القاعدة الرابعة: الموازنة بين العلم والعبادة والعمل

 

 

 

 

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد،،،،

ففي هذه الحلقة نبين:  الموازنة بين العلم والعبادة والعمل:

مدخل: (الداعية الناجح من تقوم دعوته على العلم بما يدعو والعمل بالعلم، والعبادة بما يأمر به وينهى عنه. وما يقال عن الداعية يقال عن الدعوة، فالعلم في الإسلام شرط في صحة العمل، والعمل ثمرة العلم، فكل علم لا يثمر عملاً فهو هوان وخسران، وكل عمل يقوم على غير علم فهو فساد ودمار).

ولتوضيح ذلك نعرض لهذه القاعدة في النقاط التالية:                   

العلم صفة أساسية في الدعوة والداعية:

العلم صفة أساسية في الداعية إلى الله تعالى، لأنه يدعو إلى دين الله، والدين عقيدة وشريعة وأخلاق، ولا يمكن القيام بها إلا عن علم وبصيرة، وقد قال سبحانه مخاطبًا نبيه صلى الله عليه وسلم: (  قُلْ هَـذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَاْ وَمَنِ اتَّبَعَنِي ) [يوسف: 108]، أي على علم ويقين(1)

والبصيرة في ثلاثة أمور:

- فيما يدعو إليه، بأن يكون عالمًا بالحكم الشرعي الذي يدعو إليه؛ لأنه قد يدعو إلى شيء يظنه واجبًا وهو في شرع الله غير واجب، فيلزم عباد الله بما لم يلزمهم الله به، وقد يدعو إلى ترك شيء يظنه محرمًا وهو في دين الله غير محرم، فيحرم على عباد الله ما أحله الله لهم.

- في حال المدعو، ولهذا لما بعث النبي صلى الله عليه وسلم معاذًا إلى اليمن قال له: «إنك ستأتي قومًا أهل كتاب»(2) ليعرف حالهم ويستعد لهم.

فلابد أن تعلم حال هذا المدعو ما مستواه العلمي؟ وما مستواه الجدلي؟ حتى تتأهب له فتناقشه وتجادله، بما يستحقه وهكذا.

- في كيفية الدعوة، قال الله تعالى: ( ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) [النحل : 125] (3)

فإذا لم يكن الإنسان ذا علم فإن الواجب به أن يتعلم أولًا ثم يدعوا ثانيًا، ذلك أن العامل على غير علم كالسالك على غير طريق كما يقول الحسن البصري(4)، وفي الأثر: «من سلك طريقًا بغير دليل ضل، ومن تمسك بغير أصل زلَّ».

واجب الدعاة الحرص على طلب العلم:

إذا كان العلم صفة أساسية في الداعية، فعلى الدعاة إذا أرادوا الفلاح والتوفيق والنجاح لدعوتهم، أن يكونوا على فقه في دين الله، وأن يستكثروا في فترات أعمارهم كلها من العلم النافع، عملًا بقوله تعالى: ( وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً ( [طه: 114]، وإنما رغب الإسلام في العلم، وحث على طلب الزيادة منه لأمور:

أولها: العلم دليل الإيمان:

إن القرآن الكريم يعتبر العلم الحق داعية إلى الإيمان ودليلًا إليه، قال تعالى: (وَلِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِن رَّبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ ) [الحج : 54]، فهذه المعاني الثلاثة مترتب بعضها على بعض: فالعلم يتبعه الإيمان تبعية ترتيب بلا تعقيب، ليعلموا فيؤمنوا.

والإيمان تتبعه حركة القلوب من الإخبات والخشوع لله تعالى، وهكذا يثمر العلم الإيمان، ويثمر الإخبات والتواضع لله رب العالمين.

وفي آية أخرى يذكر العلم والإيمان متعاطفين جنبًا إلى جنب كما قال تعالى: ( وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَالْإِيمَانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتَابِ اللَّهِ إِلَى يَوْمِ الْبَعْثِ )[الروم : 56]، فالعلم والإيمان في الآية الكريمة مقترنان متعاطفان يسيران جنبًا إلى جنب، ومن هنا نجد أن الله تعالى في القرآن الكريم ينوه بالذين ) أُوتُوا الْعِلْمَ ( بأنهم هم الذين يعرفون قيمة القرآن الكريم ويؤمنون به، ويتأثرون بما فيه: (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُواْ الْعِلْمَ مِن قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ سُجَّداً ( 107) وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِن كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولاً (108)  وَيَخِرُّونَ لِلأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعاً ) [الإسراء: 107 – 109].

لذلك كانت أولى الآيات التي نزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم تشيد بالعلم والتعلم والقراءة: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ) [العلق: 1-5] والقراءة عنوان العلم ومفتاحه ومصباحه، هكذا كان أول أمر من الله في الإسلام: ( اقْرَأْ ) وقد كرره مرتين في هذه الآيات تأكيدًا لأهميته، ولكنها ليست مرد قراءة، ولكن قراءة باسم الرب الخالق، ومعنى أنها باسمه: أنها بإذنه وأمره ومباركته، فهي قراءة إيمانية، وهي تشير إلى أن العلم في الإسلام لا بد أن يكون في حضانة الإيمان بالله، وبهذا يكون العلم أداة خير، لا معول هدم، يكون للتعمير لا للتدمير.

ثانيها: العلم إمام العمل:

العلم في الإسلام يسبق العمل، ويدل عليه ويرشد إليه، وهذا ما ذكره الإمام البخاري : في كتاب «العلم» من صحيحه، واستدل عليه بالقرآن من مثل قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ) [محمد: 19]، فبدأت الآية بالعلم بالتوحيد، وثنت بالاستغفار وهو عمل، وفي حديث معاذ المشهور في فضل العلم الذي ذكره ابن عبد البر وغيره: «تعلموا العلم فإن تعلمه لله خشية وطلبه عبادة، ومدارسته تسبيح، والبحث عنه جهاد، وتعليمه من لا يعلمه صدقة، وبذله لأهله قربة»، وفيه قال: «وهو إمام والعمل تابعه»(5)

وعنى هذا، فإن العلم إمام العمل وقائد له، والعمل تابع له، فكل عمل لا يكون مبنيًا على علم، فهو غير نافع لصاحبه، بل مضرة عليه، كما قال بعض السلف: من عبد الله بغير علم كان ما يفسد أكثر مما يصلح.

والأعمال إنما تتفاوت في القبول والرد بحسب موافقتها للعلم، ومخالفتها له، فالعمل الموافق للعلم هو المقبول، والمخالف له هو المردود، فالعلم هو الميزان وهو المحك.

قال تعالى: ) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ([الملك : 2].

قال الفضيل بن عياض في تفسير «أحسن العمل»: هو أخلص العمل وأصوبه، قالوا: يا أبا علي، ما أخلصه وأصوبه؟ قال: إن العمل إذا كان خالصًا ولم يكن صوابًا لم يقبل، وإذا كان صوابًا ولم يكن خالصًا لم يقبل، حتى يكون خالصًا صوابًا، فالخالص أن يكون لله، والصواب أن يكون على السنة(6)، وقد قال تعالى: ) قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِّثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً ( [الكهف: 110]، فهذا هو العمل المقبول الذي لا يقبل من الأعمال سواه، وهو أن يكون موافقًا لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، مرادًا به وجه الله، ولا يتمكن العامل من الإتيان بعمل يجمع هذين الوصفين إلا بالعلم، فإنه إن لم يعلم ما جاء به الرسول لم يمكنه قصده، وإن لم يعرف معبوده لم يمكن إرادته وحده، فلولا العلم لما كان عمله مقبولًا، فالعلم هو الدليل على الإخلاص، وهو الدليل على المتابعة، وقد قال تعالى: ) إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ ( [المائدة : 27].

ولهذا قال المحققون: إن العامل بلا علم كالسائر بلا دليل(7)، ومعلوم أن عطب مثل هذا أقرب من سلامته، وإن قدر سلامته اتفاقًا نادرًا فهو غير محمود، بل مذموم عند العقلاء.

وكان شيخ الإسلام ابن تيمية يقول: «من فارق الدليل ضل السبيل، ولا دليل إلا بما جاء به الرسول».

وسنبدأ في الحلقة التالية بإذن الله تعالى ببيان: أن العلم يعصم صاحبه من الزلل

وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.


(1) تيسير الكريم الرحمن: ص: (361).

(2) أخرجه البخاري: (2/158رقم1496)، كتاب الزكاة، باب أخذ الصدقة من الأغنياء وترد في الفقراء، ومسلم: (1/50رقم19)، كتاب الإيمان، باب الدعاء إلى الشهادتين وشرائع الإسلام.

(3) زاد الداعية: ص:(928).

(4) جامع بيان العلم وفضله: (1/164).

(5) جامع بيان العلم وفضله.

(6) علم الحديث لابن تيمية: ص: (172 ،173)، ط: دار الباز.

(7) جامع بيان العلم وفضله: (1/164).

 



بحث عن بحث