الخصيصة الرابعة/ تربية عمدتها التوازن، وقوامها الوسطية (1-11)

 

2ــ عن أنس - رضي الله عنه- قال: جاء ثلاثة رهط إلى بيوت أزواج النبي - صلى الله عليه وسلم- يسألون عن عبادة النبي - صلى الله عليه وسلم- فلما أخبروا بها كأنهم تقالوها، فقالوا: وأين نحن من النبي - صلى الله عليه وسلم- وقد غفر له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، قال أحدهم: أما أنا فإني أصلي الليل أبدا، وقال آخر: أنا أصوم الدهر ولا أفطر، وقال آخر: أنا أعتزل النساء فلا أتزوج أبدا، فجاء رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فقال: ( أنتم الذين قلتم كذا وكذا ؟ أما والله إني لأخشاكم لله وأتقاكم له، لكني أصوم وأفطر، وأصلي وأرقد، وأتزوج النساء، فمن رغب عن سنتي فليس مني ).(1)

فهذا موقف من مواقف الغلو يجلي لنا سبب هذه النزعة ، وهو الرغبة الصادقة في التزود من الخير التي دفعتهم للسؤال عن أسلوب النبي - صلى الله عليه وسلم- في عبادته، فلما علموا، رأوا أن ذلك قليل فقالوا ما قالوا، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم- لم يقر هذا الاتجاه فبادر بعلاجه، وصحح نظرتهم لتحصيل خشية الله وتقواه، فبين أنها ليست بالتضلع من أعمال والتفريط في أخري ، ولكنها تحصل بالموازنة بين جميع مطالب الله، وهذا هو عين الوسطية، والحكمة، والاستقامة، والاعتدال، والعدل .(2)

ويعلق سيد قطب ــ رحمه الله ــ علي هذا الحديث وأمثاله فيقول: " والذي يحاول أن يعطل طاقاته الجسدية الحيوية هو كالذي يحاول أن يعطل طاقاته الروحية الطليقة، كلاهما يخرج علي سواء فطرته ويريد من نفسه ما لم يرده الخالق له، وكلاهما يدمر نفسه بتدمير ذلك المركب في كيانها الأصيل، وهو محاسب أمام الله على هذا التدمير.

من أجل هذا أنكر الرسول - صلى الله عليه وسلم- على من أراد أن يترهبن فلا يقرب النساء، ومن أراد أن يصوم الدهر فلا يفطر، ومن أراد أن يقوم الليل فلا ينام. أنكر عليهم كما ورد في حديث عائشة - رضي الله عنها-، وقال: ( فمن رغب عن سنتي فليس مني ).

وقد أقام الإسلام شريعته للإنسان على أساس تكوينه ذاك، وأقام له عليها نظامًا بشريًا لا تدمر فيه طاقة واحدة من طاقات البشر. إنما قصارى هذا النظام أن يحقق التوازن بين هذه الطاقات؛ لتعمل جميعها في غير طغيان ولا ضعف، ولا اعتداء من إحداها على الأخرى، فكل اعتداء يقابله تعطيل، وكل طغيان يقابله تدمير "(3).

3ــ عن عائشة - رضي الله عنها- قالت: " دخل علي رسول الله - صلى الله عليه وسلم- وعندي امرأة فقال: ( من هذه ؟) فقلت: امرأة لا تنام تصلي، قال : ( عليكم من العمل ما تطيقون ، فوالله لا يمل الله حتى تملوا ) ، وكان أحب الدين إليه ما داوم عليه صاحبه )(4).

وعن أنس - رضي الله عنه- قال: دخل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- المسجد وحبل ممدود بين ساريتين، فقال: ( ما هذه ؟ ) قالوا: لزينب تصلي، فإذا كسلت أو فترت أمسكت به، فقال: ( حلّوه، ليصل أحدكم نشاطه، فإذا كسل أو فتر قعد )(5).

فهذان الحديثان يدلان على أن النساء لم يَكُنَّ أقل حرصًا من الرجال على التزود من الخير، والتنافس في أعمال البر، وقد تجلى ذلك في هذه النزعة الجامحة نحو العبادة، ولكن الرسول - صلى الله عليه وسلم- لم يقر هذا الجموح الضار، فعمد إلى الزجر عنه، وأمر بالوسط النافع.

قال الإمام النووي معلقًا على هذين الحديثين: " فيه دليل على الحث على الاقتصاد في العبادة، واجتناب التعمق، وليس الحديث مختصًا بالصلاة، بل هو عام في جميع أعمال البر....، وفي هذا الحديث كمال شفقته - صلى الله عليه وسلم- ورأفته بأمته؛ لأنه أرشدهم إلي ما يصلحهم، وهو ما يمكنهم الدوام عليه بلا مشقة ولا ضرر، فتكون النفس أنشط والقلب منشرحا، فتتم العبادة "(6).

 


 


(1) - أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الترغيب في النكاح ( 5063 ).

(2) - الوسطية في القرآن ص 494 .

(3) - في ظلال القرآن ( 4 / 2139 ) .

(4) - أخرجه البخاري، كتاب الجمعة، باب ما يكره من التشديد في العبادة ( 1151 ) ومسلم، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب فضيلة العمل الدائم...( 1834 ) .

(5) - أخرجه البخاري، الكتاب والباب السابقين ( 1150 ) ومسلم الكتاب والباب السابقين ( 1831 ).

(6) - شرح النووي على مسلم ( 6 / 71 ) .

 

 

 



بحث عن بحث