قال الإمام البخاري ـ رحمه الله ـ في (بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم) 

حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري (ح) وحدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه قال: أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان يلقاه في كل ليلة من رمضان فيدارسه القرآن، فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم  أجود بالخير من الريح المرسلة)).

المبحث الأول: التخريج:

هذا الحديث أورده البخاري في خمسة مواضع من صحيحه هذا أحدها، والثاني في (كتاب الصيام، باب أجود ما كان النبي صلى الله عليه وسلم يكون في رمضان)، ولفظه: حدثنا موسى بن إسماعيل حدثنا إبراهيم بن سعد أخبرنا ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة أن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل عليه السلام يلقاه كل ليلة في رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه النبي صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل عليه السلام كان أجود بالخير من الريح المرسلة)).

والثالث: في (كتاب بدء الخلق، باب ذكر الملائكة)، ولفظه: حدثنا محمد بن مقاتل أخبرنا عبد الله أخبرنا يونس عن الزهري قال: حدثني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل، وكان جبريل يلقاه في كل ليلة من رمضان، فيدارسه القرآن، فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين يلقاه جبريل أجود بالخير من الريح المرسلة))، وعن عبد الله حدثنا معمر بهذا الإسناد نحوه، وروى أبو هريرة وفاطمة رضي الله عنهما عن النبي صلى الله عليه وسلم: ((أن جبريل كان يعارضه القرآن)).

والرابع: في (كتاب المناقب، باب صفة النبي صلى الله عليه وسلم)، رواه عن شيخه عبدان بسنده في هذا الحديث، وبمثل لفظه عند بشر بن محمد إلاّ أنه بدون (كان) في قوله ((وكان أجود ما يكون...)) الخ.

والخامس: في (كتاب فضائل القرآن، باب كان جبريل يعرض القرآن على النبي صلى الله عليه وسلم)، ولفظه: حدثنا يحيى بن قزعة حدثنا إبراهيم بن سعد عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير وأجود ما يكون في شهر رمضان، لأن جبريل كان يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة)).

وقد أخرج الإمام مسلم ـ رحمه الله ـ هذا الحديث في (كتاب الفضائل) من صحيحه، فقال: حدثنا منصور بن أبي مزاحم حدثنا إبراهيم ـ يعني ابن سعد ـ عن الزهري (ح) وحدثني أبو عمران محمد بن جعفر بن زياد ـ واللفظ له ـ أخبرنا إبراهيم عن ابن شهاب عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود عن ابن عباس قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بالخير، وكان أجود ما يكون في شهر رمضان، أن جبريل عليه السلام كان يلقاه في كل سنة في رمضان حتى ينسلخ فيعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن، فإذا لقيه كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة))، وحدثنا أبو بكر حدثنا ابن المبارك عن يونس (ح) وحدثنا عبد بن حميد أخبرنا عبد الرزاق أخبرنا معمر كلاهما عن الزهري بهذا الإسناد نحوه. وروى قبل ذلك بحديثين بسنده إلى أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن الناس، وكان أجود الناس، وكان أشجع الناس)).

وأخرج الحديث البخاري في (الأدب المفرد) عن شيخه موسى بن إسماعيل بمثل حديثه عنه في (كتاب الصيام) سنداً ومتناً.

وأخرجه النسائي في (كتاب الصوم، باب الفضل والجود في شهر رمضان)، عن شيخه سليمان بن داود عن ابن وهب عن يونس عن ابن شهاب عن عبيد الله عن ابن عباس بنحو هذا الحديث عند البخاري.

وأخرجه الإمام أحمد في مسنده من طرق عن الزهري عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنهما، وأخرج الجملة الأخيرة منه أبو نعيم في الحلية في ترجمة عبد الملك بن عمر بن عبد العزيز بسنده إلى عمر عن عبيد الله عن ابن عباس رضي الله عنه : ((أن النبي صلى الله عليه وسلم كان أجود من الريح المرسلة إذا نزل عليه جبريل عليه السلام يدارسه القرآن))، ثم قال غريب من حديث عمر لم نكتبه إلاّ من هذا الوجه.

المبحث الثاني: التعريف برجال الإسناد:

الأول: شيخ البخاري في الإسناد الأول عبدان. قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): عبد الله بن عثمان بن جبلة بن أبي رواد واسمه ميمون، وقيل: أيمن الأزدي العتكي، مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، الحافظ الملقب عبدان.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): روى عن شعبة، ومالك، وابن المبارك. وعنه البخاري، والذهلي، وخلق.

وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): قال أحمد بن عبدة: تصدق عبدان في حياته بألف ألف درهم، وكَتَبَ كُتُبَ ابن المبارك بقلم واحد. وذكر توثيقه عن أبي رجاء محمد بن حمدويه، وقول الحاكم: كان إمام أهل الحديث ببلده.

وقال في (التقريب): ثقة، حافظ من العاشرة، مات سنة إحدى وعشرين في شعبان ـ أي بعد المائتين ـ، ورمز لكونه من رجال الجماعة سوى ابن ماجه.

الثاني: شيخ البخاري في الإسناد الثاني بشر بن محمد. قال الخزرجي في (الخلاصة): بشر بن محمد السختياني أبو محمد المروزي، صدوق رمي بالإرجاء. عن ابن المبارك، وعنه البخاري، وقال: مات سنة أربع وعشرين ومائتين، وذكره ابن حبان في (الثقات) كما في (تهذيب التهذيب)، وهو من رجال البخاري دون بقية الجماعة.

الثالث: شيخ شيخي البخاري في الإسنادين عبد الله بن المبارك. قال الحافظ في (تهذيب التهذيب): عبد الله بن المبارك بن واضح الحنظلي التميمي، مولاهم، أبو عبد الرحمن المروزي، أحد الأئمة.

وقال في (تقريب التهذيب): ثقة، ثبت، فقيه، عالم، جواد، مجاهد، جمعت فيه خصال الخير، من الثامنة، مات سنة إحدى وثمانين ـ أي بعد المائة ـ، وله ثلاث وستون سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

وذكر في (تهذيب التهذيب) الكثير من ثناء الأئمة عليه، ومن ذلك قول ابن عيينة: ((نظرت في أمر الصحابة فما رأيت لهم فضلاً على ابن المبارك إلا بصحبتهم النبي صلى الله عليه وسلم، وغزوهم معه)). وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): سمع معمر بن راشد، ويونس بن يزيد، وغير واحد. وروى عنه عبد الرحمن بن مهدي، ومسلم بن إبراهيم، وغير واحد عند مسلم. وسرد في (تهذيب التهذيب) الكثير من أسماء شيوخه وتلامذته ومنهم: شيخاه وتلميذاه في هذا الحديث.

وقال الخزرجي في (الخلاصة): وترجمته كبيرة في الحلية لأبي نعيم، وتاريخ الحاكم.

الرابع: معمر بن راشد. قال الحافظ في (تقريب التهذيب): معمر بن راشد الأزدي، مولاهم، أبو عروة البصري نزيل اليمن، ثقة، ثبت، فاضل إلاّ أن في روايته عن ثابت والأعمش وهشام بن عروة شيئاً، وكذا فيما حدّث به بالبصرة، من كبار السابعة، مات سنة أربع وخمسين ـ أي بعد المائة ـ، وهو ابن ثمان وخمسين سنة، ورمز لكونه من رجال الجماعة.

 وقال في مقدمة الفتح: معمر بن راشد صاحب الزهري، كان من أثبت الناس فيه. وقال: أخرج له البخاري من روايته عن الزهري، وابن طاووس، وهمام بن منبه، ويحيى بن أبي كثير، وهشام بن عروة، وأيوب، وثمامة بن أنس، وعبد الكريم الجزري، وغيرهم، ولم يخرّج له من روايته عن قتادة ولا ثابت إلاّ تعليقاً، ولا من روايته عن الأعمش شيئاً، ولم يخرج له من رواية أهل البصرة عنه إلاّ ما توبعوا عليه عنه، واحتج به الأئمة كلهم. ونقل في (تهذيب التهذيب) توثيقه عن ابن معين، والعجلي، ويعقوب بن شيبة، والنسائي، وذكر كثيراً من ثناء الأئمة عليه.

الخامس والسادس: يونس بن يزيد الأيلي وشيخه ابن شهاب الزهري وقد تقدم التعريف بهما في رجال إسناد الحديث الأول.

السابع:عبيد الله بن عبد الله. قال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود أبو عبد الله الهذلي، حليف بني زهرة، أحد الفقهاء السبعة، سمع عبد الله بن عباس، وزيد بن خالد، وأبا هريرة، وأم قيس بنت محصن، وعائشة، وأبا سعيد الخدري عندهما ـ أي في الصحيحين ـ، وغير واحد عند مسلم. وروى عنه الزهري، وصالح بن كيسان، وموسى بن أبي عائشة عندهما، وغير واحد عند مسلم.

وقال الحافظ في (تقريب التهذيب): أبو عبد الله المدني، ثقة، فقيه، ثبت، من الثالثة، مات سنة أربع وتسعين، وقيل سنة ثمان، وقيل غير ذلك، ورمز لكونه من رجال الجماعة، ونقل في (تهذيب التهذيب) ثناء كثير من الأئمة عليه، وتوثيقهم له رحمه الله.

الثامن: صحابي الحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما.

قال الخزرجي في (الخلاصة): عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي، أبو العباس المكي ثم المدني ثم الطائفي، ابن عم النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، وحبر الأمة وفقيهها، وترجمان القرآن، روى ألفا وستمائة وستين حديثاً، اتفقا ـ أي البخاري ومسلم ـ على خمسة وسبعين، وانفرد البخاري بثمانية وعشرين، ومسلم بتسعة وأربعين. وقال أيضاً: ابن عباس سمع من النبي صلى الله عليه وسلم خمسة وعشرين حديثاً وباقي حديثه عن الصحابة، واتفقوا على قبول مرسل الصحابي.

وذكر الحافظ ابن حجر في مقدمة الفتح أن له عند البخاري مائتي حديث وسبعة عشر حديثاً. وقال في (تقريب التهذيب): ولد قبل الهجرة بثلاث سنين، ودعا له رسول الله صلى الله عليه وسلم بالفهم في القرآن، فكان يسمى البحر والحبر لسعة علمه. وقال: مات سنة ثمان وستين بالطائف، وهو أحد المكثرين من الصحابة، وأحد العبادلة من فقهاء الصحابة، ورمز لكون حديثه في الكتب الستة.

وقال المقدسي في (الجمع بين رجال الصحيحين): روى عنه سعيد بن جبير، وسعيد بن المسيب، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة، والقاسم بن محمد بن أبي بكر، وجماعة من التابعين عندهما،  أي الصحيحين.

وقال الحافظ في (تهذيب التهذيب): فائدة: روي عن غندر أن ابن عباس لم يسمع من النبي صلى الله عليه وسلم إلاّ تسعة أحاديث، وعن يحيى القطان عشرة، وقال الغزالي في (المستصفى): أربعة، وفيه نظر، ففي الصحيحين عن ابن عباس مما صرّح فيه بسماعه من النبي صلى الله عليه وسلم أكثر من عشرة، وفيهما مما يشهد فعله نحو ذلك، وفيهما مما له حكم الصريح نحو ذلك فضلا عما ليس في الصحيحين.

المبحث الثالث، لطائف الإسناد وما فيه من الشواهد التطبيقية لعلم مصطلح الحديث:

(1) رجال الإسنادين الثمانية خرّج أصحاب الكتب الستة حديثهم إلاّ شيخ البخاري في الإسناد الأول عبدان فلم يرو له ابن ماجه وروى له الباقون. وشيخه في الإسناد الثاني بشر بن محمد، فقد انفرد البخاري بإخراج حديثه.

(2) في سند الحديث تابعيان مدنيان هما: ابن شهاب الزهري، وشيخه عبيد الله بن عبد الله فالحديث من رواية تابعي عن تابعي.

(3) في سند الحديث ثلاثة مروزيون وهم: شيخا البخاري: عبدان وبشر، وشيخ شيخيه: عبد الله بن المبارك.

(4) في سند الحديث أزديان ولاء وهما: شيخ البخاري عبدان، ومعمر بن راشد شيخ عبد الله بن المبارك.

(5) حرف (ح) يفيد تحويل الإسناد من إسناد إلى آخر، والفائدة من ذلك هي الاختصار وتلافي تكرار الأسماء، ومنتهى الإسنادين الزهري، ومنه يكون الإسناد واحداً هكذا.

قال البخاري: حدثنا عبدان قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس عن الزهري (ح) وحدثنا بشر بن محمد قال أخبرنا عبد الله قال أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه. قال أخبرني عبيد الله بن عبد الله عن ابن عباس... الخ.

وإنما لم يجعل البخاري الطريقين طريقاً واحداً من عبد الله بن المبارك مع أنه هو ملتقى طريق عبدان بطريق بشر بن محمد، لأن عبد الله بن المبارك حدّث به عبدان عن يونس وحده، وحدث به بشر بن محمد عن يونس ومعمر معاً.

(6) قول عبد الله بن المبارك في الإسناد الثاني: أخبرنا يونس ومعمر عن الزهري نحوه: أي أن لفظ الحديث من رواية يونس، وأما رواية معمر فهي بمعناه، ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في شرحه لهذا الحديث من فتح الباري.

وقال في شرحه لحديث جابر رضي الله عنه في الخمس التي أوتيها صلى الله عليه وسلم في أوائل (كتاب التيمم) وهو الحديث الآتي، وفي إسناده تحويل قال: وقد ظهر بالاستقراء من صنيع البخاري، أنه إذا أورد الحديث عن غير واحد فإن اللفظ يكون للأخير، والله أعلم. انتهى.

وعلى هذا فمتن الحديث لفظه من رواية بشر بن محمد شيخ البخاري في الإسناد الثاني، كما أشار إلى ذلك الحافظ ابن حجر.

(7) في سند الحديث عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وهو أحد فقهاء المدينة السبعة الذين يرد إطلاق هذا الوصف عليهم كثيراً، قال النووي في كتاب (الإشارات إلى أسماء المبهمات): اعلم أن من أفضل التابعين، وكبارهم، وسادتهم، الفقهاء السبعة فقهاء المدينة، فستة متفق عليهم: سعيد بن المسيب، وعروة بن الزبير، والقاسم بن محمد بن أبي بكر الصديق، وخارجة بن زيد بن ثابت، وعبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود، وسليمان بن يسار.

وفي السابع ثلاثة أقوال: (أحدها) أنه أبو سلمة بن عبد الرحمن بن عوف، نقله الحاكم أبو عبد الله عن فقهاء الحجاز، و(الثاني) أنه سالم بن عبد الله بن عمر بن الخطاب، قاله ابن المبارك، و(الثالث) أنه أبو بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قاله أبو الزناد. انتهى.

وذكرهم ابن القيم في أوائل (إعلام الموقعين) على ما قاله أبو الزناد، وقال: قد نظمهم القائل فقال:

                               إذا قيل من في العلم سبعة أبحر  ** روايتهم ليست عن العلم خارجة

                               فقل: هم عبيد الله، عروة، قاسم ** سعيد، أبو بكر، سليمان، خارجة

                      

(8) صحابي الحديث عبد الله بن عباس رضي الله عنهما وهو أحد العبادلة، كما ذكر ذلك العلماء ومنهم ابن حجر كما تقدم النقل عنه من كتاب (تقريب التهذيب)، وقد قال العراقي في كتاب (المستفاد من مبهمات المتن والإسناد): اعلم أن في الصحابة ممن يسمى عبد الله مائتين وعشرين رجلاً، لكن اشتهر إطلاق اسم العبادلة على أربعة منهم: ابن عمر وابن عباس وابن الزبير وابن عمرو بن العاص، كذا ذكرهم أهل الحديث وغيرهم.

(9) في سند الحديث عبدان، وهو لقب اشتهر به واسمه عبد الله بن عثمان، والزهري وهو محمد بن مسلم، وقد اشتهر بهذه النسبة كما أنه اشتهر أيضاً بالنسبة إلى جده شهاب، فيطلق عليه كثيراً إما الزهري، وإما ابن شهاب.

(10) قال الحافظ في (نخبة الفكر): ومن المهم في هذا الفن معرفة من وافقت كنيته اسم أبيه، وفي سند هذا الحديث أربعة من هؤلاء هم: عبد الله بن عباس رضي الله عنهما كنيته أبو العباس، وعبيد الله بن عبد الله كنيته أبو عبد الله، ويونس بن يزيد كنيته أبو يزيد، وبشر بن محمد كنيته أبو محمد.

(11) متن هذا الحديث من قبيل المرفوع من الفعل تصريحاً.

المبحث الرابع: شرح الحديث:

 (1) معنى (أجود الناس): أكثر الناس جودًا، فرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس بكل ما تحتمله هذه الكلمة من معنى، جاد بنفسه في سبيل الله فكسرت رباعيته، وشج وجهه، وجاد بجاهه، وجاد بما أعطاه الله من المال، وجاد بالدلالة والإرشاد إلى كل ما ينفع العباد في الحال والمآل، وتحذيرهم من كل ضار في الحاضر والمستقبل.

(2) قوله (وكان أجود ما يكون في رمضان): أجود بالرفع في أكثر الروايات وفي بعضها بالنصب، فالرفع على أن أجود اسم كان والخبر محذوف، أو هو مبتدأ خبره في رمضان والجملة خبر كان واسمها ضمير، وأما النصب فعلى أنه خبر كان واسمها ضمير والتقدير: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم مدة كونه في رمضان أجود منه في غيره.

(3) قوله (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس): في هذه الجملة احتراس بليغ لئلا يتخيل من قوله: وكان أجود ما يكون في رمضان، أن الأجودية خاصة منه برمضان، فأثبت له الأجودية المطلقة أوّلاً، ثم عطف عليها زيادة ذلك في رمضان.

(4) الحكمة في زيادة جوده صلى الله عليه وسلم في رمضان حين يلقاه جبريل فيدارسه القرآن: أن مدارسة القرآن تجدد له العهد بمزيد غنى النفس، والقرآن خلقه صلى الله عليه وسلم كما قالت عائشة رضي الله عنها: يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه. وأيضاً فرمضان موسم الخيرات، وزيادة الجود والكرم، وقد وصفه الله بأنه الذي أنزل فيه القرآن، فبمجموع ما ذكر من الوقت الفاضل وهو رمضان، والمنـزول به وهو القرآن، والنازل به وهو جبريل ومدارسته معه حصل المزيد في الجود، والله أعلم.

(5) قوله (فَلَرسول الله صلى الله عليه وسلم أجود بالخير من الريح المرسلة): هذه هي نتيجة مدارسة القرآن، والمراد بالريح المرسلة: ريح الرحمة التي يرسلها الله لإنزال الغيث العام كما قال الله تعالى: ( ومن ءاياته أن يرسل الرياح مبشرات وليذيقكم من رحمته )الآية، وقال تعالى ( الله الذي يرسل الرياح فتثير سحابا ) الآية.

(6) وصفت الريح المفضل عليها جوده صلى الله عليه وسلم بالمرسلة لأمرين: (الأول) إشارة إلى عموم النفع بجوده صلى الله عليه وسلم كما تعم الريح المرسلة بل هو أعم وأشمل منها، و(الثاني) احتراساً من الريح العقيم الضارة.

(7) قدم معمول أجود وهو بالخير لنكتة لطيفة وهي: أنه لو أخره لظن تعلقه بالمرسلة أي المرسلة بالخير وهو وإن كان لا يتغير به المعنى المراد من الوصف بالأجودية إلاّ أنه يفوت فيه التنصيص على مناط أجوديته صلى الله عليه وسلم التي سيق الكلام لإثباتها والتنويه بشأنها.

(8) قوله (فيدارسه القرآن): لفظ المدارسة يفيد حصولها من الجانبين، وحديث ابن عباس عند البخاري في (كتاب فضائل القرآن) يفيد حصولها من جانب النبي صلى الله عليه وسلم وذلك في قوله فيه: ((يعرض عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن))، ويدل لحصولها من جانب جبريل حديث أبي هريرة رضي الله عنه الذي أورده البخاري في (كتاب فضائل القرآن) عقب حديث ابن عباس حيث قال رضي الله عنه: ((كان يعرض على النبي صلى الله عليه وسلم القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف في كل عام عشراً، فاعتكف عشرين في العام الذي قبض فيه)).

(9) هذا الحديث أورده البخاري في (بدء الوحي إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم)، وقد قال الحافظ ابن حجر في (فتح الباري) في وجه المناسبة: ((وفيه إشارة إلى أن ابتداء نزول القرآن كان في شهر رمضان، لأن نزوله إلى السماء جملة واحدة كان في رمضان كما ثبت من حديث ابن عباس، فكان جبريل يتعاهده في كل سنة فيعارضه بما نزل عليه من رمضان إلى رمضان، فلما كان العام الذي توفي فيه عارضه به مرتين كما ثبت في الصحيح عن فاطمة رضي الله عنها، وبهذا يجاب من سأل عن مناسبة إيراد هذا الحديث في هذا الباب، والله أعلم بالصواب)).

(10) من فقه الحديث وما يستنبط منه:

(1) امتنان الله على نبيه صلى الله عليه وسلم بجعله أجود الناس.

(2) الترغيب في الجود في كل وقت.

(3) الحث على الزيادة في الجود في شهر رمضان.

(4) استحباب الإكثار من قراءة القرآن في رمضان، والإشارة إلى أنها أفضل من سائر الأذكار، إذ لو كان الذكر أفضل أو مساوياً لفعله جبريل ومحمد عليهما الصلاة والسلام.

(5) استحباب زيارة الصلحاء وأهل الخير.

(6) تكرار الزيارة إذا كان المزور لا يكره ذلك.

(7) جواز أن يقال رمضان بدون ذكر شهر.

(8) استعمال التشبيه وضرب الأمثلة في إيضاح ما يراد بيانه.

(9) حصول قراءة القرآن من جبريل عليه السلام في غير الوقت الذي نزل به على محمد صلى الله عليه وسلم.

(10) أن القرآن يطلق على بعضه وعلى معظمه، لأن أول رمضان من بعد البعثة لم يكن نزل من القرآن إلا بعضه، ثم كذلك كل رمضان بعده إلى رمضان الأخير، فكان قد نزل كله إلا ما تأخر نزوله بعد رمضان المذكور.

(11) تدارس القرآن بين القراء وهو من التعاون على البر والتقوى.

(12) أن مداومة قراءة القرآن سبب في الزيادة في الخير، وهو من ثواب الحسنة بحسنة بعدها.

(13) مذاكرة الفاضل بالخير والعلم وإن كان لا يخفى عليه ذلك لزيادة التذكرة والاتعاظ.

(14) أن تحصيل العبد لفضل الزمان إنما هو بزيادة العبادة فيه.

(15) أن الثمرة العظمى لقراءة القرآن أن يظهر أثرها على القارئ في أخلاقه، وأعماله، كما جاء في هذا الحديث من زيادة النبي صلى الله عليه وسلم في الخير عند مدارسة القرآن مع جبريل، وكما جاء عن عائشة رضي الله عنها أن خُلقه صلى الله عليه وسلم القرآن، تعني أنه يأتمر بأوامره، وينتهي عن نواهيه وكما جاء عنه صلى الله عليه وسلم التحذير من خلاف ذلك بقوله في الحديث الصحيح: ((والقرآن حُجة لك أو عليك)).

(16) تعظيم شهر رمضان لوصف الله له بإنزال القرآن فيه، ثم معارضته صلى الله عليه وسلم مع جبريل ما نزل منه فيه، ويلزم من ذلك كثرة نزول جبريل فيه وفي كثرة نزوله الخير الكثير.

(17) الإيمان بنـزول جبريل من السماء وصعوده، ومدارسته القرآن مع محمد صلى الله عليه وسلم، وهو من الإيمان بالملائكة الذي هو أحد أركان الإيمان الستة التي بينها النبي صلى الله عليه وسلم في حديث جبريل المشهور.



بحث عن بحث