الستة على إخراج حديثهم، فهو مسلسل بالرواة الذين خرج لهم البخاري ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وابن ماجه.

(2) النصف الأعلى من رجال الإسناد كوفيون وهم: أبو موسى وأبو وائل وعمرو بن مرة، والنصف الأدنى بصريون وهم: شعبة وغندر وبندار.

(3) شيخ البخاري محمد بن بشار يلقب بنداراً، و قد اشتهر بلقبه وهو شيخ لبقية أصحاب الكتب الستة أيضاً كل منهم روى عنه مباشرة.

(4) شيخ شيخ البخاري غندر وهو لقب اشتهر به كما اشتهر باسمه أيضاً، وهو محمد بن جعفر، وقد ذكر هنا باللقب، كما يذكر في مواضع من صحيح البخاري بالاسم أيضاً، وقد ذكر بالاسم في سند هذا الحديث عند مسلم كما تقدم في التخريج.

(5) أبو وائل الراوي عن أبي موسى، اسمه شقيق بن سلمة، وقد اشتهر بكنيته كما اشتهر باسمه، وقد جاء ذكره في رجال إسناد هذا الحديث عند مسلم بالاسم وبالكنية كما تقدم في التخريج، كما ورد ذكره بالاسم في إسناد هذا الحديث عند الترمذي وابن ماجه كما في التخريج أيضاً، ومعرفة مثل ذلك من الأمور المهمة في مصطلح الحديث، قال الحافظ في شرحه لنخبة الفكر: ((ومن المهم في هذا الفن معرفة كنى المسمين ممن اشتهر باسمه وله كنية، لا يؤمن أن يأتي في بعض الراوية مكنياً، لئلا يظن أنه آخر، ومعرفة أسماء المكنين وهو عكس الذي قبله)). انتهى.

(6) في الإسناد تابعيان وهما: أبو وائل وعمرو بن مرة، فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

(7) هذا الحديث رواه البخاري من طريقين إلى شعبة، في (كتاب الجهاد) بينه وبين شعبة سليمان بن حرب، وفي (كتاب فرض الخمس) بينه وبينه واسطتان: محمد بن بشار وغندر، وإنما رواه نازلاً هنا مع روايته له عالياً في (كتاب الجهاد) إشارة إلى تعدد الطرق إلى شعبة، ولأن الطريق النازلة فيها ميزة وهي: أن الراوي فيها عن شعبة محمد بن جعفر الملقب بغندر، وهو أثبت الناس في شعبة كما تقدمت الإشارة إلى ذلك في أقوال الأئمة في ترجمته، وقد أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر في شرحه لحديث أورده البخاري في (كتاب الإيمان) من طريقين في (باب ظلم دون ظلم)، روى الحديث في إحدى الطريقين عالياً بينه وبين شعبة أبو الوليد الطيالسي، ورواه نازلاً في الطريق الأخرى بينه وبين شعبة بشر بن خالد ومحمد بن جعفر المعروف بغندر، قال الحافظ: وغندر أثبت الناس في شعبة ولهذا أخرج المؤلف روايته مع كونه أخرج الحديث عالياً عن أبي الوليد. انتهى.

 

المبحث الرابع/ شرح الحديث:

(1) الأعرابي السائل في هذا الحديث: قال الحافظ ابن حجر في (الفتح): يصلح أن يفسر بلاحق بن ضميرة، وحديثه عند أبي موسى المديني في الصحابة. من طريق عفير بن معدان سمعت لاحق بن ضميرة الباهلي قال: ((وفدت على النبي صلى الله عليه وسلم فسألته عن الرجل يلتمس الأجر والذكر، فقال: لا شيء له)) الحديث. وفي إسناده ضعف. انتهى.

(2) قوله (يقاتل للمغنم أي لطلب الغنيمة. والرجل يقاتل ليذكر): أي ليذكر بين الناس ويشتهر بالشجاعة، وفي بعض روايات هذا الحديث: ((ويقاتل شجاعة))، وقوله: (ويقاتل ليرى مكانه): وفي رواية: (ويقاتل رياء)، وفي رواية: (ويقاتل حمية)، وفي رواية: (ويقاتل غضباً): قال الحافظ ابن حجر بعد الإشارة إلى تلك الروايات: فالحاصل من رواياتهم أن القتال يقع بسبب خمسة أشياء: طلب المغنم، وإظهار الشجاعة، والرياء، والحمية، والغضب. وكل منها يتناوله المدح والذم فلهذا لم يحصل الجواب بالإثبات ولا بالنفي.

(3) قوله (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا): قال الحافظ في (الفتح): المراد بكلمة الله: دعوة الله إلى الإسلام، ويحتمل أن يكون المراد: أنه لا يكون في سبيل الله إلا من كان سبب قتاله طلب إعلاء كلمة الله فقط، بمعنى أن لو أضاف إلى ذلك سبباً من الأسباب المذكورة أخل بذلك، ويحتمل أن لا يخل إذا حصل ضمناً لا أصلاً ومقصوداً، وبذلك صرح الطبري فقال: إذا كان أصل الباعث هو الأوّل لا يضره ما عرض له بعد ذلك، وبذلك قال الجمهور، لكن روى أبو داود والنسائي من حديث أبي أمامة بإسناد جيد قال: جاء رجل فقال: ((يا رسول الله، أرأيت رجلاً غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟ قال: لا شيء له))، فأعادها ثلاثاً كل ذلك يقول: لا شيء له. ثم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله لا يقبل من العمل إلاّ ما كان له خالصاً وابتُغي به وجهه))، ويمكن أن يحمل هذا على من قصد الأمرين معاً على حد واحد، فلا يخالف المرجح أولا فتصير المراتب خمساً، أن يقصد الشيئين معاً، أو يقصد أحدهما صرفاً، أو يقصد أحدهما ويحصل الآخر ضمناً، فالمحذور أن يقصد غير الإعلاء، فقد يحصل الإعلاء ضمناً وقد لا يحصل، ويدخل تحته مرتبتان، وهذا ما دل عليه حديث أبي موسى ودونه أن يقصدهما معاً فهو محذور أيضاً على ما دل عليه حديث أبي أمامة، والمطلوب أن يقصد الإعلاء صرفاً، وقد يحصل غير الإعلاء وقد لا يحصل، ففيه مرتبتان أيضاً، قال ابن أبي جمرة: ((ذهب المحققون إلى أنه إذا كان الباعث الأوّل قصد إعلاء كلمة الله لم يضره ما انضاف إليه)). انتهى، ويدل على أن دخول غير الإعلاء ضمناً لا يقدح في الإعلاء، إذا كان الإعلاء هو الباعث الأصلي، ما رواه أبو داود بإسناد حسن عن عبد الله بن حوالة قال: ((بعثنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على أقدامنا لنغنم، فرجعنا ولم نغنم شيئاً، فقال: اللهم لا تكلهم إليَّ)) الحديث.

(4) (كلمة الله): في هذا الحديث بينها رسول الله صلى الله عليه وسلم في قوله: ((أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، ويقيموا الصلاة، ويؤتوا الزكاة، فإذا فعلوا ذلك عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحق الإسلام وحسابهم على الله))، وهو من إطلاق الكلمة مراداً بها الكلام ومنه قوله تعالى: { قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألاّ نعد إلا الله ولا نشرك به شيئا } الآية.

(5) قوله (فهو في سبيل الله): سبيل الله الطريق الموصلة إليه، وتطلق على كل ما شرعه الله، كما تطلق مراداً بها الجهاد الذي هو ذروة سنام الإسلام، ومن الأوّل قوله تعالى: { ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة }، ومن الثاني هذا الحديث.

(6) في إجابة النبي صلى الله عليه وسلم السائل بقوله: ((من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله): شاهد لما يعرف في فن البلاغة بأسلوب الحكيم، فإن هذا الجواب مشتمل على إجابته عما سأل عنه وزيادة مع اختصاره وإيجازه، وهو من جوامع كلمه صلى الله عليه وسلم، وذلك أنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله، احتمل أن يكون ما عدا ذلك كله في سبيل الله وليس كذلك، فعدل إلى لفظ جامع عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلى حال المقاتل، فتضمن الجواب وزيادة، ويحتمل أن يكون الضمير في قوله: (فهو) راجعاً إلى القتال الذي في ضمن (قاتل) أي: فقتاله قتال في سبيل الله، واشتمل طلب إعلاء كلمة الله على طلب رضاه، وطلب ثوابه، وطلب دحض أعدائه، وكلها متلازمة. قال ذلك الحافظ ابن حجر، وقال: قال ابن بطال: إنما عدل النبي صلى الله عليه وسلم عن لفظ جواب السائل لأن الغضب والحمية قد يكونان لله، فعدل النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك إلى لفظ جامع فأفاد دفع الإلباس وزيادة الإفهام.

(7) من فقه الحديث، وما يستنبط منه:

(1) الرجوع إلى العلماء وسؤالهم عن أمور الدين.

(2) بيان أن الأعمال إنما تحتسب بالنية الصالحة، والحديث شاهد لحديث: ((إنما الأعمال بالنيات)).

(3) أن الفضل الذي ورد في المجاهدين مختص بمن قاتل لتكون كلمة الله هي العليا.

(4) جواز السؤال عن العلة.

(5) تقدم العلم على العمل.

(6) ذم الحرص على الدنيا وعلى القتال لحظ النفس في غير الطاعة.

(7) إطلاق الكلمة مراداً بها الكلام.

(8) أن من حسن إجابة المفتي أن تكون فتواه وافية بغرض السائل وزيادة.



بحث عن بحث