حديث: ما من أحد يدخل الجنة بعمله (2)

 

1- عن أبي هريرة س قال: قال رسول الله ق: «لن ينجي أحدا منكم عمله» قالوا، ولا أنت يا رسول الله قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمة سددوا وقاربوا واغدوا وروحوا وشيء من الدلجة والقصد القصد تبلغوا».

 

2- وعن عائشة ك أن رسول الله ق قال: «سددوا وقاربوا وأبشروا، فإنه لا يدخل أحدا الجنة عمله» قالوا، ولا أنت يا رسول الله قال: «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله بمغفرة ورحمة».

 

3- وفي رواية عنها: «سددوا وقاربوا واعلموا أن لن يدخل أحدكم عمله الجنة ، وأن أحب الأعمال أدومها إلى الله وإن قل».

 

 

قال ابن الجوزي: إنما أحب الدائم لمعنيين:

أحدهما: أن التارك للعمل بعد الدخول فيه كالمعرض بعد الوصل، وهو متعرض للذم، ولذا ورد الوعيد في حق من حفظ آية ثم نسيها وإن كان قبل حفظها لا يتعين عليه.

 

والثاني: أن مداوم الخير ملازم للخدمة، وليس من لازم الباب في كل يوم وقتاً ما، كمن لازم يوماً كاملا ثم انقطع- انتهى([1]).

 

قلت: وهذا يتعلق بالمرء نفسه، وكيفية ترويضها، وتعويدها على العبادة، بالطريقة التي أرشده رسولنا ق إليها، وذلك أدعى لتقبل العمل، والمداومة عليه.

 

وأما ما يتعلق بتيسير الإنسان على غيره، فقد رسم رسول الله ق في ذلك منهجا للمسلم، وبين له كيفية التعامل مع غيره، في أمور العبادات، وغيرها، وقد جاء في ألفاظ هذا الحديث برواياته: «يسروا ولا تعسروا وسكنوا ولا تنفروا، وبشروا ولا تنفروا ».

 

«وبشروا» أي: بشروا بفضل الله وعظيم ثوابه وجزيل عطائه وسعة رحمته وشمول عفوه ومغفرته، من التبشير وهو إدخال السرور، والبشارة، الإخبار بخبر سار.

 

وقوله: «بشروا» بعد قوله يسروا، فيه جناس خطي ولم يكتف به بل أردفه بقوله “ولا تنفروا” لما مر وهو من التنفير، أي: لا تذكروا شيئا تنهزمون منه.

 

وهذا يشمل التيسير على النفس - كما سبق- وعدم التكليف عليها، ويشمل أيضا التيسير على الناس، وعدم التعسير عليهم، أو التعامل معهم بما يقلقهم، ويضجرهم، ويذعرهم، ويهربهم من اتباع الحق، ويصدهم عنه.

 

فمن الجوانب الملحة التي توجب على المسلم الرفق بالناس: تخولهم في المواعظ، والتذكير، وعدم الإكثار عليهم بقدر يملهم، ويثقل عليهم، فينفروا وذلك لأن التيسير في التعليم يورث قبول الطاعة ويرغب في العبادة ويسهل به العلم والعمل، وهذا القول من النبي ق، من الأهمية بمكان، وتظهر أهميته، أنه أكده بقوله «ولا تعسروا» لا تشددوا أردفه بنفي التعسير مع أن الأمر بشيء نهي عن ضده تصريحا لما لزم ضمنا للتأكيد([2]).

 

وقد تمثل النبي ق ذلك قولا، وفعلا، فالقول هو ما سبق من قوله: يسروا، بشروا، سكنوا، ما كان الرفق في شيء إلا زانه، وما نزع من شيء إلا شانه.

 

خامسًا: بين النبي ق أن أوقات المرء كلها تصلح للعبادة فيتزود المرء من أي عمل في أي وقت فليس كل العبادات في وقت معين محدد من لم يدركه لا يدرك أي عبادة بل منها ما له وقت ومنها ما هو مشاع الوقت فحينما يتسير للمرء العبادة المشاعة يعملها .

 

وفي قوله ق «ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته»: كمال التوكل على الله تعالى، وتفويض الأمور إليه، إعانة وتوفيقاً، وقبولاً، وتواضعاً، ورجاءاً ورغبة ورهبة، وكمال التواضع من رسول الله ق لله تعالى، فمع شرف مقامه وعلو منزلته، وتطمينه من الله تعالى أنه أفضل خلقه، إلا أنه يتواضع ويغرس ذلك في أمته؛ ليبعدهم عن العجب الذي يحبط الأعمال، ويرشدهم إلى التمسك بالله وتفويض الأمر إليه؛ لأنه لن يضيع من اعتمد عليه، ولجأ إليه.

 

وهذا الحديث من جوامع الكلم؛ لاشتماله على الدنيا والآخرة؛ لأن الدنيا دار العمل والآخرة دار الجزاء فأمر المصطفى ق فيما يتعلق بالدنيا بالتسهيل وفيما يتعلق بالآخرة بالوعد بالجميل والإخبار بالسرور تحقيقا لكونه رحمة للعالمين في الدارين، وفيه الأمر بالتيسير بسعة الرحمة والنهي عن التنفير بذكر التخويف أي من غير ضمه إلى التبشير وتأليف من قرب إسلامه وترك التشديد عليه والأخذ بالأرفق، وتحسين الظن بالله، لكن لا يجعل وعظه كله رجاء بل يشوبه بالخوف، فيجعلها كأدنى حافر والعلم والعمل كجناحي طائر .

 

فتلخص من هذا كله: عدة قواعد كلها تقرر مبدأ اليسر في الشريعة وتتنوع في إثبات هذا الأصل:

أولًا: قاعدة عامة في أحكام الشريعة أنها يسر.

 

ثانيًا: التحذير والوعيد لمن يشاد الدين ويطلب العسر فيه أنه ينقلب عليه

 

ثالثًا: الأمر من النبي ق في القيام بأحكام الشريعة ويجعلها في حالتين:

1- إما السداد، وهو إصابة للحكم والعمل إصابة دقيقة وهو في هذه الحالة يسر؛ لأنه ذكر أولا أن الدين كله يسر فإن أصبته فقد أصبت اليسر .

 

2- وإما المقاربة، وهذا من التيسير فقد لا تتقن العمل كله أو لا تصيب الراجح منه فيكتفى منك في الشرع بالمقاربة رفعا للحرج .

 

رابعًا: يبشرنا النبي ق بالخير في التمسك بهذه الشريعة بما يرجع نفعه للمكلف في الدنيا والآخرة ليكون عونا له على طاعة الله .

 

خامسًا: بيان من النبي ق أن أوقات المرء كلها تصلح للعبادة فيتزود المرء من أي عمل في أي وقت فليس كل العبادات في وقت معين محدد من لم يدركه لا يدرك أي عبادة بل منها ما له وقت ومنها ما هو مشاع الوقت فحينما يتسير للمرء العبادة المشاعة يعملها .

 

سادسًا: كمال التوكل على الله تعالى، وتفويض الأمور إليها، إعانة وتوفيقا، وقبولا، وتواضعا، ورجاءاً ورغبة ورهبة.

 

سابعًا: كمال التواضع من رسول الله ق لله تعالى، فمع شرف مقامه وعلو منزلته، وتطمينه من الله تعالى أنه أفضل خلقه، إلا أنه يتواضع ويغرس ذلك في أمته؛ ليبعدهم عن العجب الذي يحبط الأعمال، ويرشدهم إلى التمسك بالله وتفويض الأمر إليه؛ لأنه لن يضيع من اعتمد عليه، ولجأ إليه.


([1]) نقلا عن فتح الباري(1: 103).

([2]) شرح المرماني على البخاري بتصرف(22: 223).



بحث عن بحث