القاعدة السابعة عشرة

الرضا بالقضاء

وهو التصديق بعلم الله تعالى وكتابته وتقديره المسبق بالأشياء كلها بما كانت عليه في الماضي وما هي عليها الآن وما ستكون في المستقبل.

وهو جزء من الإيمان بالقدر الذي هو ركن من أركان الإيمان الستة، حيث لا يكتمل إيمان الإنسان إلا به، جاء واضحًا في حديث جبريل عليه السلام المشهور عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم  عن الإيمان فذكر عليه الصلاة والسلام: «الإيمان أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر وتؤمن بالقدر خيره وشره».

 يقول تبارك وتعالى: ﴿ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا ، ويقول في موضع آخر: ﴿ أَلَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّ ذَلِكَ فِي كِتَابٍ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ   .

ويقول عليه الصلاة والسلام في هذا الباب: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك رفعت الأقلام وجفت الصحف».

الرضا والصبر في القضاء والقدر:

ما أجمل أن يجتمع الصبر على قدر الله تعالى مع الرضا بهذا القضاء وعدم الجزع منه، فيكوّنا حصنًا منيعًا للنفس من الوساوس والنزعات، بل تنشأ في هذه النفس مقوّمات الحركة والاندفاع إلى الأمام في الحياة.

أما حين ينفصل الصبر عن الرضا، وذلك بكثرة التشكي من الحال والسخط من قدر الله عليه، فإنه يفتح بابًا واسعًا لزعزعة النفس وتهديد استقرارها، ليس هذا فحسب، بل إنه في كثير من الأحيان يخدش إيمان الإنسان وعقيدته، ويشككه في بعض ثوابت الدين وأصوله.

وكان عليه الصلاة والسلام يدعو قائلاً: «اللهم إني أسألك الرضا بعد القضاء».

ومن أجل ذلك كان لا بد من تمرين النفس على الرضا والقبول لأمر الله تعالى في السراء والضراء، للحفاظ على سلامة الإنسان وتوازنه في رحلته في هذه الحياة.

يقول الإمام الشافعي رحمه الله:

دع الأيام تفعل ما تشاء
ولا تجزع لحادثة الليالي
ولا حزن يدوم ولا سرور
إذا ما كنت ذا قلب قنوع
ومن نزلت بساحته المنايا
وأرض الله واسعة ولكن
دع الأيام تغدر كل حين

  وطب نفسًا إذا نزل القضاء
فما لحوادث الدنيا بقاء
ولا بؤس عليك ولا رخاء
فأنت ومالك الدنيا سواء
فلا أرض تقيه ولا سماء
إذا نزل القضا ضاق الفضاء
فما يغني عن الموت الدواء

¡  ¡  ¡

وما أجمل هذا الحوار الرائع الذي يحتوي على معان عظيمة وحكم جليلة عن مفهوم القضاء والقدر، حيث مرّ إبراهيم بن أدهم برجل مهموم ينطق وجهه بالهمّ والحزن، فقال إبراهيم: إني أسألك عن ثلاثة فأجبني؟

فقال الرجل: نعم.

فقال إبراهيم: أيجري في هذا الكون شيء لا يريده الله؟

فقال الرجل: لا.

فقال إبراهيم: أينقص من رزقك شيء قدره الله؟

فقال الرجل: لا.

فقال إبراهيم: أفينقص من أجلك لحظة كتبها الله؟

قال الرجل: لا.

فقال إبراهيم: فعلام الهمّ؟!

هل الإيمان بالقدر يعارض فعل الأسباب؟

إن الإيمان بالقدر لا يعارض أو ينافي فعل الأسباب، وكيف ينافيها وقد أمر الله تعالى ونبيه صلى الله عليه وسلم  بها واتخاذها وسائل مرتبطة بالغايات التي يسعى إليها الإنسان، فلو كان فعل الأسباب يعارض الإيمان بالقدر لتخلى الناس عن كل شيء وقعدوا عن الحركة والسعي في الحياة لتأتيهم أرزاقهم ومعاشهم، وتتحقق آمالهم ورغباتهم، من عند الله تعالى، ولكن الحقيقة التي بُني عليها هذا الدين تخالف هذا التصور وتنبذه بشدة، فقد ظهرت في بعض العصور الإسلامية فرق تدعو إلى نوع من هذا التفكير والاعتقاد، ولكن الله تعالى الذي تكفل بحفظ دينه وكتابه أخرج لهم العلماء الصالحين والأئمة الصادقين الذين أنار الله على أيديهم الحياة وكشف بسببهم ترهات المضلين والجبريين، فانتقلت إلينا بفضل الله تعالى ثم بفضل تلك الكواكب المنيرة هذا الدين خالصًا من غير تبديل أو تحريف.

نماذج من التاريخ:

لقد أخذ أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بالسبب دون الاستسلام للتصور الخاطئ في حادثة الطاعون الذي أصاب بلاد الشام وكان متوجهًا إليها، فلما سمع بذلك أمر بالرجوع، فقال له أبو عبيدة بن الجراح ا: «يا أمير المؤمنين كيف ترجع إلى المدينة أفرارًا من قدر؟» فقال عمر ا: «نفر من قدر الله إلى قدر الله» ثم جاء عبدالرحمن بن عوف ا وأكّد لهم قول النبي صلى الله عليه وسلم : «إذا سمعتم به في أرض فلا تقدموا عليها».

¡  ¡  ¡

الأخذ بالأسباب منهج للنبي
 

ثم إن الدارس للسيرة النبوية وحياة الصحابة رضوان الله عليهم يجد أن الأخذ بالأسباب كانت دأبهم مع توكلهم على الله تعالى وإيمانهم بأن كل ما يصيبهم من خير وشر مقدّر عليهم، فالرسول صلى الله عليه وسلم  وهو المخيَّر من عباد الله تعالى وهو المصطفى الذي أرسله الله تعالى لتبليغ الرسالة إلى الناس كان يأخذ بالأسباب وهذا واضح منذ البعثة إلى وفاته صلى الله عليه وسلم ، فهو الذي أسرّ بالدعوة في بدايتها خشية أن تقمع في مهدها، وهو الذي أمر الصحابة بالهجرة إلى الحبشة ليستأمنوا على أنفسهم ودينهم من المشركين، ثم إنه عليه الصلاة والسلام أمر الصحابة بالهجرة إلى المدينة المنورة خشية العنت عليهم من الكفار والمشركين في مكة المكرمة، وقد كانت في هجرته عليه الصلاة والسلام أعظم دلالة على أخذه بالأسباب، فقد هاجر وبرفقته أبو بكر ا إلى المدينة سرًا، مع العلم أن الله تعالى يمكن أن يحميه ويمنع عنه أذى المشركين، ولكنه عليه الصلاة والسلام أراد أن يبيّن للصحابة وللأمة من بعدهم أن العمل بالأسباب هو جزء من هذا الدين وإن تجاهل هذا الأمر يعرضهم للضعف والتخلف والجهل.

ترك الأسباب تواكل وليس توكلاً
 

فترك الأسباب والاستسلام للقدر يعدّ تواكلاً على الله وليس توكلاً عليه، وقد أشار عليه الصلاة والسلام بقوله: «اعقلها وتوكل».

ثمرات الإيمان بالقضاء والقدر:

1 – يولد في النفس الرضا والقناعة بحكم الله تعالى، وبكل ما يقدره الله تعالى له في الحياة، من رزق وقوة وجاه ومنصب أو مصيبة أو حرمان أو غيرها من النعم والابتلاءات، وهذا اليقين يدفع الإنسان أن يتحرك في الحياة بحرية وتفاؤل بعيدًا عن وساوس الشياطين وهمزاتهم التي تنزغ القلوب وتهددها باليأس والضجر أمام حاله ومآله.

يقول عليه الصلاة والسلام: «واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعت على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك» .

2 – الإيمان بالقضاء والقدر جزء من العلاج لأية مصيبة تحل بالإنسان، فإذا أصيب الإنسان بمرض فإن الضجر والسخط يزيد من المرض ويشد من وطأته.. أما الرضا والقبول لأمر الله تعالى فيعطي النفس اندفاعًا وتفاؤلاً نحو الأمام، لأن الإنسان حينها على يقين بأن ما أصابه لم يكن ليخطأه.

يقول عليه الصلاة والسلام: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط».

3 – الإيمان بالقدر يكسب صاحبه الشجاعة والجرأة في الحق من غير خوف أو تردد، بل إنه يزيد من قوة إيمانه وتمسكه بدينه، يقول الله تعالى عن المؤمنين بقضاء الله تعالى وقدره: ﴿ الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ ﴾.

4 – الإيمان بقضاء الله تعالى وقدره والصبر عليه من أسباب رضى الله تعالى على عبده ونزول رحمته عليه وإدخاله جنته، يقول عليه الصلاة والسلام: «إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قومًا ابتلاهم فمن رضي فله الرضى ومن سخط فله السخط».

¡  ¡  ¡

وهكذا فإن الإيمان بقدر الله تعالى خيره وشره، من القواعد المهمة لبناء المنهجية الصحيحة في الحياة، وبالتالي التحرك بالركب نحو الرقي والتقدم والازدهار، وهو في الوقت نفسه علاج أيما علاج لجميع المصائب والأمراض والعوائق والعقبات.



بحث عن بحث