رتبة السنة النبوية في التشريع (3)
أدلة أصحاب القول الثاني :
استدل أصحاب القول الثاني فيما ذهبوا إليه بالآتي:
1- أن الكتاب مقطوع به والسنة مظنونة والقطع فيها إنما يصح بالجملة لا في التفصيل بخلاف الكتاب فإنه مقطوع به في الجملة والتفصيل ، والمقطوع به مقدم علي المظنون فلزم من ذلك تقديم الكتاب علي السنة(1) .
وقد أجيب عن هذا الدليل بالآتي: أنا إذا نظرنا إلي السنة من حيث ذاتها وجدناها قطعية في جملتها وتفاصيلها أيضا ، وذلك حاصل بالنسبة للصحابي المشاهد له والسامع له فتنهار الشبهة من أساسها، ويجب علي مقعد القاعدة : أن يلاحظ فيها كل مجتهد ولو كان لا وجود له الآن.
وإذا نظرنا إليها من حيث طريقها بالنسبة إلينا قلنا:إن كان الخبر المعارض للآية متواترا: لم يصح فيه ذلك الكلام أيضا ، فكيف يؤخر في الاعتبار مع أنه قد يكون قطعي الدلالة والآية ظنيتها ، وقد يكون متأخرا عنها ناسخا لها ، وهو في هاتين الحالتين: واجب التقديم في الاعتبار فضلا عن المساواة؟
وكون غيره من الأخبار غير قطعي لا يؤثر في قطعيته ، لأن التعارض إنما حصل بين الآية وبينه وحده ، فلا يهمنا مقارنته بين الكتاب والسنة- في القطع- من حيث الجملة والتفصيل.
وكون السنة المتواترة قليلة لا يفيد في صحة دعواه العامة بل لو فرضنا عدم وجودها بالكلية :وجب علينا أن نفرض وجودها ونفصل في القاعدة علي مقتضي هذا الفرض: لأنه ممكن الحصول.
وإن كان خبر آحاد: فهو- وإن كان ظني الثبوت- إلا أنه قد يكون خاصا- فيكون قطعي الدلالة- والمعارض له من القرآن عاما فيكون ظنيا ، فيكون لكل منهما قوة من وجه: فيتعادلان فإهدار أحدهما ترجيح بلا مرجح.
بل لابد من الجمع بينهما بحمل أحدهما علي ما يوافق الآخر فنكون قد أعملناهما معا(2)
2- أن السنة إما بيان للكتاب أو زيادة علي ذلك ، فإن كانت بيانا فهو ثان علي المبين في الاعتبار، إذ يلزم من سقوط المبين سقوط البيان ، ولا يلزم من سقوط البيان سقوط المبين وما شأنه هذا فهو أولي في التقدم ، وإن لم يكن بيانا فلا يعتبر إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب ، وذلك دليل علي تقدم اعتبار الكتاب(3)
وأجيب عن هذا : بأنا لو سلمنا اقتضاء ما ذكرت تقديم المبين علي البيان فلا نسلمه علي إطلاقه ، وإنما نسلمه عند عدم إمكان الجمع بينهما :لأن إعمال الدليلين أولي من إهدار أحدهما.
ثم نقول: القرآن قد يكون بيانا للقرآن وقد يكون بيانا للسنة ، وقد تكون السنة بيانا للسنة فهل تقول: إن رتبة البيان: التأخير في جميع الأحوال...؟
ثم نقول هل يصح القول بالتعارض بين الدليلين- فضلا عن القول بإهدار أحدهما- بعد الاعتراف بأن أحدهما بيان والأخر مبين ، وبعد التعبير عنهما بهذين العنوانين؟
وأما قولك – فيما لم يكن بيانا : إنه لا يوجد إلا بعد أن لا يوجد في الكتاب: فلا شك أن مرادك: أن لا يوجد في الكتاب ما يخالفه. فإن أردت ما يخالفه قطعا: سلمنا لك ولكن هذا لا يستلزم ضعف السنة عن الكتاب ، بل هذا أمر لابد منه في جميع أنواع الوحي حتى بين الآيات بعضها مع بعض لأنه لا يمكن المخالفة بين أحكام الله تعالي مطلقا.
وإن أردت ما يخالفه ظنا: لم نسلم لك اشتراط عدم وجوده في القران بل قد يوجد- كما توجد مثل هذه المخالفة بين الآيتين- ويجب تأويل أحد الدليلين حينئذ والجمع بينهما: لئلا يهدر الأخر بلا مرجح(4)
(1) الموافقات 4/7
(2) حجية السنةص489، 490
(3) الموافقات 4/7
(4) حجية السنة ص473- 494