المبحث الخامس (ما من كل الماء يكون الولد)

    

 

حديث: «ما من كل الماء يكون الولد، وإذا أراد الله خلق شيء، لم يمنعه شيء»(*).

أخرجه مسلم(1) – وانفرد به عن الستة –، وابن طهمان(2)، وابن المبارك(3)، والطيالسي(4)، وأحمد(5)، وأبو يعلى(6)، والطحاوي(7)، والطبراني(8)، وابن مندة(9)، والبيهقي(10)، وابن عبدالبر(11)، كلهم من طرق عن أبي الوداك ، عن أبي سعيد الخدري قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العزل؟ فقال: «ما من كل الماء...» الحديث(12) . واللفظ لمسلم .

 

الاستدلال:

 

استدل بهذا الحديث الدكتور/ محمد علي البار في كتابه (خلق الإنسان) (13)، والدكتور/ حامد محمد حامد في كتابه (رحلة الإيمان....) (14)، والدكتور/ مارشال جونسون بالتعاون مع الشيخ عبدالمجيد الزنداني، ومصطفى أحمد، في بحثهم (وصف التخلق  البشري: مرحلة النطفة) (15)، والدكتور/ محمد فائز المط في كتابه (من معجزات الإسلام) (16)، ومحمد كامل عبدالصمد في كتابه (الإعجاز العلمي في الإسلام – القرآن) (17)، ومحمد السيد أرناؤوط في كتابه (الإعجاز العلمي....) (18)، والدكتور/ محمد عبد الله الشرقاوي(19)، كلهم على أنه قد بين الحقيقة التي لم يكشفها علم الطب إلا في القرن العشرين ، وهي أن حيواناً منوياً واحداً، هو الذي يلقح البويضة ، لينتج عنها الجنين – بإذن الله – .

 

وأوسع شرح له هو شرح الدكتور البار، قال: "إن هذا الحديث إعجاز كامل ؛ فلم يكن أحد يعلم أن جزءاً يسيراً من المني ، هو الذي يخلق منه الولد ، فلم يكن أحد يتصور أن في القذفة الواحدة من المني: ما بين مئتين إلى ثلاثمائة مليون حيوان منوي ، وأن حيواناً منوياً واحداً فقط ، هو الذي يقوم بتلقيح البويضة ، ويقول الدكتور/ (ليزلي أري) في كتابه: (DEVELOPMENTAL ANATOMY

) الطبعة السابعة: إن التجارب على الثدييات أثبتت أن واحداً بالمائة من المني فقط ، يكفي لتلقيح البويضة ، ومن المقرر طبياً أن عشرين مليوناً من الحيوانات المنوية في القذفة الواحدة ، هي الحد الأدنى للإخصاب ، ورغم أنه يقرر طبياً أيضاً أن هناك حالات حمل كثيرة بأقل من هذه الكمية ، كما يمكن أن تحقن كمية المني الناقصة الحيوانات المنوية، إلى الرحم مباشرة (ARTIFICIAL INSEMINATION) ، وهي الطريقة المسماة بـ(التقليح الصناعي).

 

فالحديث صريح في أنه ليس من كل الماء يكون الولد، وإنما جزء يسير منه ، وأنَّىَ لمن عاش قبل أربعة عشر قرناً ، أن يعلم هذه الحقيقة ، التي لم تعرف إلا في القرن العشرين؛ إذا لم يكن عِلْمُه قد جاء من لدن العليم الخبير".

 

ثم قال: "وقد دلت على معنى هذا الحديث آية قرآنية كريمة ، قال تعالى:( الذي أحسن كل شئ خلقه وبدأ خلق الإنسان من طين * ثم جعل نسله من سلالة من ماءٍ مهين * )[السجدة:7 – 8] .

 

قال المفسرون: السلالة هي الخلاصة(20)، وخلاصة الماء المهين هي التي يكون منها الولد ، فهناك انتقاء بعد انتقاء من مئات الملايين من الحيوانات المنوية ، فأول ما تخرج ، يكون عشرون بالمائة منها غير صالحة للتلقيح ، ثم يموت في المهبل عدد كبير منها ، ثم يموت على عنق الرحم عدد آخر، ثم تذهب مجموعة منها إلى قناة الرحم اليمنى ، وأخرى إلى قناة الرحم اليسرى ، ولا تدري في أي منها تكون البويضة ، فتهلك تلك التي ذهبت إلى غير مكان البويضة ، ولا يصل في النهاية إلى البويضة ، إلا ما يقرب من خمسمائة حيوان منوي فقط ، وهنا يقع اختيار، وانتقاء، واصطفاء آخر لحيوان منوي واحد فقط من بين هؤلاء ليتم به تلقيح البويضة .

 

وفي البويضة كذلك اصطفاء وانتقاء ، إذ يبلغ عدد البويضات في مبيض الأنثى ، وهي لا تزال جنيناً في بطن أمها: ستة ملايين بويضة أولية ، ولكن كثيراً منها يذوي ويموت قبل خروجه إلى الدنيا ، ثم تستمر في اندثارها حتى إذا بلغت الفتاة المحيض ، لم يبق منها إلا ثلاثين ألفاً فقط ، وفي كل شهر تنمو مجموعة من هذه البويضات ، ولكن لا يكتمل النمو إلا لواحدة فقط ، وفي حياة المرأة التناسلية ، لا يزيد ما تفرزه المرأة عن أربع مئة بويضة فقط .

 

فهناك اصطفاء وانتقاء للحيوان المنوي ، وهناك اصطفاء وانتقاء للبويضة أيضاً ، نعم تقول الأبحاث الطبية الحديثة (مجلة MEDICINE DIGEST، عدد يناير 1981م): إن ثمانية وسبعين بالمائة من جميع حالات الحمل ، تسقط طبيعياً ، وإن ما يقرب من خمسين بالمائة يسقط قبل أن تعلم الأم أنها حامل ؛ ذلك لأن الرحم يلفظ (الكرة الجرثومية) بعد علوقها مباشرة ، فتظن الأم أن الدم الذي جاءها في موعد الحيض ، أو بعده بقليل ، هو دم الطمث الذي كانت تنتظره ، ولا تعلم أنه دم سقط.

 

فهناك اصطفاء بعد اصطفاء، وانتقاء بعد انتقاء.

 

وصدق الله العظيم حيث يقول: ( ثم جعل نسله من سلالة من  ماءٍ مهين * ) [السجدة: 8].

 

وصدق رسوله الكريم حيث يقول: «ما من كل الماء يكون الولد» (21). اهـ.

 

التعليق:

 

لقد كان شرح الدكتور/ البار رائعاً وواضحاً ، إلا أنه ركز في هذا الموضع على قضية واحدة، فيما يتعلق بماء الرجل ، وهي: أنه ليس من كل الحيوانات المنوية يكون التلقيح ، وتبعه على هذا أغلب من تكلم في هذه القضية .

 

والحقيقة أن قبل هذه المرحلة مرحلة أخرى ، وهي أن ماء الرجل يتكون من: الحيوانات المنوية ، ومن الماء الذي تسبح فيه ، وتتغذى منه ، ونسبتها إلى هذا الماء هي (1/2– 1%)، وهذا هو منطوق الحديث «ما من كل الماء يكون الولد».

 

وقد أشار هو إلى هذه المرحلة إشارة خفيفة ، في موضع سابق من كتابه (خلق الإنسان....) ، وذكرها في مختصره (الوجيز في علم الأجنة القراني) ، وكذلك الدكتور/ مارشال جونسون ومن معه ، واقتصر عليها الدكتور/ حامد محمد حامد ، وشرحها قليلاً الدكتور/ محمد عبد الله الشرقاوي .

 

 

 

 


(*) - خلق الإنسان بين الطب والقرآن، ص (111) وفي مواضع أخرى تأتي عند الاستدلال.

(1) - صحيح مسلم – كتاب النكاح – باب حكم العزل (2/1064ح 1438، 133).

(2) - مشيخة ابن طهمان (ص 151ح 94).

(3) - مسند عبدالله بن المبارك (ص 110، 111ح 186).

(4) - مسند الطيالسي (ص288، 289 ح 2175).

(5) - المسند (3/47، 49، 59، 82، 93).

(6) - مسند أبي يعلى (2/384ح 1153).

(7) - شرح معاني الآثار (3/33، 34).

(8) - المعجم الأوسط (2/96ح 1186).

(9) - التوحيد (2/114، 183ح 258، 330).

(10) - السنن الكبرى (7/229)، والأسماء والصفات (ص 140، 141).

(11) - التمهيد (3/140).

(12) - لهذا الحديث طرق أخرى عن أبي سعيد، دون شطره الأول، سيأتي تخريجها في مبحث (مدى فعالية موانع الحمل) عقب هذا المبحث.

(13) - خلق الإنسان بين الطب والقرآن ص (111، 112، 386، 388، 521) وفي مواضع أخرى لكن بشطره الثاني في موضوع العزل، والوجيز في علم الأجنة القرآني ص (14، 15)، ونقله في كتابه (هل هناك طب نبوي) ص (123).

(14) - رحلة الإيمان في جسم الإنسان ص (51).

(15) - بحث بعنوان (وصف التخلق البشري، مرحلة النطفة)، مطبوع في كتاب: علم الأجنة في ضوء القرآن والسنة، ص (40).

(16) - من معجزات الإسلام، ص (91).

(17) - الإعجاز العلمي في الإسلام – القرآن – ص (180)، ناقلاً عن الدكتور البار.

(18) - الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، ص (309).

(19) - مقال في مجلة الجندي المسلم، العدد (35)، ص (33).

(20) - لم أقف على هذا التفسير إلا عند الألوسي، قال: "والسلالة: من سللت الشيء، إذا استخرجته منه، فهي ما سل من الشيء، واستخرج منه؛ فإن (فُعالة) اسم لما يحصل من الفعل، فتارة تكون مقصودة منه كالخلاصة، وأخرى غير مقصودة منه كالقلامة، والكناسة، والسلالة من قبيل الأول فإنها مقصودة بالسل". اهـ.  روح المعاني (18/13)، وانظر (21/124).

(21) - خلق الإنسان...، ص (386 – 388).

 

 



بحث عن بحث