حديث (لعن الله الواصلة والمستوصلة ..)

 

 

عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ : جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ لِي ابْنَةً عُرَيِّسًا أَصَابَتْهَا حَصْبَةٌ فَتَمَرَّقَ شَعْرُهَا أَفَأَصِلُهُ فَقَالَ: «لَعَنَ اللَّهُ الْوَاصِلَةَ وَالْمُسْتَوْصِلَةَ » . (1)

السائلة:

امرأة من الأنصار لم أقف عليها ، قال الشيخ أبو ذر أحمد ابن أبي الوفا: لا أعرفها (2) .

غريب الحديث:

عُرَيِّسًا: العين والراء والسِّين أصل واحد صحيح ، وهو الملازمة (3) .

والعَرُوسُ : نعت يستوي فيه الرجل والمرأة ما داما في أعراسهما ، يقال: رجل عروس ، وامرأة عروس ، وهو أول الابتناء بها ، ونساء عَرَائِس ، وتصغيرها: عُرَيِّس، اسم مؤنث ولم تلحقه تاء التأنيث(4) .

تمرَّق: الميم والراء والقاف أصل صحيح يدلُ على خروج شيءٍ من شيء (5) .

يقال: مَرَق شعرها وتمرَّق وامَّرق إذا انتشر وتساقط من مرضٍ أو غيره.

وتمرَّق وتمرّط بمعنىً وكذلك تمعّط أي انتتف، وتمزق قريب من المعنى وهو خروج الشعر من أصله وإن كان لا يستعمل في الشعر حال المرض (6) .

الوَاصِلَة: الواو والصاد واللام أصل واحد يدلُّ على ضمِّ شيءٍ إلى شئٍ حتى يَعْلَقَهُ.

والوَصْل خلاف الفَصْل ، والواصِلَة: التي تصل الشعر بشعر آخر زورًا ، والمستوصلة: التي تأمر من يفعل بها ذلك (7) .

حَصِبَةٌ: الحاء والصَّاد والباء أصل واحد، وهو جنسٌ من أجزاء الأرض، ثم يشتق منه، وهو الحصباء، فأمَّا الحَصْبَةُ فَبَثْرَةٌ تخرج بالجسد، وهو داء معروف يظهر في الجلد ، مُشبَّه بالحَصْباءِ (8) .

من الفوائد :

1/ لهجة هذه الأم الحنون تفيء بظلال العاطفة والمحبة الوارفة، وهي تستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وصل شعر ابنتها الناقهة من المرض، حديثة العهد بالعرس.

إن المشاعر الجيَّاشة التي تضطرب في فؤاد تلك الوالدة والرغبة الجامحة لتزيين بُنَيَّتِها وتحقيق فرحتها لم تسوِّغ لها إرتكاب المنكر ... !! فلم تطب نفسًا (بالوصل) بحجة الجهل بالحكم، أو احتياج العُريِّس إليه واشتياق زوجها إليها، بل أتت تستفتي رسول الله صلى الله عليه وسلم راضية بحكمه مسلمة لأمره.

وقد أثنت عائشة - رضي الله عنها – وهي تروي هذا الحديث – على نساء الأنصار، وذكرت ما كُنَّ عليه من الورع والتقوى.

وما أحوجنا في هذا العصر – الذي شاع فيه حبُّ الملذَّات وإرضاء الشهوات بالمحرمات – أن نطوِّع أنفسنا ونوطنها لما يرضي ربنا عزَّ وجل، ونجعل هوانا تبعًا لسنة نبينا صلى الله عليه وسلم .

2/ فيه النَّهي عن وصل الشعر بمثله، مطلقًا للعروس وسواها، وأنه من الكبائر المتوعَّد عليها باللعن، مع إجماع الأمة على تحريمه (9) .

3/ اختلف العلماء في « الوِصْلات » المحرمة والمباحة على أقوال (10) :

أ- مذهب الجمهور ومالك واختيار الطبري والنَّووي و المرُّوزي و المازري وقول ابن مسعود وابن عمر وعائشة - رضي الله عنهم -، وغيرهم منعُ وصل الشعر بشيء آخر مطلقًا سواء كان شعرًا أو وبرًا أو صوفًا أو حريرًا أو خرقة ونحوها.

وسواءً كانت المستوصلة مزوّجة أو غير مزوّجة، قال النووي: وهو الظاهر المختار .

وأدلتهم: 1- حديث المتن بشواهده ومتابعاته، وهي: «لعن الله الواصلة والمستوصلة » وفي رواية: « أفأصل فيه؟ فنهاها » وفي رواية: «فسَب رسول الله الواصلة » وهي تفيد التحريم للوصل مطلقًا.

2- حديث جابر -رضي الله عنه - قال: «زَجَرَ النبَّي صلى الله عليه وسلم أَنْ تَصِلَ المرْأَةُ بِرأْسِهَا شَيئًا»(11). و(شيئًا) نكرة في سياق النهي فتعمّ كل نوعٍ وصنف يستعمل للوصل .

3- ما رواه سعيد بن المسيب – رحمه الله -: أن معاوية قال ذات يومٍ: إنَّ نبي الله صلى الله عليه وسلم نهى عَنْ الزُّورِ، قَالَ: وَجاءَ رَجُلٌ بعصًا عَلَى رَأْسِهَا خِرْقَةٌ، قَالَ مُعاويةُ : أَلاَ وَهَذا الزُّورُ. قَال قَتَادَةُ: يَعْنِي ما تُكثِّر بِهِ النِّساءُ أَشْعَارهُنَّ مِنَ الخِرقِ (12). وهذا عامٌ لكل وِصْلةٍ تتخذها المرأة لتكثير شعرها زورًا وتدليسًا.

ب- وذهب أحمد والليث بن سعد، وكثير من الفقهاء، وهو مروي عن ابن عباس (13) وأم سلمة زوج النبي صلى الله عليه وسلم ، ذهبوا إلى جواز وصل الشعر بغيره من خرقة ونحوها، وأن الممنوع هو وصل الشعر بالشعر.

أدلتهم:

1- عن سعيد بن جبير قال: « لا بَأْسَ بِالقَراَمِلِ » قال أبو داود: كأنه يذهب إلى أن المنهيَّ عنه شعور النساء(14) ، والقراملُ؛ جمع قَرْملة، بفتح القاف وسكون الراء، نباتٌ طويل الفروع، ليِّن، والمراد به هنا خيوط من حرير أو صوف يعمل ضفائر تصل به المرأة شعرها.

2- ما روى عبد الرحمن بن عوف أنه سمع معاوية بن أبي سفيان عام حجٍّ وهو على المنبر، وهو يقول: وتناول قُصَّةً من شعرٍ كانت بيد حرسيٍّ: أين علماؤكم؟ سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن مثل هذا ويقول: « إنما هلكت بنو إسرائيل حين اتخذ هذه نساؤهم »(15) .

4/ قال القاضي عياض – رحمه الله -: ربط الشعر بخيوط الحرير الملونة وشبهها مما لا يشبه الشعر ليس من الوصل، ولا هو مقصده، وإنما هو للتجميل والتحسين وشد خصلات الشعر وتهذيبه بها، كما يشد منه في الأوساط، ويربط من الحلي في الأعناق، ويجعل في الأيدي والأرجل (16) .

فكل ما تشد به رأسها بغير الشعر فلا بأس به لأن الحاجة داعية إليه، ولا يمكن التحرز منه، ولا هو في معنى مقصود الوصل والتزوير وإنما للتجمل والتحسين والترتيب (17) .

5/ مما قيل في الحكمة من تحريم الوصل:

-  ذكر الخطابي وابن العربي والطبري – رحمهم الله - وغيرهم: ما فيه من تغيير الخلقة التي خلقها الله سبحانه بزيادة في الطول أو الغزارة وهو باب من الفساد عظيم (18)

وقد خلق الله سبحانه الصور بأحسنها وفاوت في جمالها لحكم يعلمها، وفي التغيير تعدٍ على صنع الله تعالى يبقى أثره على الفاعل ولا يزول سريعًا.

- و لأن فيه استعمال شعر الآدمي، والانتفاع به محرّم وكذا سائر أجزائه لكرامته، أو فيه استعمال المختلف في نجاسته، وحمله إياه في الصلاة وغيرها. فهؤلاء نظروا إلى أن المحرم الموصول به لا فعل الوصل (19) .

-  قال ابن المنذر – رحمه الله -: ليس التحريم للنجاسة، ولكنه تعبدُّ، تتعبد به النساء كباقي الأحكام التعبدية (20) .

-   قال القاضي عبد الوهاب – رحمه الله -: المعنى فيه أنه غرر وتدليس (21) وهو خداع للزوج وزور وكذب.

-  و قيل ما فيه من التشبه باليهود، وهلاك بني إسرائيل بسبب إتخاذها نساؤهم.

6- ليس على المرأة طاعة زوجها فيما يأمرها من معصية كوصل الشعر وغيره (22) .

7- فيه أن من أعان على معصية فهو شريك له في الإثم (23) .

8- فيه جواز اللعن بالوصف، لا بالتعين، كلعن الظالمين والكافرين وغير ذلك مما جاءت به النصوص الشرعية، واللعن الوارد في الحديث إخبار من الرسول صلى الله عليه وسلم بأن الله سبحانه لعن هؤلاء، لا دعاء منه صلى الله عليه وسلم عليهم، ويتحمل الأمران معًا لاستحقاقهم هذا الوعيد (24) .

9- تحريم الوصل يشمل النساء والرجال معًا وإنما أنث الفاعلة في الحديث لأن الغالب أن المرأة هي الفاعلة الطالبة الراضية (25) أو باعتبار النفس فيدخل في المنهي عنه وصل اللحى والشوارب والأهداب والحواجب وغيرها - والله أعلم - .


(1) متفق عليه رواه البخاري (504ح 5941) بلفظ: إِنّ ابنتيِ أصابتها الحَصْبة فامّرقَ شَعْرُهَا، وإنِّي زوّجْتُها، أَفأَصِلُ فِيْهِ؟ فَقَالَ: «لَعَنَ الله الوَاصِلَةَ وَالمَوْصُولة » و (503ح 5934) بسنده عن أسماء بنت أبي بكر - رضي الله عنهما -، أَنَّ امرأةً جَاءتْ إلى رسُول الله صلى الله عليه وسلم فَقَالتْ: « إنيِّ أَنْكَحتُ ابَنتِي، ثُمّ أَصَابَها شَكْوى، فَتَمزَّقَ رأسُهَا وَزَوْجُها يَستَحِثُّني بِهَا، أَفَأصِلُ رَأْسَهَا؟ فَسبَّ رسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الوَاصِلَةَ والمُسْتَوْصِلَةَ » و رواه مسلم في: اللباس (1057ح 2122) و اللفظ له .

(2) تنبيه المعلم بمبهمات صحيح مسلم ص (364).

(3) معجم مقاييس اللغة (ص724).

(4) لسان العرب (6/134)، مختار الصحاح (ص178)، الفائق (2/416)، مشارق الأنوار (2/97).

(5) معجم مقاييس اللغة (ص944).

(6) لسان العرب (10/340)، الفائق (2/249)، مشارق الأنوار (1/475)، أعلام الحديث (3/2162)، النهاية في غريب الحديث (4/320).

(7) لسان العرب (11/726)، مختار الصحاح (ص302)، مشارق الأنوار (2/362)، النهاية في غريب الحديث (5/192).

(8) معجم مقاييس اللغة (ص249)، مشارق الأنوار (1/256)، النهاية (1/394).

(9) ينظر: عارضة الأحوذي (7/262)، فيض القدير (5/273) وعمدة القاري (19/226)، الزواجر عن اقتراف الكبائر (1/303)، ويحرم أيضًا ما يعرف اليوم (بالباروكة) – وهي الشعر المستعار – فهي داخلة في حكم الوصل وإن لم تكن وصلاً، فهي تظهر رأس المرأة على صفة أطول وأجمل من حقيقته فأشبه الوصل.

قال الشيخ ابن عثيمين - رحمه الله -: لكن إن لم يكن على رأس المرأة شعر أصلاً أو كانت (قرعاء) فلا حرج من استعمال (الباروكة) ليستر هذا العيب، لأن إزالة العيوب جائزة، ولهذا أذن النبي صلى الله عليه وسلم لمن قطعت أنفه في إحدى الغزوات أن يتخذ أنفًا من ذهب. فما كان لإزالة عيب [مضطرًا إليه] فلا بأس به، أما إن كان للتَّحسِين لغير إزالة عيب كالنمص والوشم فهذا من الممنوع . اهـ.

ضوابط هامة في زينة المرأة (ص45)، فتاوى المرأة المسلمة (2/176).

(10) ينظر : الأم (1/54- 55)،  شرح ابن بطال (9/171)، التمهيد (7/219)، الأوسط (2/277، 279)، إكمال المعلم (6/651)،  المنهاج (14/329)، فتح الباري (10/458)، شرح سنن ابن ماجه (ص143)، الديباج (5/159)، فيض القدير (5/273)، شرح الزرقاني (4/427)، حاشية السندي (8/144- 145)، سبل السلام (3/144- 145)، نيل الأوطار (6/343- 345)، عون المعبود (11/149- 150)، تحفة الأحوذي (8/54-55).

(11) رواه مسلم (1058 ح 2126) .

(12) رواه مسلم في الباب السابق (ح2127) .

(13) رواه ابن أبي شيبة (5/202) بسنده عن ابن عباس قال: لا بأس بالوصال إذا كان صوفًا وفي إسناده ضعف.

(14) رواه أبو داود (1527ح 4171) وإسناده صحيح - قال أبو داود: كان أحمد يقول: القرامل ليس به بأس. وينظر : أحكام النساء لابن الجوزي (ص345) .

(15) متفق عليه، رواه البخاري – واللفظ له – (503ح 5932) ورواه في الباب نفسه (ح5938) وفيه: « كُبَّةً من شعر »، ورواه مسلم في الباب السابق (ح2127) .

(16) إكمال المعلم (6/652).

(17) المغني (1/67)، سبل السلام (3/145).

(18) أعلام الحديث (3/2163)، عارضة الأحوذي (7/263) .

(19) الأم (1/54)، عمدة القاري (19/226)، وقد بوب النووي – رحمه الله - في الصحيح، باب: تحريم فعل الواصلة والمستوصلة كما سبق للدلالة على أن المحذور الفعل  وليس نوع الموصول.

(20) الأوسط (2/277).

(21) ينظر: إكمال المعلم (6/651)، شرح الزرقاني (4/427)، إكمال المعلم (6/655- 656)، والمنهاج (14/335)، وفتح الباري (10/462)، فيض القدير (5/273)، تحفة الأحوذي (8/55) .

(22) فتح الباري (9/379).

(23) شرح ابن بطال (9/174).

(24) ينظر: شرح السنة (13/138)، المنهاج (2/254)، عمدة القاري (1/203)، حاشية السندي (8/1450).

(25) شرح سنن ابن ماجه ص(143).

 



بحث عن بحث