الإيمان بالقدر خيره وشره

 

يقول عليه الصلاة والسلام في حديث جبريل عليه الصلاة والسلام: " الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وبالقدر خيره وشره ".

نقف في هذه الحلقة مع الركن السادس من أركان الإيمان الذي أمرنا بالإيمان به, وهو ركن عظيم أمن به أقوام فسلمت حياتهم, وأمنت قلوبهم, وارتاحت ضمائرهم, وتعلقوا بربهم, وعلت همم فنالوا حسنة الدنيا والآخرة, وضل فيه فئام أخرى فتخبطوا في ظلمات التيه والضلال, واستولت عليهم الحيرة, وعلت عقولهم الشكوك والأوهام, وقعوا في اضطراب وعد استقرار, وتقع الحوادث فلا يجدون لها تفسيراً, ويسأموا من هذه الدنيا, ولا يدرون إلى أين هم صائرون, ولم يسعدهم المال, ولا الشرف, ولا الجاه, ويحزنهم المرض, وتقلقهم المصائب و قلة ذات اليد.

هذا الركن هو الإيمان بالقضاء والقدر, والقدر هو تقدير الله سبحانه للكائنات كلها حسب ما سبق به علمه, واقتضت حكمته.

سئل الإمام أحمد رحمه الله عن القدر فقال: القدر قدّره الله, والمسلم يجب أن يؤمن بالقدر خيره وشره وحلوه ومره, ويعني هذا الإيمان بأن الله تعالى علم بكل شيء جملة وتفصيلاً, سواء كان ذلك يتعلق بأفعاله أو أفعال العباد, وكذا الإيمان بأن الله كتب المقادير كلها في اللوح المحفوظ,  قال تعالى: (ألم تعلم أن الله يعلم مافي السماء والأرض إن ذلك في كتاب إن ذلك على الله يسير), وكذا الإيمان بأن جميع الكائنات لا تكون إلا بمشيئة الله تعالى, قال تعالى: (ويفعل الله ما يشاء), وقال: (ولو شآء اللّه مافعلوه فذرهم وما يفترون), و الإيمان كذلك بأن جميع الكائنات مخلوقة لله تعالى, قال تعالى: (وخلق كل شيء فقدره تقديرا).

هذا ما يتضمنه الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره, وعليه فكل ما يحصل في هذا الكون, مما ظاهره خيراً أو شر, وما يحصل لهذا الإنسان كل ذلك بقضاء الله وقدره, هكذا يجب أن يؤمن المؤمن, قال تعالى: (ما أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ), هذا الإيمان بقضاء الله وقدره يعني عدة أمور:

1- إن الإيمان بقضاء الله وقدره لا ينافي أن يكون للعبد مشيئته في أفعاله وقدرته عليها, فالله سبحانه قد جعل له مشيئة, ولكنها نحت مشيئة الله, ولذا فلم يكلفه بما لا يستطيع في هذه الحياة, والله يحاسبه إلا على ما كان داخلاً تحت قدرته, قال تعالى: (لا يكلف الله نفساً إلا وسعها), وهذا ما يحسه كل إنسان بنفسه أنه يشاء ويختار.

2- والثاني أن الإيمان بقضاء الله وقدره لا يعني اتخاذه حجة بترك الأعمال الصالحة أو فعل المعاصي والسيئات, وهذا الاحتجاج غاية في البطلان والفساد ذلك أن الله سبحانه بيّن الطريق المستقيم, وحثّ عليه, وأمر به, وأرسل الرسل للدلالة عليه, وحذر من المعاصي وارتكابها, وقد يقول القائل أنا ارتكبها بقدر الله تعالى, ويقول: لا أصلي بقدر الله؟ وهكذا من الدعاوى الباطلة, فيقال لم لا ترمي نفسك بالنار؟ ولم تشرب الدواء حال مرضك؟ ولِم تأكل الطعام وتشرب الشراب حال جوعك وعطشك؟ لم لا نقول إن ذلك بقدر الله, فحرصك على أمور دنياك ليست بأقل أهمية من حرصك على أمور دنياك فلا تحتج على أمور دينك بالقدر وتترك أمور دنياك, روى الشيخان عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما منكم من أحد إلا قد كتب مقعده من النار أو من الجنة, فقال رجل من القوم: ألا نتكل يا رسول الله؟ قال: كل ميسر لما خلق له, ثم قرأ: (من أعطى واتقى وصدق بالحسنى فسنيسره لليسرى)), فالنبي صلى الله عليه وسلم أمر بالعمل ونهى عن القعود والاتكال.

3- والإيمان بالقضاء والقدر لا يعني ترك فعل الأسباب, والقعود, وإن كان هذا الأمر جزءاً مما سبق ولكن يفرد لأهميته وحاجته للبيان, فمن المعلوم أن الله سبحانه وتعالى هو الذي يقدر المقادير كلها, وتتم وفق تقديره سبحانه ولكنه من حكمته سبحانه أن جعل لكل نتيجة وثمرة سبباً فمن أراد النسل الصالح فلابد أن يتخذ لذلك سبباً, ومن أراد الرزق فعليه بالعمل والجد وهكذا, ومباشرة الأسباب وفعلها عزم وجد, وتركها قعود وتخاذل, قال شارح العقيدة الطحاوية: (وقد ظن بعض الناس أن التوكل ينافي الاكتساب وتعاطي الأسباب وأن الأمور إذا كانت مقدرة فلا حاجة إلى الأسباب وهذا فاسد فإن الاكتساب منه فرض ومنه مستحب ومنه مكروه ومنه محرم, وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم أفضل المتوكلين, يلبس لامة الحربة ويمشي في الأسواق للاكتساب, ومن هذا يجب أن نعلم أنه يجب على العبد المؤمن أن يؤمن بقضاء الله تعالى وقدره, ومع هذا يعمل ويجد فيما يرى أنه تودي إلى ثمرة ونتيجة طيبة في أمور دينه ودنياه, ويسأل الله تعالى التوفيق والتسديد ولا يتعلق بهذه الأسباب ويترك التعلق بالله سبحانه وتعالى فإنه إذا جاء عن هذا الطريق فقد أخطأ السبيل, وضل واحتار.



بحث عن بحث