المبحث الخامس (علاقة الناصية بسلوك الإنسان (1ـ 4))

 

حديث: «ما أصاب أحداً قط هم ولا حزن فقال: اللهم إني عبدك، وابن عبدك، وابن أمتك، ناصيتي بيدك، ماض في حكمك»(*).

هذا الحديث معروف عن ابن مسعود، وقد رُوي أيضاً عن أبي موسى.

وقد جاء ذكر «الناصية» في حديث عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو هريرة في حديثين له، وعلي بن أبي طالب، وعائشة، وعبدالله بن عمرو بن العاص، وعمر بن الخطاب، وبريدة بن الحصيب، وجابر.

1 – أما حديث ابن مسعود، فأخرجه ابن أبي شيبة(1)، وأحمد(2)، وأبو يعلى(3)، وابن حبان(4)، والطبراني(5)، والحاكم(6)، و – عنه – البيهقي(7)، كلهم من طرق عن فضيل بن مرزوق، عن أبي سلمة الجهني، عن القاسم بن عبدالرحمن، عن أبيه، عنه، وتمامه: «عدل فِيَّ قضاؤك، أسألك بكل اسم هو لك، سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك، أن تجعل القرآن ربيع قلبي، ونور صدري، وجلاء حزني، وذهاب همي، إلا أذهب الله عزوجل همه، وأبدله مكان حزنه فرحاً»، قالوا: يا رسول الله، ينبغي لنا أن نتعلم هؤلاء الكلمات؟ قال: «أجل ينبغي لمن سمعهن، أن يتعلمهن» اللفظ لأحمد.

قال الحاكم: "صحيح على شرط مسلم، إن سلم من إرسال عبدالرحمن ابن عبدالله، عن أبيه؛ فإنه مختلف في سماعه عن أبيه".

وقال الذهبي: "وأبو سلمة لا يدري من هو، ولا رواية له في الكتب الستة".

وقال الهيثمي: "رواه أحمد، وأبو يعلى، والبزار...، ورجال أحمد وأبي يعلى، رجال الصحيح، غير أبي سلمة، وقد وثقه ابن حبان"(8).

أما عبدالرحمن بن عبدالله، فَجُلُّ النقاد على إثبات سماعه من أبيه، منهم: الثوري، وأبو حاتم، وشريك، والبخاري، وابن معين في رواية معاوية ابن صالح عنه، إلا أن بعضهم قيد سماعه ببعض الأحاديث، قال ابن المديني: "لقي أباه، وسمع منه حديثين: حديث الضب، وحديث تأخير الصلاة".

وقال العجلي: "يقال أنه لم يسمع من أبيه إلا حرفاً واحداً: «محرم الحلال كمستحل الحرام»".

وساق البخاري بإسناده قصة تأخير الوليد بن عقبة للصلاة وعبدُالرحمن مع أبيه، وساق بإسناده أيضاً: أن عبدالرحمن قال لأبيه عندما حضرته الوفاة: أوصني. قال: ابك على خطيئتك.

قال الحافظ: "إسناده لا بأس به"(9)، ثم قال: "فعلى هذا يكون الذي صرح فيه بالسماع من أبيه: أربعة، أحدها موقوف، وحديثه عنه كثير، ففي السنن خمسة عشر، وفي المسند زيادة على ذلك سبعة أحاديث، معظمها بالعنعنة، وهذا هو التدليس، والله أعلم"(10) اهـ.

ولذا جعله الحافظ في الثالثة من طبقات المدلسين(11).

وحديثه عن أبيه هنا معنعن، لكني لم أجد من وصفه بالتدليس سوى الحافظ.

وأما أبو سلمة الجهني، فحكم بجهالته الذهبي كما تقدم، وتبعه الحسيني(12)، والحافظ(13).

وذكر المِزِّيُّ في الرواة عن القاسم جُهَنِيَّيْن: هذا أحدهما، والآخر هو: موسى الجهني(14)، وفرق بينهما البخاري(15)، وابن حبان(16)، فذكراهما ولم يسميا أبا سلمة، وذكره أبو أحمد الحاكم في الكني(17) في من لم يُسَّم.

واستقرب الشيخ أحمد شاكر أن يكون هو موسى بن عبدالله – أو ابن عبدالرحمن الجهني – لأمرين: أحدهما: أنه من طبقة الرواه عن القاسم، وثانيهما: أنه يكنى (أبا سلمة)(18).

وما استقر به الشيخ أحمد شاكر، جزم به الشيخ الألباني لدليل ثالث وهو: أن موسى الجهني قد روى حديثاً آخر عن القاسم بن عبدالرحمن، به(19)، فإذا ضُمت إحدى الروايتين إلى الأخرى، ينتج أن الراوي عن القاسم هو موسى أبو سلمة الجهني.

وأيد قوله بأمرين:

أ – أنه ليس في الرواه من أسمه موسى الجهني؛ إلا موسى بن عبدالله الجهني، وهو الذي يكنى بأبي سلمة، وهو ثقة من رجال مسلم(20).

ب – قول الحاكم: "صحيح على شرط مسلم..." فقال: "وكأن الحاكم أشار إلى هذه الحقيقة حين قال – في الحديث –: "صحيح على شرط مسلم..."، فإن معنى ذلك أن رجاله رجال مسلم، ومنهم أبو سلمة الجهني، ولا يمكن أن يكون كذلك إلا إذا كان هو موسى ابن عبدالله الجهني"(21) اهـ.

وعندي دليل رابع يؤكد ما ذهب إليه الشيخان أحمد شاكر، والألباني؛ وهو أن أبا أحمد الحاكم قال عن أبي سلمة الجهني: "حديثه في الكوفيين"(22). اهـ.

والراوي عنه هنا هو فضيل بن مرزوق، كوفي، وموسى بن عبدالله الجهني، كوفي، بل رجال الإسناد كلهم كوفيون، فهذه الأدلة الأربعة – وهي: اشتراكهما في الشيخ، والكنية، والنسبة، والبلد – تكاد تكون دليلاً قاطعاً على أن أبا سلمة الجهني هو موسى بن عبدالله الجهني، والله أعلم.

وبعد هذه الجولة مع أبي سلمة، وقبله عبدالرحمن. عدت إلى الحديث، فوجدت الشيخ الألباني يقول: "رأيت الحديث  قد رواه محمد بن عبدالباقي الأنصاري في (ستة مجالس [ق 8/1]) من طريق الإمام أحمد، وقال مخرجه الحافظ محمد بن ناصر أبو الفضيل البغدادي: هذا حديث حسن، عالي الإسناد، ورجاله ثقات"(23) اهـ.

لكن في إسناده فضيل بن مرزوق، الكوفي؛ قال فيه الحافظ: (صدوق، يهم، ورمي بالتشيع) (24).

إلا أنه قد توبع؛ فقد أخرجه البزار(25)، وابن السني(26)، كلاهما من طريقين عن عبدالرحمن بن إسحاق، عن القاسم بن عبدالرحمن، به، ولم يذكر (عن أبيه) عند ابن السني، وأحد إسنادي ابن السني صحيح إلى عبدالرحمن بن إسحاق، وهو أبو شيبة الواسطي، (ضعيف) (27).

والقاسم بن عبدالرحمن بن عبد الله بن مسعود، لم يسمع من جده(28).

وأضاف الشيخ الألباني أن محمد بن الفضل بن غزوان الضبي، قد أخرجه في كتاب الدعاء (ق 2/1–2) من طريق عبدالرحمن بن إسحاق، به، ولم يذكر (عن أبيه)(29).

وجملة القول أن الحديث – في نظري – حسن، لا كما ذهب الشيخ الألباني إلى صحته(30).

 


(*) وجه الإعجاز في سلوك الإنسان، وعلاقته بالناصية، (ص3) بحث للدكتور يحيى ناصر خواجي.

(1)  مصنف ابن أبي شيبة (10/253ح9367).

(2)  المسند (1/391، 452).

(3)  مسند أبي يعلى (9/198، 199ح5297).

(4)  الإحسان (2/159، 160ح 968).

(5)  المعجم الكبير (10/209، 210ح 10352)، والدعاء (2/1279ح 1035).

(6)  المستدرك (1/509).

(7)  الأسماء والصفات، ص (6).

(8)  مجمع الزوائد (10/136).

(9)  انظر: تهذيب التهذيب (6/195)، وطبقات المدلسين ص (40)، لكن المطبوع منهما فيه خطأ فيما يتعلق بما نقله عن البخاري، فراجع تاريخ البخاري المطبوع باسم الصغير (1/99).

(10) طبقات المدلسين، ص (40).

(11) طبقات المدلسين، ص (40).

(12) الإكمال ص (517).

(13) لسان الميزان (7/56)، وتعجيل المنفعة ص (490).

(14) تهذيب الكمال (2/111).

(15) التاريخ الكبير (7/288)، والكنى ص (39).

(16) الثقات (7/449، 659).

(17) الكنى (ق193/ب).

(18) تعليق أحمد شاكر على المسند (5/267).

(19) هو حديث: «من نسي أن يذكر الله في أول طعامه...» أخرجه ابن حبان – الإحسان (7/322، 323ح 5190)، والطبراني في الكبير (10/210ح 10354) – عقب حديثنا هذا بحديث واحد، وهذا يؤكد كلام الألباني؛ لأنه يوحي بأن الطبراني سماه في الأول، ثم كناه في الثاني، والله أعلم – وأخرجه كذلك ابن السني في عمل اليوم والليلة (ص217،218ح459)، وصححه الشيخ الألباني في السلسلة الصحيحة (1/335، 336ح 198).

(20) تقريب التهذيب ص (552).

(21) السلسلة الصحيحة (1/338ح199).

(22) الكنى (ق193/ب).

(23) السلسلة الصحيحة (1/339ح 199).

(24) تقريب التهذيب (ص448).

(25) كشف الأستار (4/31ح3122).

(26) عمل اليوم والليلة (ص165ح340).

(27) تقريب التهذيب، ص (336).

(28) تهذيب التهذيب (8/288)، وتحفة التحصيل (ق35).

(29) السلسلة الصحيحة (1/339).

(30) السلسلة الصحيحة (1/340).



بحث عن بحث