الخصيصة الرابعة/ تربية عمدتها التوازن، وقوامها الوسطية (6-11)
6ـ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " لن ينجي أحدا منكم عمله " . قالوا : ولا أنت يا رسول الله ؟ قال : " ولا أنا ، إلا أن يتغمدني الله برحمته ، سددوا وقاربوا ، واغدوا وروحوا ، وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا " (1) .
وعن علي رضي الله عنه قال : كنا في جنازة في بقيع الغرقد ، فأتانا النبي صلى الله عليه وسلم فقعد وقعدنا حوله ، ومعه مخصرة ، فنكس ، فجعل ينكت بمخصرته ، ثم قال : " ما منكم من أحد ، ما من نفس منفوسة إلا كتب مكانها في الجنة والنار ، وإلا قد كتب شقية أو سعيدة " ، فقال رجل : يا رسول الله أفلا نتكل على كتابنا ، وندع العمل ؟ فمن كان منا من أهل الشقاوة فسيصير إلى عمل أهل الشقاوة . قال : " أما أهل السعادة فييسرون لعمل السعادة ، وأما أهل الشقاوة فييسرون لعمل الشقاوة ، ثم قرأ ( فأما من أعطى وأتقى }5 { ) (2).
ففي هذين الحديثين يربي النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه على التوازن في العلم بالقدر والعمل بالتكاليف الشرعية . وأنه لا بد من الجمع بين الإيمان بالقدر والعمل بالتكاليف على الصورة الشرعية الصحيحة التي أمر الله بها عباده .
فليس للمسلم أن يتكل على القدر ويدع العمل الذي أمره الله به ، لأن القدر أمر غيبي عن الإنسان ولا يمكن الإحاطة به وفي المقابل لا يجوز للمسلم أن يتكل على عمله ويغفل عن رحمة الله تعالى ، لأن الإنسان لا يمكن أن يؤدي حق الله تعالى على الوجه المطلوب لأن من طبيعته التقصير ، كما قال تعالى : ( كلا لما يقض ما أمره }23 { ) (3).
" ففي الحديث أن النفس المخلوقة إما سعيدة وإما شقية ولا يقال : إذا وجبت الشقاوة والسعادة بالقضاء الأزلي والقدر الإلهي فلا فائدة في التكليف ، فإن هذا أعظم شبه النافين للقدر وقد أجابهم الشارع بما لا يبقى معه إشكال ، ووجه الانفصال أن الرب تعالى أمرنا بالعمل فلابد من امتثاله ، وغيب عنا المقادير لقيام حجته وزجره ونصب الأعمال علامة على ما سبق في مشيئته ، فسبيله التوقف فمن عدل عنه ضل ، لأن القدر سر من أسراره لا يطلع عليه إلا هو " (4) . انتهى .
وقال الحافظ ابن حجر : " الفاء معقبة لشيء محذوف ، تقديره ؛ فإذا كان كذلك أفلا نتكل ، وحاصل السؤال : ألا نترك مشقة العمل فإنا سنصير إلى ما قدر علينا ، وحاصل الجواب : لا مشقة لأن كل أحد ميسر لما خلق له وهو يسير على من يسره الله ، قال الطيبي : الجواب من أسلوب الحكيم منعهم عن ترك العمل وأمرهم بالتزام ما يجب على العبد من العبودية وزجرهم عن التصرف في الأمور المغيبة ، فلا يجعل العبادة وتركها سببا مستقلا لدخول الجنة والنار ، بل هي علامات فقط ، ووقع في حديث ابن عباس عند الطبراني : " اعمل فكل ميسر " وفي آخره عند البزار : فقال القوم بعضهم لبعض : فالجد إذا ؟ وأخرجه الطبراني في آخر حديث سراقة قال : " كل ميسر لعمله " قال : الآن الجد ، الآن الجد ، وفي آخر حديث ابن عمر عند الفريابي قال عمر : إذا نجتهد " (5). انتهى .
(1) رواه البخاري ، كتاب الرقاق ، باب القصد والمداومة على العمل 7 / 232 ، رقم الحديث 6463 .
وأخرجه مسلم ، كتاب صفات المنافقين وأحكامهم ، باب لن يدخل أحد الجنة بعمله 4 / 2169 رقم الحديث 2816 .
( اغدوا ) من الغدو وهو السير أول النهار . ( روحوا ) من الرواح وهو السير في النصف الثاني من النهار . ( الدلجة ) السير آخر الليل . ( القصد ) الزموا الوسط المعتدل في الأمور . ( تبلغوا ) مقصدكم وبغيتكم . انظر فتح الباري 11 / 297 ، 298 .
(2) رواه البخاري ، كتاب الجنائز ، باب موعظة المحدث عند القبر وقعود أصحابه حوله 2 / 121 رقم الحديث 1362 .
ورواه مسلم ، كتاب القدر ، باب كيفية خلق الآدمي في بطن أمه وكتابة رزقه 4 / 2039 رقم الحديث 2647 .
(3) سورة عبس : الآية 23 .
(4) لامع الدراري على جامع البخاري 4/ 465 للشيخ أبو مسعود رشيد أحمد الكنكوهي ، المكتبة الإمدادية .
(5) لامع الدراري على جامع البخاري 4 / 464 .