حقوق ولاة الأمر(1)

 

الحمد لله، من تمسك بهديه قرّبه وأدناه، ومن خالف أمره أبعده وأقصاه، أحمده سبحانه، لا يذل من والاه، ولا يعز من عاداه، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، لا إله غيره ولا رب سواه، وأشهد أن سيدنا محمدًا عبده ورسوله، اجتباه ربه واصطفاه، أمر بالاجتماع والتعاون على البر وتقوى الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهداه.

 

 

أما بعد:

أخي المسلم!

في هذا الدرس نقف مع حق آخر عظيم وكبير، اهتم به الإسلام اهتمامًا كبيرًا، وجاءت في بيانه نصوص عديدة من الكتاب والسنة، موضحة ومجلّية لأمره، ومبينة لأهميته، ولذا سنلقي عليه الضوء بشيء من التفصيل والبيان.

 

لقد خلق الله الناس وجعل بعضهم مرتبطًا ببعض في معاشهم وحياتهم، وجعل من حكمته سبحانه البشرَ بحاجة إلى من يسوسهم ويتولى أمرهم ويقوم على شؤونهم، ولا تصلح حالهم ولا تستقيم حياتهم إلا بتنظيم أمورهم التي يرعاها ويقوم بها إمامُهم وولي أمرهم، وكلما اتسعت رقعة المجتمع ازدادت الولايات الصغرى التي تحت الولاية الكبرى، فإذا لم يكن للمجتمع قائد يتولى أمره، وإمام يطاع ويسمع؛ آل هذا المجتمع إلى فُرْقَةٍ وتناحرٍ، وخلافٍ وشقاقٍ، وأحزابٍ وشيعٍ، وهكذا كانت المجتمعات قبل الإسلام على ضعف في تلك الإمارات وتنوع واختلاف، ثم جاء الإسلام فنظّم واقع الإمارة تنظيمًا دقيقًا، وحوّلها من أعراق وعادات إلى دين يدينون به، فجعل للإمام حقوقًا على الرعية، وللرعية حقوقًا على الإمام، بكل دقة وتفصيل، بما ليس له مثيل في أنظمة البشرية كلها، ولم تسعد البشرية كما سعدت في عصور الإسلام المختلفة التي انتظم فيها أمر الراعي والرعية.

 

 

أخي المسلم!

والراعي هو الإمام، والراعي يطلق على صاحب الولاية الكبرى، أو من تكون له ولاية يفوضها له الإمام مهما صغرت، فالإمام الأول راعٍ، والوزير راع، وكُلٌّ من المدير والمسؤول راعٍ.. وهكذا، حتى المسافرون إذا أَمَّرُوا واحدًا عليهم فهو والٍ عليهم كما جاء بذلك الخبر.

 

روى الشيخان عن ابن عمر بأنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته، الإمام راعٍ ومسؤول عن رعيته، والرجل راعٍ ومسؤول عن رعيته، والمرأة راعية في بيت زوجها ومسؤولة عن رعيتها، والخادم راعٍ في مال سيده ومسؤول عن رعيته»([2]).

 

وأعظم هذه المسؤوليات مسؤولية الإمام والحاكم ومن ينيبه في بعض مسؤولياته، ولعظم هذه المسؤولية جعل الإسلام للإمام حقوقًا يجب على المسلم أن يتعرف عليها، كما يجب على الأمة أن تقوم بها؛ ليصلح شأنها وتستقيم حياتها.

 

وأول هذه الحقوق -أعني حقوق الإمام-: السمع والطاعة بالمعروف، والمراد بها: الانقياد له والتنفيذ لأمره، وترك ما ينهى عنه ما لم يكن بمعصية الله، وهذا الحق أعظم الحقوق وأظهرها على الرعية، وقد تواترت النصوص من الكتاب والسنة على إيجاب هذا الحق على أعيان المسلمين، وعليه أجمعت الأمة، قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ۖ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۚ ذَٰلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلًا﴾ [النساء: 59].

 

وروى البخاري رحمه الله عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اسمعوا وأطيعوا وإن استعمل عليكم عبد حبشي كأن رأسه زبيبة».

 

وروى مسلم رحمه الله عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «إن خليلي أوصاني أن أسمع وأطيع، وإن كان عبدًا مجدَّع الأطراف»([4]).

 

وهذه الطاعة -أخي المسلم- تكون في جميع أحوال الإنسان؛ من العسر واليسر، والمنشط والمكره، وحال المحبة والكره، ومهما كان حال الوالي، ما لم يأمر بمعصية، روى الإمام مسلم رحمه الله وغيره عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «عليك السمع والطاعة في عسرك ويسرك، ومنشطك ومكرهك، وأثرة عليك»([6]).

 

وطاعة الوالي من طاعة الله تعالى، ومعصيته من معصية الله تعالى، أخرج الشيخان وغيرهما عن أبي هريرة رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «من أطاعني فقد أطاع الله، ومن يعصني فقد عصى الله، ومن يطع الأمير فقد أطاعني، ومن يعصِ الأمير فقد عصاني»([8]).

 

وروى الإمام أحمد وأبو يعلى وغيرهما بإسناد صحيح عن الحارث الأشعري رضي الله عنه في حديث طويل وفيه: أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «وآمركم بخمس الله أمرني بهن: بالجماعة، والسمع والطاعة، والهجرة، والجهاد في سبيل الله، فإن من خرج من الجماعة قيد شبر فقد خلع ربقة الإسلام من عنقه إلا أن يرجع...»(

 

([2]) رواه البخاري في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام (7142).

([4]) رواه أحمد (4/126 – 127)، وأبو داود برقم (4608)، والترمذي في كتاب العلم، باب ما جاء في الأخذ بالسنة واجتناب البدع (2676).

([6]) رواه البخاري في كتاب الأحكام، باب السمع والطاعة للإمام (7144)، ومسلم في كتاب الإمارة، باب وجوب طاعة الأمراء (1839).

([8]) رواه الإمام أحمد (2/93)، وابن حبان كما في الإحسان (5/470) برقم (2109)، والطبراني في الكبير (13238).

([9]) رواه أحمد (4/130، 202)، وأبو يعلى في مسنده (3/141) برقم (1571).



بحث عن بحث