الحلقة (4) الردود على المطاعن في المتن

1 ذكر ابن كثير أن هذا الحديث يخالف القرآن من جهتين:

أ- أنه لم يذكر خلق السماء.

ب- أنه جعل خلق الأرض وما فيها في سبعة أيام.

 

وقد أجاب المعلمي عن هذا الاعتراض بجواب حاصله ما يلي:

أولاً: إن خلق آدم متأخر عن خلق السماوات والأرض، وليس في القرآن ما يدل على أن خلق آدم كان في الأيام الستة، بل العكس فإنه يؤخذ من آيات خلق آدم في أوائل سورة البقرة، وبعض الآثار، يؤخذ منها أنه قد كان في الأرض عُمّار قبل آدم، عاشوا فيها دهراً، إذن يبقى ستة أيام هي التي تم فيها خلق السماوات والأرض.

ثانياً: أن الحديث قد أشار إلى خلق السماء، بذكره في اليوم الخامس: النور، وفي اليوم السادس الدواب، وحياة الدواب محتاجة إلى الحرارة، والنور والحرارة مصدرهما الأجرام السماوية، فهذان يومان للسماء ويبقى أربعة أيام للأرض، وبهذا يتفق الحديث مع ما في القرآن وتندفع دعوى الاختلاف بينهما(1).

 

والذي يظهر لي أن جواب الشيخ رحمه الله كان محاولة مع الأسف غير مقنعة، ولا قوية بحيث يجاب بها على الاعتراض المذكور، وذلك للملاحظات التالية:

أ   – قول الشيخ عن ذكر الحديث لخلق النور والدواب، إنه إشارة إلى خلق السماء، غير مُسَلم؛ فالنور غير السماء، وكون الأجرام السماوية هي مصدر الحرارة والنور، لا يعني ذلك أنها هي السماوات، بل هذا خلاف الكتاب والسنة؛ حيث أن السماوات في الكتاب والسنة، هي أجرام عظيمة لها أبواب وحراس، وهي محيطة بعضها ببعض وأدناها محيطة بالأرض، إذن فليست هي الأجرام السماوية.

ولو سُلّم هذا للشيخ، فلا يُسَّلم له أن في خلق الدواب إشارة إلى خلق السماوات أبداً، وحينئذ تصبح مخالفة الحديث للقرآن أشد ظهوراً، حيث جعل خلق السماء في يوم واحد.

ولهذا فالجواب الصحيح في نظري هو ما قال الشيخ الألباني في تعليقه على مشكاة المصابيح، ثم اختصره في مختصر العلو فقال: "وخلاصة ذلك أن الأيام السبعة في الحديث، غير الأيام الستة في القرآن، وأن الحديث يتحدث عن شيء من التفصيل الذي أجراه الله على الأرض، فهو يزيد على القرآن ولا يخالفه، وكان هذا الجمع قبل أن أقف على حديث الأخضر، فإذا هو صحيح فيما كنت ذهبت إليه من الجمع"(2). اهـ.

 

ويتأيد كلام الشيخ الألباني بما يلي:

أ    أن الحديث لم يشر إلى خلق السماء، مما يدل دلالة واضحة، على أنه يتحدث عن التفصيل الذي أجراه الله على الأرض.

ب أن ابن أبي حاتم جعله تفسيراً لقوله تعالى:  (هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً) [البقرة: 29](3).

جـ  – أنه أي الحديث برواية الأخضر، يعتبر نصاً في المسألة، ولا اجتهاد مع النص.

د    – يتأيد قول الشيخ الألباني أيضاً، بأن الأيام الستة المذكورة في القرآن مختلف فيها، من حيث إنها كأيام الدنيا أم لا، قال ابن الجوزي: "ومعنى قوله: (في ستة أيام) أي في مقدار ذلك، لأن اليوم يعرف بطلوع الشمس وغروبها، ولم تكن شمس حينئذ"(4).

ومن هنا نعلم أن الأيام المذكورة في الحديث، هي غير الأيام المذكورة في القرآن.

2 تعليل هذا الحديث بأنه مخالف لأحاديث وآثار أخرى، تدل على أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، ذكره المعلمي، ولعله نقله عن شيخ الإسلام ابن تيمية، حيث إن شيخ الإسلام صوَّب قول من قال: إن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، ثم أيده بأن أسماء الأيام تدل عليه، وأنه "هو المنقول الثابت في أحاديث وآثار أخر"(5)، وهذا التعليل لا يقدح في هذا الحديث، ولا يمسه بسوء، لأن الصحيح لا يُعَل بالضعيف، كما هو معلوم، وهذه الأحاديث والآثار التي تخالف هذا الحديث "ما كان منها مرفوعاً فهو أضعف من هذا الحديث بكثير، وأما غير المرفوع فعامته من قول عبدالله بن سلام، وكعب، ووهب، ومن يأخذ عن الإسرائيليات"(6).

 

ويؤكد ضعفها:

أ     أن أحداً ممن تكلم في هذا الحديث، لم يعله بهذه الأحاديث ولا هذه الآثار، التي تفيد أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد، وإنما أشار إليها
ابن تيمية، بعد أن اعتمد كلام البخاري وغيره في ردِّ هذا الحديث.

فلو لم تكن ضعيفة، لما ذهبوا يميناً وشمالاً في تعليلهم لهذا الحديث، بل لقالوا: إن الصحيح هو ابتداء الخلق يوم الأحد؛ لِوروده في الأحاديث والآثار الصحيحة.

ب أن أحداً من أصحاب الأمهات التسعة، لم يخرج حديثاً واحداً من هذه الأحاديث ولا أثراً، كما يعلم من تتبع ألفاظها في المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي وكذلك فَعَل من اشترط الصحة كابن خزيمة وابن حبان.

وأما دلالة تسمية الأيام فقد رده السهيلي في الروض الأنف، وبين أن تسميتها بالأحد، والاثنين... الخ، إنما هي تسمية طارئة، وأن أسماؤها في اللغة القديمة: شيار، داول، ذجبار، دوبار، ومونس، والعروبة(7)، وذكر أسماؤها بالسريانية، ثم ذكر أنها لو جاءت في القرآن بهذه الأسماء المشتقة من العدد؛ لقلنا هي تسمية صادقة على المسمى به، لكنه لم يرد فيه إلا الجمعة والسبت، وليسا من المشتقة من العدد، وإن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يذكرها مبتدئاً لتسميتها، وإنما حاكياً للغة قومه، الذين قد يكونون أخذوا معاني هذه الأسماء من أهل الكتاب المجاورين لهم؛ فألقوا عليها هذه الأسماء اتباعاً لهم(8).

3 قول البيهقي: "وزعم بعض أهل العلم بالحديث أنه غير محفوظ؛ لمخالفته ما عليه أهل التفسير وأهل التواريخ"، الجواب عليه أن الحجة فيما قاله الله ورسوله، وهذا حديث ثابت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد أخذ به بعض أهل التفسير، كابن أبي حاتم، وابن الجوزي، وبعض أهل التأريخ كابن إسحاق، بل نقل ابن الجوزي عن ابن الأنباري أنه قال: "وهذا إجماع أهل العلم"(9)، يعني ما في حديث مسلم، والله أعلم.

4 قول القرشي: "اتفق الناس على أن يوم السبت لم يقع فيه خلق، وأن ابتداء الخلق كان يوم الأحد"، ذِكْرُ هذا القول يغني عن الرد عليه.

والاتفاق الذي ذكره لا يعرف إلا عن اليهود، زعموا لعنهم الله أن الله تعب فاستراح يوم السبت، تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً.

5 رَدُّ شيخ الإسلام لهذا الحديث، بناه على أمرين كما تقدم لكن ذينك الأمرين غير صحيحين في نظري.

أما الأمر الأول: فهو اعتماده على طعن بعض المحدثين في الحديث، وقد سبق الرد على كلامهم مفصلاً.

ويؤخذ على كلام شيخ الإسلام عند ذكره لمن طعن في الحديث ملاحظتان:

أولاهما: إدخاله يحيى بن معين فيمن طعن في الحديث، وليس كذلك، فلعله سبق قلم من شيخ الإسلام، أو خطأ من الناسخ، أو خطأ مطبعي؛ لأن الذي طعن في الحديث هو علي بن المديني.

ثانيهما: إدخاله البيهقي كذلك فيمن ضعف الحديث، والذي يقف على سياقة البيهقي لأقوال الطاعنين في الحديث، يتبين له أنه لا يوافقهم(10).

وأما الأمر الثاني: فهو الدليل النظري الذي ذكره، قال: "قد ثبت بالتواتر أن الله خلق السماوات والأرض وما بينهما، في ستة أيام، وثبت أن آخر الخلق كان يوم الجمعة، فيلزم أن يكون أول الخلق يوم الأحد".

والرد على هذا الدليل سهل ميسور، وهو من وجوه متعددة:

أولهــا: أن المقدمة الثانية من دليله غير مُسَلمة ولا صحيحة، فأين ثبت أن آخر خلق السماوات والأرض كان يوم الجمعة؟ إنما الذي ثبت خلقه يوم الجمعة هو آدم عليه السلام، وآدم متأخر خلقه جداً عن خلق السماوات والأرض، كما يعلم من سياق ذكر قصة خلق آدم في الكتاب والسنة، وإذا بطلت المقدمة، بطلت النتيجة.

ثانيهـا: أنه لا يُسَلَّم أن الأيام المذكورة في القرآن، هي نفس أيامنا هذه(11)، فلا يثبت أن ابتداء الخلق كان يوم الأحد.

ثالثها: لا نسلم أن الأيام المذكورة في القرآن، هي نفس الأيام المذكورة في الحديث، بل الصواب أنها غيرها، كما سبق إيراد الأدلة على ذلك، والله أعلم.

الاستدلال:

أستدل بهذا الحديث الدكتور مأمون شقفه، في كتابه (القرار المكين) (12)، على أن الإنسان جاء في آخر الخلق، وأن ترتيب الخلق كما يلي: التراب، فالشجر، فالدواب، فالبشر.

فقال: "ولئن كان العلم الحديث، يؤكد أن الحياة ظهرت بهذا التسلسل أعني: النبات، فالحيوان، فالبشر... فإن هذه الحقيقة عندنا بحمد الله قبل أن تصبح (علماً حديثاً)....، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم «...» وذكر الحديث.

ثم قال: «وغني عن البيان، أن هذه الأيام المذكورة في الحديث الشريف، ليست أربعاً وعشرين ساعة كأيامنا، وإنما هي أزمنة يعلم الله تعالى وحده طولها، أي بكلمة أخرى هي أطوار ومر احل للخلق".

ثم قال: "وليس تسلسل خلق الإنسان من التراب، هو فقط ما يشير إليه الحديث الشريف.... بل يشير إلى حقيقة علمية ثانية هامة جداً، هي: خلق التراب نفسه".

ثم أخذ يشرح عملية خلق التراب، فقال: "لنفرض أن بركاناً هائلاً انفجر، في منطقة ما من العالم، وسالت حِمَمُه حتى غطت مساحات شاسعة جداً من الأرض... فإن ما يحصل هو أن تتعقم هذه المساحات الشاسعة، وتنعدم فيها كل أشكال الحياة، ردحاً من الزمن.... ويغطي الحميم هذه المساحات الشاسعة ودرجة حرارته عالية جداً جداً، فماذا يحصل بعد ذلك؟ وكيف تخلق الحياة من جديد؟.

الذي يحصل هو ما يلي:

تسقط الأمطار وتتبخر، ثم تسقط وتتبخر، وفي كل مرة يبرد السطح البركاني شيئاً فشيئاً، ويتجمد ويتشقق إلى أن تسقط الأمطار ولا تتبخر، بل يحفظ شيء منها في الأرض.

ثم تظهر في الشقوق مخلوقات حية بدائية، نصنفها في النباتات الأولى كالعفنيات والسراخس، تخلق وتموت، ويخلق غيرها ويموت، وهكذا مع استمرار تفاعل العوامل البيئية مع هذه المواد العضوية الابتدائية، ومع استمرار التَّحَاتّ في الحميم الذي تجمد، ومن تراكم محصولات هذه التفاعلات والتفتتات، تتكون التربة، ومع اكتساء وجه الحميم بالتربة، تتهيأ الظروف لظهور مخلوقات أعلى، ونباتات أقوى كالشجر.... وهكذا تستمر الحياة... حميم... تربة... شجر... ثم إن كل خلق يمهد الظروف الملائمة لخلق جديد، حتى يكتمل الخلق....

هذا الذي يحصل في حميم بركاني، هو صورة مصغرة عما حصل في الكرة الأرضية حين كانت كلها بركاناً ملتهباً متفجراً واحداً...

إذن خلق الله التراب أولاً، ثم خلق الشجر بعده... وسواء أبدأ الخلق في البحر (كما يعتقد)، أو في البر، فإن هذه الحقيقة لا تتغير، وهي أن التربة خلقت أولاً، ثم الشجر ثم الدواب، ثم الإنسان...". اهـ.

التعليق:

المثال الذي مثل به، ثم قال بعده: "هذا الذي يحصل في حميم بركاني، هو صورة مصغرة عما حصل في الكرة الأرضية، حين كانت كلها بركاناً ملتهباً متفجراً واحداً". قوله هذا مجرد حدس وتخمين، لا دليل عليه، ولا برهان، أما تقديم التربة على الشجر، والشجر على الإنسان، فهذا لأن النبات يحتاج إلى التراب لينمو فيه، والإنسان محتاج إلى النبات ليتغذى منه، بل إن آدم نفسه خلق من التراب.

ولي وقفة مع قوله: "أن هذه الأيام المذكورة في الحديث الشريف ليست أربعاً وعشرين ساعة كأيامنا...".

وهي: من أين له أنها ليست كأيامنا هذه، وآخر الحديث ينص على أن خلق آدم كان في آخر ساعة من ساعات الجمعة، فيما بين العصر إلى الليل!! ولعله ظن أن هذه الأيام هي التي في القرآن، وقد سبق بيان أنها تفصيل لما أجراه الله على الأرض، لا أنها هي المذكورة في القرآن عن خلق السماوات والأرض، والله تعالى أعلم.

 


(1) الأنوار الكاشفة ص (190).

(2) مختصر العلو (112).

(3) انظر تفسير ابن أبي حاتم (1/103).

(4) زاد المسيرة (3/211).

(5) انظر مجموع الفتاوى (18/18). وقد تقدم نقل كلامه كاملاً، وستأتي مناقشته.

(6) الأنوار الكاشفة ص (191).

(7) وانظر تفسير ابن كثير (4/88) عند تفسير قوله تعالى: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً) [التوبة:36].

(8) الروض الأنف (1/271) والأنوار الكاشفة ص (191).

(9) زاد المسير (3/211).

(10) انظر الأسماء والصفات ص (384).

(11) انظر زاد المسير (3/211، 212).

(12) القرار المكين (127129).



بحث عن بحث