المبحث الرابع عشر (أطوار الجنين: النطفة، العلقة، المضغة (4ـ 6))

 

الجمع بين حديث ابن مسعود، وحديث حذيفة :

من المعلوم أن خلق الإنسان، يبدأ بعد طور المضغة، كما في حديث أنس السابق، وهو: «وكل الله بالرحم ملكاً، يقول: أي رب نطفة، أي رب علقة، أي رب مضغة، فإذا أراد الله أن يقضي خلقه، قال: يا رب، أذكر أم أنثى؟....».

وخاصة خلق العظام، لا يتم إلا من المضغة؛ قال تعالى: { ثم خلقنا النطفة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظاما فكسونا العظام لحما ثم أنشأناه خلقا آخر فتبارك الله أحسن الخالقين } [المؤمنون: 14].

وحديث ابن مسعود، ظاهره أن المضغة لا تكون إلا بعد الأربعين الثانية وبداية الثالثة.

وأما حديث حذيفة، فصريح في أن الخلق يبدأ في نهاية الأربعين الأولى وبداية الأربعين الثانية، مما يعني أن النطفة، والعلقة، والمضغة، كلها تتم في الأربعين الأولى، فهو يخالف ظاهر حديث ابن مسعود، ولذا قام بالجمع بينهما عدد من العلماء، لكن بأوجه مختلفة حاصلها ما يأتي:

1 – أن الأربعين التي في حديث حذيفة، المراد بها الأربعين الثالثة، وسميت المضغة فيها نطفة؛ اعتبارًا بأول أحوالها، وما كانت عليه(1).

"وهذا بعيد جداً من لفظ الحديث، ولفظه يأباه كل الإباء، فتأمله"(2).

2 – أن التخليق والتصوير، المراد به التقدير والكتابة، لا المباشرة الفعلية، "والدليل على صحة هذا، أنَّ جَعْلَها ذكراً أو أنثى، يكون مع التصاوير المذكورة، وقد قال – في جَعْلِه ذكراً أو أنثى –: «فيقضي ربك ما يشاء، ويكتب الملك...»(3)، فَسمى كتابة تقدير خلقه وتصويره: خلقاً وتصويراً؛ اعتباراً بما يؤول إليه(4).

لكن هذا – في نظري – خلاف الظاهر المتبادر في حديث حذيفة.

3 – أن التخليق والتصوير، تخليق وتصوير خفي، لا يدركه إحساس البشر، "فإن النطفة إذا جاوزت الأربعين، انتقلت علقة، وحينئذ يكون أول مبدأ التخليق، فيكون مع هذا المبدأ، مبدأ التصوير الخفي، الذي لا يناله الحس، ثم إذا مضت الأربعون الثالثة، صورت التصوير المحسوس المشاهد"(5).

لكن يُرَدُّ هذا "بأنه شوهد في كثير من الأجنة، التصوير في الأربعين الثانية، وتميز الذكر عن الأنثى"(6)، وأصبح هذا بدهياً في هذا العصر؛ لتوفر الآلات الدقيقة، التي صورت الجنين في بطن أمه، وأظهرت أن التخليق وظهور الصورة البشرية، يبدأ بعد الأربعين الأولى(7).

4 – أن حديث حذيفة بَيّنَ: "أن النطفة في الأربعين الأولى، لا يُتَعرض لها ولا يُعتَنى بشأنها، فإذا جاوزتها وقعت في أطوار التخليق، طوراً بعد طور، ووقع حينئذ التقدير والكتابة، فحديث ابن مسعود، صريح بأن وقوع ذلك بعد الطور الثالث، عند تمام كونها مضغة، وحديث حذيفة إنما فيه وقوع ذلك بعد الأربعين، ولم يوقت فيها البعدية بل أطلقها، وقد قيدها ووقتها حديث ابن مسعود، والمطلق في مثل هذا يحمل على المقيد بلا ريب... فيصح أن يقال: إن النطفة بعد الأربعين، تكون علقة، ومضغة، ويصور خلقها، وتركب فيها العظام والجلد، ويشق لها السمع والبصر، وينفخ فيها الروح، ويكتب شقاوتها وسعادتها، وهذا لا يقتضي وقوع ذلك كله، عقيب الأربعين الأولى من غير فصل"(8)، هكذا قال ابن القيم ، ثم عقب بقوله: "وهذا وجه حسن جداً".

لكن عند التأمل فيه، يظهر أنه شبيه بالقول الأول، وهو: أن المراد بالأربعين هي الأربعين الثالثة، الذي رَدَّه ابن القيم نفسه، كما أن هذا يترتب عليه، عدم الفائدة في ذكر الأربعين التي في حديث حذيفة.

فإن قيل: بل الفائدة من ذكرها، هو بيان أن النطفة لا يحصل فيها شيء قبل انتهاء الأربعين الأولى، فيجاب عليه بأن ذلك معلوم من حديث ابن مسعود.

هذه الأوجه المتقدمة، كلها قائمة على تأويل حديث حذيفة، ليتفق مع حديث ابن مسعود.

ولكن ذهب بعض العلماء إلى تأويل حديث ابن مسعود، بما يتفق مع حديث  حذيفة، وقد وقفت على وجهين، من الأوجه التي أُوِّلَ بها حديث ابن مسعود، وهي:

-  أن معنى حديث ابن مسعود: "أن النطفة يغلب عليها وصفُ المني في الأربعين الأولى، ووصف العلقة في الأربعين الثانية، ووصف المضغة في الأربعين الثالثة، ولا ينافي ذلك أن يتقدم تصويره"(9).

وهذا يرده الواقع المشاهد اليوم في صور الأجنة(10).

أن الأطوار التي في حديث ابن مسعود، كلها في الأربعين الأولى، ويحمل الحديث على أنه من ترتيب الأخبار، لا من ترتيب المخبر به.

وفصّل هذا الوجه ووضحه ابن الزملكاني، في كتابه (البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن)، ولروعة كلامه، ودقته، أنقله بحروفه، قال: "قلت: إنما اضطربت أقوال الأئمة في الجمع بين الحديثين؛ لعدم وقوفهم على ما دلت عليه صناعة التشريح، وها أنا أذكر تنقل النطفة في الرحم، ثم أنزل الحديث عليه، ليطابقا الواقع في نفس الأمر، فإن خير المنقول ما وافق المعقول، فأقول: المدة التي يتم فيها خلق الجنين، تنقسم إلى أقسام:

أولها: أن المني إذا لم يقذفه الرحم إلى الخارج، استدار وصار كالكرة، ثم أنه يثخن بالحرارة، ثم يصير زبداً في اليوم السادس.

وثانيها: ظهور النقط الثلاثة الدموية، أحدها في الوسط، وهو الموضع الذي إذا تمت خلقته كان قلباً، والثاني فوق وهو الدماغ، والثالث على اليمين وهو الكبد، ثم إن تلك النقط تتباعد ويظهر فيما بينها خطوط حمر، وذلك يحصل بعد ثلاثة أيام أخرى، يكون مجموع ذلك تسعة أيام.

وثالثها: أن تنفذ الدموية في الجميع فيصير علقة، وذلك بعد ستة أيام أخرى، فيصير المجموع خمسة عشر يوماً.

ورابعها: أن يصير لحماً، وذلك إنما يتم بإثني عشر يوماً، صار المجموع سبعة وعشرين يوماً.

وخامسها: أن ينفصل الرأس عن المنكبين، والأطراف عن الضلوع والبطن، ثم أنه يحس في بعض، ويخفى في بعض، وذلك يتم في تسعة أيام أخرى، فيكون المجموع ستة وثلاثين يوماً.

وسادسها: أن يتم انفصال هذه الأعضاء بعضها من بعض، وتصير بحيث يظهر ذلك للحس ظهوراً بيناً، وذلك يتم في أربعة أيام أخرى، فيكون جملة المجموع أربعين يوماً، وقد يتأخر نادراً، إلى تمام خمسة وأربعين يوماً، وقد يتقدم أيضاً نادراً، فيتم ما ذكرناه في تمام ثلاثين يوماً.

وقال أرسطو طاليس: إن السقط بعد أربعين يوماً، إذا شق عنه السلا، ووضع في الماء البارد، ظهر منه شيء صغير متميز الأطراف.

إذا ثبت ذلك(11) فاعلم أن حديث حذيفة منطبق عليه، فإن بين كونه نطفة، وخلق سمعها وبصرها، أحوالاً متوسطة؛ لكونه علقة، ومضغة، وعظاماً، وكسوة العظام لحماً، وأما حديث ابن مسعود فمُنَزَّل على ذلك، إذ معنى «يجمع في بطن أمه» أي: يُحكم ويتقن خلقه ويتمم، من قولهم: (رجل جميع) أي مجتمع الخلق، ولذا سمي رأس الإنسان (جماعاً)؛ لأن به إتقان جسد الإنسان، وتمام خلقه، وقالوا: (ماتت المرأة بجمع)، إذا ماتت وفي بطنها ولد.

وقوله: «ثم يكون علقة مثل ذلك» أي: ثم إنه يكون في الأربعين المذكورة، علقة تامة الخلق، متقنة، محكمة الإحكام الممكن لها، الذي يليق بالنطفة، فهما متساويان في مسمى الإتقان والإحكام، لا في خصوصه، ثم أنه يكون مضغة، في حصتها أيضاً من الأربعين، محكمة الخلق، مثلما أن صورة الإنسان محكمة بعد الأربعين يوماً، فنصب «مثل ذلك» على المصدر، لا على الظرف، ونظيره في الكلام قولك: (إن الإنسان يتغير في الدنيا مدة عمره) ثم تشرح تَغَيُّرَهُ فتقول: ثم أنه يكون رضيعاً، ثم فطيماً، ثم يافعاً، ثم شاباً، ثم كهلاً، ثم شيخاً، ثم هرماً، يتوفاه الله بعد ذلك، وذلك من باب ترتيب الأخبار، عن أطواره التي يتنقل فيها، مدة بقائه في الدنيا، ويجوز أن يكون «مثل»، زائداً، ويكون في موضع الظرف، أي: ثم يكون علقة في ذلك، و«مثل» يزاد كثيراً نحو: (ما مثل عبدالله يقول ذاك ولا أخيه) وقد حمل قوله تعالى: { فإن ءامنوا بمثل ماءامنتم به فقد اهتدوا وإن تولوا فإنما هم في شقاق فسيكفيكهم الله وهو السميع العليم } [البقرة: 137] عليه.

  فقد وضح الجمع بين الحديثين، مما دلت عليه صناعة علم التشريح"(12).


 


(1)  طريق الهجرتين، ص (138)، والتبيان في أقسام القرآن، ص (346).

(2)  التبيان في أقسام القرآن، ص (346).

(3)  فتاوى ابن الصلاح (1/165، 166).

(4)  طريق الهجرتين، ص (139).

(5)  طريق الهجرتين، ص (139)، ورجحه فقال: "وهذا التقدير أليق بألفاظ الحديث وأشبه، وأدل على القدر". اهـ.

(6)  فتح البارئ (11/484).

(7)  انظر الصور في الملحق، شكل (7).

(8)  طريق الهجرتين ص (139، 140).

(9)  فتح البارئ (11/485).

(10)  انظر ملحق الصور، شكل (6، 7، 8، 9).

(11)  انظر ملحق الصور، شكل (5).

(12)  البرهان الكاشف عن إعجاز القرآن ص (273– 275).



بحث عن بحث