حديث (إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِي اللَّيْلَةَ)

 

 

 عَنْ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: أَخْبَرَتْنِي مَيْمُونَةُ؛ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  أَصْبَحَ يَوْمًا وَاجِمًا، فَقَالَتْ مَيْمُونَةُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ ! لَقَدْ اسْتَنْكَرْتُ هَيْئَتَكَ مُنْذُ الْيَوْمِ قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  :

«إِنَّ جِبْرِيلَ كَانَ وَعَدَنِي أَنْ يَلْقَانِي اللَّيْلَةَ فَلَمْ يَلْقَنِي أَمَ وَاللَّهِ مَا أَخْلَفَنِي».

قَالَ: فَظَلَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَوْمَهُ ذَلِكَ عَلَى ذَلِكَ، ثُمَّ وَقَعَ فِي نَفْسِهِ جَرْوُ كَلْبٍ تَحْتَ فُسْطَاطٍ لَنَا فَأَمَرَ بِهِ فَأُخْرِجَ ثُمَّ أَخَذَ بِيَدِهِ مَاءً فَنَضَحَ مَكَانَهُ فَلَمَّا أَمْسَى لَقِيَهُ جِبْرِيلُ فَقَالَ له: « لَهُ قَدْ كُنْتَ وَعَدْتَنِي أَنْ تَلْقَانِي الْبَارِحَةَ » .

قَالَ: أَجَلْ، وَلَكِنَّا لاَ نَدْخُلُ بَيْتًا فِيهِ كَلْبٌ وَلاَ صُورَةٌ فَأَصْبَحَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم  يَوْمَئِذٍ، فَأَمَرَ بِقَتْلِ الْكِلَابِ حَتَّى إِنَّهُ يَأْمُرُ بِقَتْلِ كَلْبِ الْحَائِطِ الصَّغِيرِ، وَيَتْرُكُ كَلْبَ الْحَائِطِ الْكَبِيرِ . (1)

السَّائلة :

هي أم المؤمنين، ميمونة بنت الحَارِث ، من بني عبد الله بن هِلال بن عامر، من مضر.

أمها هي هند بنت عوف ، من حمير وقيل من كنانة .

وأخوات ميمونة لأبيها وأمها أم الفضل لبابة الكبرى زوج العباس بن عبد المطلب .

ولبابة الصغرى زوج الوليد بن المغيرة وهي أم خالد بن الوليد ، وعصماء، وعزَّة .

وأخواتها لأمها: أسماء بنت عميس، وسلمى وسلامة ابنتا عميس ، وزينب بنت خزيمة .

وكان اسم ميمونة برَّة فسمَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم  ميمونة .

وكانت قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم  عند أبي دُهْمِ بن عبدالعُزَّى وقيل عند سخبرة بن أبي رهم، وقيل غيرهما .

ثم تزوّجها رسُول الله صلى الله عليه وسلم  في ذي القعدة سنة سبع في عُمْرة القضَاء وهو حلال في قُبَّةٍ لها ثم بنى بها وهو حلال بسَرف، بطريق مكة، وقيل تزوّجها وهو محرم .

فأرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم  جعفر بن أبي طالب إليها فخطبها، فجعلت أمرها إلى العباس بن عبدالمطلب فزوّجها من رسول الله صلى الله عليه وسلم  .

وقيل: إنها هي التي وهبت نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم  فأنزل الله تعالى:( وَامْرَأَةً مُّؤْمِنَةً إِن وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَن يَسْتَنكِحَهَا خَالِصَةً لَّكَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ ) (2)

قال ابنُ الأثير: والصحيح ما تقدّم . توفيت سنة 51، وقيل سنة 63هـ، وصلى عليها ابن عباس – رضي الله عنها - ابن أختها . (3)

غريب الحديث :

وَاجِمًا : الواو والجيم والميم يدلُّ على سكون في اهتمام (4) .

قال القاضي عياض – رحمه الله -: وواجمًا أي مهتمًا أو مغتمًا بالغين المعجمة، وهو ظهور الحزن والكآبة وتقطيب الوجه منه، مع ترك الكلام.

وقيل الواجم: هو الذي اشتدَّ حزنه حتى امتنع عن الطعام ، وهو العَبُوسُ المُطْرِق من شدّة الحزن (5) .

جِرْو كَلْبِ: هو الصغير من ولد الكلب وسائر السباع والأنثى جِرْوَة، و يحمل عليه غيره تشبيها فيقال للصَّغيرة من القِثّاء الجِرْوَة وكذلك جِرُوْ الرُّمان (6) .

قيل :  أَجْرٍ ؛  الجمع الأدنى للجَرْو وقيل أَجْرِيَة والجِرَاءُ جمع الجمع (7) .

فُسْطَاطٍ : الفُسْطاط: بضم الفاء وكسرها بعض حِجَال البيت ، والجمع فساسيط (بسينين)(8) .

وقيل الفُسْطاط: ضربٌ من الأبنية في السَّفَر، دون السُّرَادق، أو المدينة التي فيها مجتمع الناس، وكل مدينة فُسْطاط . قال النووي: أصل الفسطاط: عمود الأخبية التي يقام عليها (9) .

نَضَحَ : النون والضاد والحاء أصلٌ يدلُّ على شيءٍ يُنَدَّى، وماءٍ يرشُّ، ويقال لكلِّ مارقَّ نَضْحٌ، ويطلق على الرشِّ بالماء لأنه رقيق (10) .

والنضح هو الحوض الصغير الذي فيه الماء سميِّ بذلك لأنه ينضح عطش الإبل أي يبلُّه، وقيل يأتي بمعنى الغَسْل والصَّبِّ، والنَّضْح: ما تعمّدت رشَّه بيدك، وبالمعجمة (نضخ) ما لم تتعمده، مثل أن تطأ ماءً فينتضخ عليك، وقيل بالمهملة لما رقَّ كالماء، وبالمعجمة لما ثخن كالطيب، أو لما يبقى أثره(11)

مِنْ فَوائِدِ الحديثينِ :

1/ فيه الموقف الإيجابي للزوجة الصَّالحة مع هُموم زوجها، وتحسُّس ما تبثُّه ملامحُ الوجهِ العابسة والهيئة الواجمة الحزينة، ثم السؤال عن سبب الكآبة للمشاركةِ في تفريج همِّه وإزاحة غمِّه .

قال النـووي – رحمه الله -: فيه أنه يستحب للإنسان إذا رأى صاحبه ومن له حقٌ واجمًا أن يسأله عن سببه فيساعده فيما يمكن مساعدته، أو يتحزّن معه، أو يذكره بطريق يزول به ذلك العارض. ا.هـ (12) .

2/ وفيه اشتياق النبي صلى الله عليه وسلم  لجبريل عليه السلام وتحرِّي لقائه، ووثوقه بوعد الله ورسله، ولكن قد يكون للشيء شرط فيتوقف على حصوله، ويمتنع لانتفائه (13) .

ويخفى على النبي صلى الله عليه وسلم   أمره فيشتدّ عليه، وما إن يزول المانع إلا والوحي موافيه تصديقًا لقوله تعالى: (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى ) (14) .

3/ وفيه الأسلوب التربوي الحكيم لمن تكدَّر عليه أمره، وأقلقه، أو تنكّدت وظيفته أو استعجم عليه شيء حيَّره، فينبغي له أن يفكرِّ في سببه، ويتروّى في خطْبه، ويستبصر عطبه، كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم   هنا، حتى استخرج الكلب(15) ،  وهو من نحو قول الله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَواْ إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِّنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُواْ فَإِذَا هُم مُّبْصِرُونَ  ) (16) .

4/ سبب امتناع الملائكة من دخول بيت فيه كلبٌ لكثرة أكله النجاسات، ولقبح رائحة الكلب، والملائكة تكره الرائحة القبيحة، ولأن بعضها يسمىَّ شيطانًا، ولما فيها من ترويع المسلم ودفع السائل، ولأنها منهيٌّ عن اتخاذها فعوقب متخذها بحرمانه دخول الملائكة بيته وصلاتها فيه، واستغفارها له ودفع أذى الشيطان، ومقاومته .

وهؤلاء هم ملائكة يطوفون بالرحمة والاستغفار وملائكة الوحي مثل جبريل .

أما الحفظة فيدخلون كل بيت ولا يفارقون الإنسان على كلِّ حالٍ .

واستظهر النووي امتناع الملائكة من الدخول لكل كلب، لإطلاق الحديث، ولأنَّ الجرو الذي كان في بيت النبي صلى الله عليه وسلم  تحت السرير لم يعلم به هو ولا أزواجه فكان له فيه عذر ظاهرٌ، ومع هذا امتنع جبريل – عليه السلام - من دخول بيته وعلله بوجود الجرو (17) .

5/ الحديثان حجة في منع اتخاذ الكلاب في الدور والقرى، والبيوت، ونحوها، بخلاف ما رُخّص فيه من كلب الصيد والزرع والماشية، وكلب الحائطِ الكبيرِ، للحاجة إلى حماية جوانبه، وحفظ أرجائه، بخلاف الحائط الصغير الذي يحميه ساكنه، ويستغني عن الكلب وغيره ممن يحميه.

قال النووي – رحمه الله - : الأمر بقتل الكلاب منسوخ. ا. هـ

وقال ابن عبد البر – رحمه الله -: الذي اختاره أن لا يقتل شيء من الكلاب إذا لم يضرّ بأحد وهو قول مالك ومن بعده من علماء الأمصار على اختلاف الأعصار. ا. هـ

وقد أبيح الانتفاع بها في الصيد ونحوه بعد المنع (18) .قال تعالى (يَسْأَلُونَكَ مَاذَا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُم مِّنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللّهُ فَكُلُواْ مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَاذْكُرُواْ اسْمَ اللّهِ عَلَيْهِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ سَرِيعُ الْحِسَابِ ) ( 19) .

6/ احتج جماعة من أهل العلم بنضح صلى الله عليه وسلم  مكان الكلب على نجاسته، وقالوا: المراد بالنضح الغسل، وسبق أن المراد به الرش، وتأولته المالكية على أنه غسله لخوف حصول بوله أو روثـه(20)                            


(1) رواه مسلم (1054 ح2105) .

(2) سورة الأحزاب، من الآية: 50 .

(3) أسد الغابة (6/272)، الاستيعاب (4/1914)، الإصابة (8/126) .

(4) معجم مقاييس اللغة (ص1044) .

(5) مشارق الأنوار (2/352)، وينظر: لسان العرب (12/630)، مختار الصحاح (ص296)، الغريب لابن سلام (3/232)، النهاية (5/156) .

(6) معجم مقاييس اللغة (ص194) .

(7) لسان العرب (14/139)، مشارق الأنوار (1/186)، النهاية (1/264) .

(8) مشارق الأنوار (2/201) .

(9) إكمال المعلم (6/630)، الفائق (3/116)، النهاية (3/445)، وقول النووي في: المنهاج (14/309).

(10) معجم مقاييس اللغة (ص994).

(11) مشارق الأنوار (2/20) وينظر هذا المعنى : لسان العرب (2/618)، الفائق (3/440)، النهاية (5/68).

(12) المنهاج (14/309) .

(13) ينظر: المنهاج (14/309) .

(14) سورة الضُّحى، الآية: 3 .

(15) ينظر: المنهاج (14/309) .

(16) سورة الأعراف، الآية: 201 .

(17) ينظر: شرح ابن بطال (9/181)، التمهيد (14/221)، إكمال المعلم (6/629، 630)، المنهاج (14/310)، عمدة القاري (22/69)، إرشاد الساري (12/629)، تلخيص الحبير (3/197)، ذكر ما ادعاه ابن حبان أنه مختصٌ ببيت الوحي .

(18) ينظر: شرح معاني الآثار (4/54، 55)، التمهيد (14/229، و233)، إكمال المعلم (6/630)، المنهاج  (14/311)، عمدة القاري (15/202)، نيل الأوطار (1/47) .

(19) سورة المائدة، الآية: 4 .

(20) إكمال المعلم (6/628)، المنهاج (14/309) .

 



بحث عن بحث