المبحث الرابع عشر (أطوار الجنين: النطفة، العلقة، المضغة (6ـ6))

 

ما مضى من قضايا، كان الاستدلال عليها بحديث أنس، وابن مسعود، أما ما سيأتي فالاستدلال عليها كان بحديث حذيفة، ورتبتها كما يلي:

4 / استقرار النطفة في الرحم:

عندما يلقح الحيوان المنوي البويضة، ينتج بويضة ملقحة، تسمى عند الأطباء بـ (الزيجوت)، وفي المصطلح القرآني تسمى بـ (النطفة الأمشاج)، هذه البييضة الملقحة تأخذ شكل قطرة ماء، وهذا يتفق مع إحدى معاني لفظة: (نطفة).

تواصل هذه البويضة، نموها وسيرها في قناة الرحم، لتصل إلى باطن الرحم محتفظة بشكل النطفة، ولكنها تنقسم في داخلها إلى خلايا أصغر فأصغر، تدعى: (قسيمات جرثومية blastomeres)، وبعد أربعة أيام – من التلقيح – تتكون كتلة كروية من الخلايا، تعرف عند الأطباء بـ (التوتة morula)، وبعد خمسة أيام تسمى النطفة: (كيس الجرثومة blastocyst).

وبالرغم من انقسام النطفة في داخلها إلى خلايا؛ فإن طبيعتها ومظهرها لا يتغيران عن النطفة؛ لأنها تملك غشاء سميكاً يحفظها، ويحفظ مظهر النطفة فيها(1).

وتبقى هذه النطفة (النطفة الأمشاج) متحركة، حتى تصل إلى الرحم، "وما أن تصل إليه حتى تنشب فيه، وتتعلق بجداره، وتقضم خلاياه، وعادة ما يكون ذلك في الجدار الخلفي للرحم، وفي النصف الأعلى منه على وجه الخصوص، حيث يعتبر ذلك أكثر مناطق الرحم صلاحية، لنمو الجنين واكتماله، ويكون الرحم قد استعد لذلك، بزيادة ثخانة طبقة غشائه، وازدياد الدماء فيه"(2).

ثم تنغرز في جدار الرحم، وتدفن نفسها فيه(3)، وبهذا "تبدأ مرحلة الاستقرار، التي أشار إليها الحديث النبوي «يدخل الملك على النطفة بعدما تستقر في الرحم، بأربعين أو خمسة وأربعين يوماً....»(4).

5 / اختلاف الأجنة في النمو:

عند النظر في روايات حديث حذيفة، نجدها تذكر أوقاتاً مختلفة لدخول الملك الذي يخلق الجنين، وهذه الأوقات هي: أربعون يوماً، واثنان وأربعون يوماً، وخمسة وأربعون يوماً، وبضعة وأربعون يوماً.

هذا الاختلاف الوارد في الحديث، موافق لحقيقة علمية، لم تعرف إلا بعد دراسة نماذج عديدة من الأجنة؛ تبين نتيجة هذه الدراسة أن الأجنة تختلف في درجة النمو(5) وأن هذا الفرق في النمو قد يصل إلى أربعة أيام، أو خمسة أيام.

فمثلاً التوءمان غير المتشابهين: ذكر وأنثى، يتخلقان من بويضتين مختلفتين لُقِّحتا في نفس الوقت، ويكون عادة أحد الطفلين أكبر من الآخر(6).

فدلت الروايات المختلفة على التنوع في الأجنة، لا على الاضطراب في النقل(7).

6 – التصوير، والخلق، والذكورة أو الأنوثة، والتسوية أو عدمها، تحدد تباعاً، ابتداء من الأسبوع السابع. هذا ما أثبته الطب، وهذا هو ما قاله حديث حذيفة: «إذا مرّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله إليها ملكاً فصورها، وخلق سمعها وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم قال: يا رب: أذكر أم أنثى؟...» الحديث.

وفي الطريق الرابعة لحديث حذيفة – بعد ذكر الذكورة والأنوثة –: «ثم يقول يارب، أسوي أم غير سوي؟ فيجعله الله سوياً أو غير سوي...».

فالجنين قبل الأربعين يوماً، لا يتميز عن أجنة الحيوانات الأخرى، لكن بعد الأربعين يتخذ الجنين الشكل الآدمي، كما ذكر الحديث: «فصورها»(8).

كذلك في الأسبوع السابع، تكون الأعضاء قد نمت وتميزت، فيبدأ تكوُّن العظام(9)، والجلد، والعضلات، والأذن، والعين(10).

أما الذكورة والأنوثة، فإن الجنين حتى لو نزل سقطاً، وشُرح تشريحاً كاملاً، فإنه لا يُعلم هل هو ذكر أو أنثى، "حتى نهاية الأسبوع السادس الرحمي، فغدد التناسل – الخصية في الذكر، والمبيض في الأنثى – تتشابهان تماماً في هذه المرحلة المبكرة من النمو، ولا يمكن التمييز بينها، وفي بداية الأسبوع السابع تبدأ الخصية بالنمو قبل المبيض، ويظهر فيها نسيج خاص، كما أنها تُلَفُّ بـِغِلاَلةٍ(11) بيضاء، تدعى: (اللفافة البيضاء)(12).

هذا من حيث الغدد التناسلية، أما "الأعضاء التناسلية الخارجية، فهي إنما تنشأ من نتوءات الجلد، ولا يتم تكوين الجلد إلا فيما بين الأسبوع العاشر، والثاني عشر، وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي أخرجه مسلم، يقول: «إذا مرَّ بالنطفة ثنتان وأربعون ليلة، بعث الله ملكاً فصورها، وخلق سمعها، وبصرها، وجلدها، ولحمها، وعظامها، ثم يقول: يا رب أذكر أم أنثى؟ »، ومعنى ذلك أن الأعضاء التناسلية الخارجية، لا تظهر إلا بعد ظهور السمع، والبصر، والعظام، واللحم، والجلد، ومن الإعجاز هاهنا: أن يذكر تكون الجلد قبل ظهور أعضاء التناسل الخارجية(13)؛ لأن الجلد يسبق ظهورها، بل ومنه تتكون الأعضاء التناسلية الخارجية"(14).

وأما كون الجنين سوي، أو غير سوي، فقد تكلم عن هذه القضية الدكتور/ أحمد كنعان، ومحمد كمال شوشرة، في كتابهما (النشأة الأولى)، فقالا: "تدعى الفترة الممتدة، من بداية الأسبوع الرابع من التنامي، حتى نهاية الأسبوع السابع: (الفترة المضغية)؛ وذلك أن التركيبات الأساسية الداخلية، والخارجية، تتشكل خلالها، ففيها يتشكل المخ، والقلب، والأطراف....، وكل ذلك يتجه بالمضغة نحو شكل إنسان مميز، في نهاية الفترة المضغية، والجدير بالذكر أن هذه الفترة المضغية تدعى أيضاً: (الفترة الحساسة)؛ لأن تعرض الجنين لأي عامل مشوه خلالها، يترك أثراً عميقاً في تركيباته وأجهزته، ويؤدي إلى تشوهات عظيمة فيه، تكون مميتة، أي: أنه مع نهاية الفترة المضغية يتحدد مصير الجنين، فيما إذا كان سينمو بشكل سوي، أو أنه قد أصيب بتشوهات تلازمه حتى الممات".

ثم علقا على هذا بِأَنْ ذَكَرَا لفظ الطريق الرابعة لحديث حذيفة، ثم قالا: "إن هذا الحديث الذي ورد في الصحيح، وردده الناس منذ أربعة عشر قرناً؛ إنما هو معجزة أخرى، من معجزات الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم؛ فكأنما هو عالم أجنة، في الستينات من هذا القرن(15)، وقف يتحدث عن (الفترة الحرجة)، وأن مصير الجنين يتحدد في نهاية الفترة المضغية، من حيث السواء، أو التشوه، «ثم يقول: يا رب أسوي أو غير سوي؟ فيجعله الله سوياً أو غير سوي»، وهذا يدل على أن القائل هو رسول، يوحي إليه الله الذي يعلم ما يحدث لكل جنين، ومتى يحدث، { ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير } [الملك: 14]"(16).

                                             


(1)  علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة، ص (44، 45).

(2)  خلق الإنسان بين الطب والقرآن ص (205).

(3)  انظر شكل (1) من الملحق.

(4)  علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة، ص (49).

(5)  انظر: النشأة الأولى (1/218، 219)، وعنه الدكتور/ محمود ناظم، في كتابه الطب النبوي والعلم الحديث (3/338).

(6)  بحث (أطوار خلق الإنسان قبل أربعين يوماً وبعدها) ص (4)، من أبحاث المؤتمر الدولي الأول عن الإعجاز العلمي في القرآن والسنة – باكستان.

(7)  المصدر السابق.

(8)  انظر شكل (6) من الملحق، ثم انظر شكل (7) من الملحق؛ لتلاحظ الفرق بين شكل الجنين قبل الأربعين، وبعدها.

(9)  انظر شكل (8) من الملحق.

(10)  انظر: النشأة الأولى (1/219).

(11)  الغِلاَلة: شعار يلبس تحت الثوب، وبطانة تلبس تحت الدرع. معجم مفاييس اللغة (4/377/ مادة: غلل) وانظر القاموس المحيط (مادة غلل).

(12)  خلق الإنسان بين الطب والقرآن ص (299)، وانظر شكل (9) من الملحق.

(13)  لاحظ أن الحديث عطف الذكورة أو الأنوثة، على ما قبلها بحرف (ثُمّ) الذي يقتضي التراخي.

(14)  خلق الإنسان بين الطب والقرآن ص (302، 303).

(15)  يظهر أن المراد التأريخ الميلادي.

(16)  النشأة الأولى (1/210، 211).



بحث عن بحث