المبحث الثامن ( 1-3) (عجب الذنب)

 

قال الدكتور محمد علي البار: .... وقد أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا يبقى من الإنسان إلا عجب الذنب، فإذا أراد الله بعث الأجساد، أنزل عليها مطراً من السماء كمني الرجال، فينبت الإنسان من بقايا الشريط الأولى الكامن في عجب الذنب (المنطقة العصعصية)(*).

هذا الكلام لعله إشارة إلى ما جاء عن أبي هريرة، وعن أبي سعيد الخدري بألفاظ غير هذا، وإليكم بيان ذلك:

1 – أما حديث أبي هريرة، فله عنه طرق:

الأولى: الأعمش، عن أبي صالح، عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : «ما بين النفختين أربعون» قالوا: يا أبا هريرة أربعون يوماً؟ قال: أبيت(1)، قالوا: أربعون شهراً؟ قال: أبيت، قالوا: أربعون سنة؟ قال: أبيت – «ثم ينزل الله ماءً، فينبتون كما ينبت البقل»، قال: «وليس من الإنسان شيء إلا يبلى إلا عظماً واحداً، وهو عَجْبُ(2) الذنب، ومنه يُرَكَّب الخلق يوم القيامة».

أخرجه البخاري(3)، ومسلم(4) – واللفظ له(5) – وابن ماجة(6)، والطحاوي(7)،

والطبراني(8)، واللالكائي(9)،كلهم من طرق عن الأعمش، به، نحوه،

إلا ابن ماجة والطحاوي والطبراني؛ فاختصروه.

الثانية: أبو الزناد، عن الأعرج، عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «كل ابن آدم يأكل التراب، إلا عجب الذنب، منه خُلِقَ، وفيه يُركّب».

أخرجه مسلم(10)، وأبو داود(11)، والنسائي(12)، ومالك(13)، وأحمد(14)،وأبو يعلى(15)، والطحاوي(16)، وابن حبان(17)، كلهم من طرق عن أبي الزناد،به، مثله، سوى أحمد – في الموضع الثاني – وابن حبان، فعندهما: «ومنه يركب»، وعند الطحاوي في روايته الأولى: «عليه خلق، وعليه يركب»، وهي متقاربة.

الثالثة: عبدالرزاق، عن معمر، عن همام بن منبه، عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن في الإنسان عظماً، لا تأكله الأرض أبداً، فيه يركب يوم القيامة» قالوا: أي عظم هو يا رسول الله؟ قال: «عجب الذنب».

أخرجه مسلم(18)، وأحمد(19)، وابن حبان(20)لهم من طريق عبدالرزاق، به، وهو في صحيفة همام المفردة(21)فيها: «عجم»(22) بالميم وهو الذي عند أحمد.

2– وأما حديث أبي سعيد الخدري، فأخرجه أحمد(23)، وأبو داود – في كتاب البعث –(24) وأبو يعلى(25)، وابن حبان(26)، والحاكم(27)، كلهم من طريق دَرَّاج (أبي السَّمْح)، عن أبي الهيثم، عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «يأكل التراب كل شيء من الإنسان، إلا عجب ذنبه»، قيل: ومثل ما هو يا رسول الله؟ قال: «مثل حبة الخردل، منه تنبتون».

هذا لفظ أحمد، والباقون بنحوه.

ومداره على دراج (أبي السمح) بن سمعان، وهو (صدوق، في حديثه عن أبي الهيثم ضعف)(28)، ولكن يشهد له حديث أبي هريرة، إلا في بيان حجم عجب الذنب فلم أجد له شاهداً.

الاستدلال :

استدل بهذا الحديث الدكتور محمد علي البار، في كتابه (الجنين المشوه والأمراض الوراثية)(29)، فبعد أن تكلم عن تكوين الجهاز العصبي، أشار إلى الحديث، ولم يتضح لي وجه استدلاله، ولذا سأنقل بعض كلامه عن الشريط الأولي (Pimitive Streak)، قال: "تبدأ البداية الأولى للجهاز العصبي في الظهور، بعد تكون الشريط الأولي (البدائي)، الذي يظهر في اليوم الخامس عشر منذ التلقيح...".

ثم قال: "وعند ظهور الشريط الأولي، ونتيجة نشاطه الجم الغزير، يظهر الآتي:

1 – النوتوكورد (أو الحبل الظهري، أو سالفة العمود الفقري) ويمتد إلى جهة الرأس من العقدة الأولية (Pimitive rode).

2 – يتحول القرص الجنيني المستدير، بظهور الشريط الأولي إلى شكل كمثرى، بحيث يمكن تمييز طرفيه، ويدعى الطرف العريض: الجهة الرأسية، والطرف الدقيق: الجهة الذيلية أو الذنبية.

3 – تظهر بداية الجهاز العصبي...". إلى آخر ما قاله عن هذه الفقرة.

ثم قال – تحت عنوان (مصير الشريط الأولي) –: "إن الشريط الأولي كما أسلفنا ذو أهمية بالغة؛ لأن نشاطه الجم يؤدي إلى تكون النوتوكورد (سالفة العمود الفقري)، وإلى تكون الطبقة المتوسطة الداخلية (الميزودرم Mesoderm)، التي تتكثف في جانب المحور مكونة المضغة، وما يكاد ينتهي الشريط الأولي من مهمته في الأسبوع الرابع، حتى يبدأ في الاندثار ويبقى كامناً في المنطقة العجزية (العصعصية) في الجنين، ثم في المولود، ويندثر ما عدا ذلك الأثر الضئيل، الذي لا يُرى بالعين المجردة. وقد أشار المصطفى صلى الله عليه وسلم إلى أنه لا يبقى من الإنسان إلا عجب الذنب...".

التعليق :

يظهر لي أنه استدل بهذا الحديث، على أنه يوافق ما بين في الطب من مصير الشريط الأولي، وأنه يندثر ولا يبقى منه إلا أثر قليل، يكمن في المنطقة العجزية (العصعصية)، وفي نظري أنه استدلال بعيد، لا يؤيده لفظ الحديث، ولو أنه تمعن في لفظ الحديث لظهر له – وهو ظاهر واضح – أن الحديث يتكلم عن ثلاثة أمور:

1 – مقاومة عجب الذنب للبلى، وأنه لا يأكله التراب أبداً، مع أن التراب يأكل جسد الإنسان كله (30): لحمه، وعظمه.

2 – أن الإنسان خلق من عجب الذنب.

3 – أن الإنسان يركب خلقه يوم القيامة من عجب الذنب.

فالإعجاز في الحديث يكون في حالة دراسة عجب الذنب، وبيان مقاومته للتآكل، بدراسة معملية في المختبرات العلمية ، هذا من جهة.

ومن جهة أخرى فإن لفظة: «منه خلق» التي عند مسلم توافق ما ذكره الدكتور من أن نشاط الشريط الأولي، الجم يؤدي إلى أن تكون النوتوكورد (سالفة العمود الفقري) وإلى تكون الطبقة المتوسطة الداخلية (الميزودرم Mesoderm) التي تتكثف في جانب المحور مكونة المضغة.

وأنه "لأهمية هذا الشريط الأولي فقد جعلته لجنة (وارنك) البريطانية –المختصة بالتلقيح الإنساني والأجنة – العلامة الفاصلة، بين الوقت الذي يسمح فيه للأطباء، والباحثين، بإجراء التجارب على الأجنة المبكرة، الناتجة عن فائض التلقيح الصناعي في الأنابيب، فقد سمحت اللجنة بإجراء هذه التجارب قبل ظهور الشريط الأولي، ومنعته منعاً باتاً بعد ظهوره على اعتبار أن ظهور هذا الشريط يعقبه البدايات الأولى للجهاز العصبي"(31). اهـ .

إذن ما دام هذا الشريط له هذه الأهمية وهو الذي يبقى منه أثر ضئيل في العصعص كما يقوله الأطباء، فإن الحديث يقول: «منه خلق، وفيه يركب». والله أعلم .

 


(*) الجنين المشوه والأمراض الوراثية، ص (403).

(1)   قال النووي: "معناه: أبيت أن أجزم أن المراد أربعون يوماً أو سنة أو شهراً، بل الذي أجزم به أنها أربعون مجملة". شرح النووي (18/91، 92).

(2)   (العَجْبُ) بفتح العين، وإسكان الجيم، قال ابن الأثير: "هو العظم الذي في أسفل الصلب عند العجز". النهاية (3/184). وقال النووي: "هو العظم اللطيف الذي في أسفل الصلب، وهو رأس العصعص، ويقال له (عجم) بالميم". شرح مسلم (18/92). وقال ابن فارس: "وهو من كل دابة ما ضمنت عليه الوركان من أصل الذنب المغروز في مؤخر العجز". معجم مقاييس اللغة (4/244). وخلاصة القول: أن (عجب – أو عجم) الذنب هو عظم صغير لطيف في نهاية العصعص، والعصعص هو نهاية العمود الفقري من الإنسان والحيوان.

(3)  صحيح البخاري – كتاب التفسير – باب{وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَن شَاء اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُم قِيَامٌ يَنظُرُونَ } [الزمر: 68] – (8/551، 552ح 4814) وباب{يَوْمَ يُنفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْوَاجاً } [النبأ: 18] (8/689 – 690ح 4935).

(4)     صحيح مسلم – كتاب الفتن وأشراط الساعة – باب ما بين النفختين (4/2270، 2271ح 4955).

(5)     واخترته لأنه واضح، أما البخاري فقد أبهم في موضع، واختصر في آخر؛ فعدلت عنه.

(6)     سنن ابن ماجه – كتاب الزهد – باب ذكر القبر والبلى (2/1425ح 4266).

(7)     مشكل الآثار (3/93، 94).

(8)     المعجم الأوسط (1/438ح 787).

(9)     شرح أصول اعتقاد أهل السنة (6/1161ح2188).

(10)    صحيح مسلم (4/2271ح (....) /142).

(11)    سنن أبي داود – كتاب السنة – باب في ذكر البعث والصور (5/108ح4743).

(12)    سنن النسائي – كتاب الجنائز – باب أرواح المؤمنين (4/111، 112ح 2077).

(13)    الموطأ (1/239ح48).

(14)    المسند (2/322، 428).

(15)    مسند أبي يعلى (11/181ح6291).

(16)    مشكل الآثار (3/93).

(17)    الإحسان (5/55ح3128).

(18)    صحيح مسلم (4/2271ح 143).

(19)  المسند (3/315).

(20)  الإحسان (5/55ح3129).

(21)  صحيفة همام بن منبه عن أبي هريرة، ص (274ح68).

(22)  (عَجْم الذنب وعُجْمه جميعاً: عَجْمُه، وهو: أصله، وهو العصعص). لسان العرب (4/2828)،

وانظر القاموس بترتيب الزاوي (3/166).

(23)  المسند (3/28).

(24)  البعث ص (25، 26).

(25)  مسند أبي يعلى (2/523ح 1382).

(26)  الإحسان (5/55، 56ح 3130).

(27)  المستدرك (4/609).

(28)  تقريب التهذيب، ص (201).

(29)    الجنين المشوه والأمراض الوراثية ص (403).

(30)  يخصص من هذا أجساد الأنبياء، كما ثبت في الحديث (...)، وزاد ابن عبدالبر: أجساد الشهداء، ولم أقف على مسنده، انظر التمهيد ((18/173، 174).

(31)  الجنين المشوه، ص (401).

 

 



بحث عن بحث