المبحث الثالث عشر (توريث السمع والبصر (1ـ2))

 

حديث: «..... ومتعنا بأسماعنا وأبصارنا، [وقواتنا] (1)، ما أحييتنا، واجعله الوارث منا»(*).

هذا اللفظ هو جزء من حديث ابن عمر، فيما كان يقوله رسول الله صلى الله عليه وسلم في مجالسه، وقد جاء نحو هذا اللفظ – دون ذكر القوة – من حديث عدد من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، منهم: أبو هريرة، وعائشة، وجابر، وعبدالله بن الشخير، وسعد بن زرارة، وعلي بن أبي طالب، وأنس.

1 – أما حديث ابن عمر: فأخرجه الترمذي(2)، والنسائي – في عمل اليوم والليلة –(3)، والبغوي(4)، كلهم من طريق ابن المبارك – وهو في كتابه الزهد –(5) عن يحيى بن أيوب، عن عبيد الله بن زَحْر، عن خالد بن أبي عمران، أن ابن عمر قال: قلما كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقوم من مجلس، حتى يدعو بهؤلاء الدعوات لأصحابه: «اللهم أقسم لنا من خشيتك، ما يحول به بيننا وبين معاصيك، ومن طاعتك ما تبلغنا به جنتك، ومن اليقين ما تهون به علينا مصيبات الدنيا، ومتعنا بأسماعنا، وأبصارنا، وقوتنا ما أحييتنا، واجعله الوارث منا، واجعل ثأرنا على من ظلمنا، وانصرنا على من عادانا، ولا تجعل مصيبتنا في ديننا، ولا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا، ولا تسلط علينا من لا يرحمنا».

قال الترمذي: "هذا حديث حسن، غريب"(6).

ويحيى بن أيوب هو المصري أبو العباس، (صدوق ربما أخطأ) (7)، وشيخه عبيد الله بن زَحْر (صدوق يخطئ) (8)، وخالد بن أبي عمران (صدوق) (9)، و(لم يسمع من ابن عمر) (10).

فالإسناد ضعيف، إلا أن الحديث حسن، فقد جاء من وجوه أخرى عن خالد بن أبي عمران، متصلا.

وقد أشار إلى هذا الترمذي، فقال: " وقد روى بعضهم هذا الحديث عن خالد بن أبي عمران، عن نافع، عن ابن عمر".

أخرجه النسائي – في عمل اليوم والليلة –(11)، وعنه ابن السني(12)، من طريق بكر بن مضر – وهو (ثقة ثبت) (13) – عن عبيد الله بن زَحْر.

وأخرجه الطبراني(14)، – في المعجم الصغير – من طريق ابن لهيعة.

وأخرجه الحاكم(15) من طريق أبي صالح كاتب الليث عن الليث، بن سعد.

كلهم عن خالد بن أبي عمران، عن نافع، عن ابن عمر.

وقد جمع الطبراني هذه الأسانيد، عن خالد بن أبي عمران، في الدعاء(16).

وصححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

والصحيح أن إسناده حسن، وموضع الشاهد منه، يرتقي إلى الصحيح لغيره بشواهده الآتية:

2 – وأما حديث أبي هريرة، فأخرجه الترمذي(17)، والبزار(18)، والحاكم(19)، كلهم من طرق عن محمد بن عمرو، عن أبي سلمة، عنه.

صححه الحاكم، ووافقه الذهبي.

وفيه محمد بن عمرو بن علقمة، قال فيه الحافظ: (صدوق، له أوهام) (20)، فإسناده حسن.

وأخرجه الطبراني([21]) من وجه آخر عن أبي هريرة، إلا أن فيه إبراهيم بن خيثم بن عراك، وهو متروك، كما قال الهيثمي(22).

3 – وأما حديث عائشة: فأخرجه الترمذي(23)، وأبو يعلى(24)، والحاكم(25)، كلهم من طريق: حمزة بن حبيب الزيات، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة، عنها.

قال الترمذي: "هذا حديث حسن، غريب"(26).

ثم قال: "سمعت محمداً يقول: حبيب بن أبي ثابت، لم يسمع من عروة ابن الزبير شيئاً، والله أعلم". اهـ.

وقال الحاكم: "صحيح الإسناد، إن سلم سماع حبيب من عروة، ولم يخرجاه".

وبكر هو ابن بكار، يروي عن حمزة الزيات، وقد توبع عليه.

وقد ذهب جل النقاد إلى ما قاله البخاري، بل إن الحافظ قد نقل عن ابن أبي حاتم في كتاب المراسيل عن أبيه: أن أهل الحديث اتفقوا على عدم سماع حبيب بن أبي ثابت، من عروة بن الزبير، قال: واتفاقهم على شيء يكون حجة(27).اهـ.

لكن أبا داود قد خالفهم، قال: "وروي عن الثوري قال: ما حدثنا حبيب إلا عن عروة المزني، يعني لم يحدثهم عن عروة بن الزبير بشيء".

ثم قال: "وقد روى حمزة الزيات، عن حبيب، عن عروة بن الزبير، عن عائشة حديثاً صحيحاً"(28).

وتبعه الزيلعي فقال: "وأما ما حكاه أبو داود عن الثوري أنه قال.... فلم يسنده، بل قال عقيبه: وقد روى حمزة الزيات....، فهذا يدل على أن أبا داود لم يرض بما قاله الثوري، ويقدم هذا لأنه مثبت، والثوري ناف، والحديث الذي أشار إليه أبو داود هو...."، وذكر حديث عائشة هذا(29)، وعزاه إلى الترمذي، ونقل كلامه، ثم نقل عن ابن عبدالبر أنه قال: "وحبيب لا ينكر لقاءه عروة؛ لروايته عمن هو أكبر من عروة، وأقدم موتاً"، ونقل عنه أيضاً أنه قال في موضع آخر: "لاشك أنه أدرك عروة"(30).

ويقوي كلام أبي داود أن الخطيب، قد أخرجه من طريق أبي حاتم الرازي، عن عبدالله بن صالح بن مسلم، عن حماد بن شعيب، عن حبيب بن أبي ثابت، عن عروة بن الزبير، عن عائشة. ثم قال: "وهكذا رواه حمزة بن حبيب الزيات، عن حبيب"(31).

وحماد بن شعيب، وإن كان ضعيفاً(32)، إلا أنه قد تابعه حمزة الزيات، حسب كلام الخطيب.

ولذا فلا يضره ما قاله الخطيب، من أن أبا مريم عبدالغفار بن القاسم، رواه عن حبيب بن أبي ثابت، عن مولى لقريش، عن عروة بن الزبير؛ لأن أبا مريم هذا قال فيه النسائي وأبو حاتم: متروك، وكذبه أبو داود، وقال ابن المديني: كان يضع الحديث(33).

والحديث بهذا الإسناد لا يصح، سواء سمع حبيب بن أبي ثابت من عروة ابن الزبير، أو لم يسمع؛ لأن حبيباً مع ثقته وجلالته مدلس من الثالثة(34)، وقد عنعنه.

 


(1) لم أقف على كلمة (وقواتنا) في كتب الرواية إلا بالإفراد هكذا: (وقوتنا)، وليس بالجمع كما هو مشهور عند الناس ومنهم المستدل هنا، وقد سألت شيخنا العلامه: حماد بن محمد الأنصاري، فوافقني في هذا.

(*) محاضرة (آيات الله في الآفاق وفي الأنفس) للشيخ عبدالمجيد الزنداني، سُجلت في نادي الشريط الإسلامي، بمكة المكرمة، ورقم الشريط (34/2).       

(2)  سنن الترمذي – كتاب الدعوات – باب (80) (5/493، 494ح 3502).

(3) عمل اليوم والليلة (ص310، 311ح 402).

(4)  شرح السنة (5/174، 175ح 1374).

(5)  الزهد (ص144، 145ح 431).

(6)  هكذا في طبعة أحمد شاكر ومن بعده، وفي تحفة الأحوذي (9/476)، أما تحفة الأشراف (5/343) والكلم الطيب لابن تيمية (ص115ح 225)، وتخريج أحاديث الإحياء للعراقي فليس فيها لفظة (غريب).

(7)  تقريب التهذيب (ص588).

(8)  المصدر السابق (ص371).

(9)  المصدر السابق (ص189).

(10)  تهذيب الكمال (1/361)، وتهذيب التهذيب (3/96).

(11)  عمل اليوم والليلة (ص310ح 401).

(12)  عمل اليوم والليلة (ص 212 ح446).

(13)  تقريب التهذيب (ص127).

(14)  المعجم الصغير (2/316، 317ح 852).

(15)  المستدرك (1/528).

(16)  الدعاء (3/1656ح 1911).

(17) سنن الترمذي (متن تحفة الأحوذي) – كتاب الدعوات – أحاديث شتى من أبواب الدعوات – (باب 18) (10/71، 72) وهذا الحديث غير موجود في طبعة أحمد شاكر.

(18)  كشف الأستار (4/59ح 3193).

(19)  المستدرك (1/523) و (2/142).

(20)   تقريب التهذيب ص (499).

(21)   الدعاء (3/1466ح 1424)، والمعجم الأوسط كما في مجمع البحرين (ق454).

(22)  مجمع الزوائد، ص (178)، وانظر أيضاً: تاريخ بن معين (2/8)، والضعفاء للنسائي ص (42) والجرح والتعديل (2/98).

(23)  سنن الترمذي – كتاب الدعوات – (باب 67) (5/484ح 3480).

(24)  مسند أبي يعلى (8/145ح 4690).

(25)  المستدرك (1/530).

(26) ومثله في متن تحفة الأحوذي (9/452)، أما تحفة الأشراف (12/235) ففيها (غريب) فقط، وكذلك نقله الزيلعي في نصب الراية (1/72).

(27)   تهذيب التهذيب (2/156، 157).

(28)  سنن أبي داود (1/125).

(29)  ومثله في عون المعبود (1/306).

(30)   نصب الراية (1/72).

(31)   تاريخ بغداد (2/137).

(32)  لسان الميزان (2/348).

(33)  المصدر السابق (4/42).

(34)   طبقات المدلسين (ص37، 38).



بحث عن بحث