وعلي هذا النحو ربي الصحابة الكرام، وأسس بهم خير أمة أخرجت للناس، وبين لهم أن الله هو الغاية، وهو المقصد، له تعنوا الوجوه والجباه، وإليه الملجأ والملاذ، و به وحده الحول والطول، لا سعادة إلا في الإقبال عليه، ولا نعيم إلا في الإخبات له، ولا طمأنينة إلا في انشغال القلب بذكره واللسان بشكره، ورحم الله الإمام ابن القيم إذ يقول: (في القلب شعث لا يلمه إلا الإقبال علي الله، وفيه وحشة لا يزيلها إلا الأنس بالله، وفيه حزن لا يذهبه إلا السرور بمعرفته، وصدق معاملته، وفيه قلق لا يسكنه إلا الاجتماع عليه، والفرار إليه، وفيه نيران حسرات لا يطفئها إلا الرضا بأمره ونهيه وقضائه، ومعانقة الصبر علي ذلك إلي وقت لقائه، وفيه فاقة لا يسدها إلا محبته والإنابة إليه، ودوام ذكره، وصدق الإخلاص له، ولو أعطي الدنيا وما فيها لم تسد تلك الفاقة أبدا)(1).

 روي النسائي بإسناد جيد عن أبي أمامة الباهلي، قال: جاء رجل إلي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: أرأيت رجلا غزا يلتمس الأجر والذكر ما له؟

 فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا شئ له)، فأعادها ثلاث مرات، يقول له رسول الله صلي الله عليه وسلم: (لا شئ له)، ثم قال: (ألا إن الله لا يقبل من العمل إلا ما كان له خالصا وابتغي به وجهه)(2).

وروي البخاري ومسلم عن أبي موسي الأشعري ن أن رجلا أعرابيا أتي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! الرجل يقاتل للمغنم، والرجل يقاتل للذكر، والرجل يقاتل ليري مكانه فمن في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم: (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله)

 وفي رواية (الرجل يقاتل شجاعة، ويقاتل حمية، ويقاتل رياء، أي ذلك في سبيل الله؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم (من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا، فهو في سبيل الله)(3)

 فالقتال لما كان منشؤه القوة العقلية، والقوة الغضبية، والقوة الشهوانية، دعا صلي الله عليه وسلم أصحابه أن يكون دافعهم إليه القوة العقلية فحسب، حيث سئل عن الدوافع البشرية التي يندفع بها الناس نحو القتال، فقيل له يا رسول الله: الزجل منا يقاتل رغبة في الحصول علي الغنيمة أحيانا، ويقاتل حماية لأهله وقبيلته وعصبته أحيانا، ويقاتل ليراه الناس شجاعا مقداما أحيانا، ويقاتل ليقول الناس عنه: كان بطلا جريئا غير هياب أحيانا، ويقاتل غضبا لدفع مضرة

 أو جلب مصلحة أحيانا، فهل يكون بهذه الدوافع مجاهدا في سبيل الله؟ وله أجر المجاهدين؟ وله ثواب الشهداء الهائل إن هو استشهد في معركة المشركين؟ فقال صلي الله عليه وسلم من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو الذي في سبيل الله، وإن هذا الأجر الموعود به إنما هو لمن خرج مخلصا يدافع عن دعوة الإسلام، وينشر دعوة الإسلام، فكان هذا الجواب النبوي من جوامع كلمه صلي الله عليه وسلم، لأنه لو أجابه بأن جميع ما ذكره ليس في سبيل الله، احتمل أن يتوهم السامع أن ما عدا ذلك كله في سبيل الله، مع أن واقع الأمر ليس كذلك.

 وقد اتبع الحديث أسلوب الحكيم، فعدل ألي لفظ جامع، عدل به عن الجواب عن ماهية القتال إلي حال المقاتل، فتضمن الجواب وزيادة.

 إن النوايا هي التي تشكل الأعمال وتوجهها، والعمل مهما تكن ضخامته وخطره، لا يكون جليلا، ولا يكتب له الخلود الحق، إلا بقدر ما تكون النوايا التي أطلقته جليلة وصادقة، ومن هنا يقول الرسول صلي الله عليه وسلم في وصيته إلي معاذ: (أخلص دينك يكفك العمل القليل)(4)

 وانطلاقا من هذه التربية النبوية رأينا الصحابة رضي الله عنهم ينطلقون في كافة تصرفاتهم وفق هذه الوصية، وهذه أمثلة دالة علي سلوكهم هذا المسلك

 روي الإمام مسلم بسنده عن ثابت قال: قال أنس: عمي الذي سميت به (وهو أنس بن النضر) لم يشهد مع رسول الله صلي الله عليه وسلم بدرا، قال: فشق عليه، قال: أول مشهد شهده رسول الله صلي الله عليه وسلم غبت عنه، وإن أراني الله مشهدا فيما بعد، مع رسول الله صلي الله عليه وسلم ليراني الله تعالي ما أصنع، قال: فهاب أن يقول غيرها، قال: فشهد مع رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم أحد، فقال: فاستقبل سعد بن معاذ، فقال له أنس: يا أبا عمرو أين؟

 فقال: واها - كلمة تحنن وتلهف، والقائل هو أنس - أجده دون أحد، قال: فقاتلهم حتي قتل، قال فوجد في جسده بضع وثمانون، من بين ضربة وطعنة ورمية، قال: فقالت أخته، عمتي الربيع بنت النضر: فما عرفت أخي إلا ببنانه، ونزلت هذه الآية: (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا)[ الأحزاب / 23 ] قال: فكانوا يرون أنها نزلت فيه وفي أصحابه.(5) 

 وروي النسائي بسند صحيح عن عكرمة بن خالد أن ابن أبي عمار أخبره عن شداد بن الهاد: أن رجلا من الأعراب جاء إلي النبي صلي الله عليه وسلم فآمن به واتبعه ثم قال: أهاجر معك، فأوصي به النبي صلي الله عليه وسلم بعض أصحابه، فلما كانت غزوة غنم النبي صلي الله عليه وسلم سبيا فقسم وقسم له، فأعطي أصحابه ما قسم له وكان يرعي ظهرهم، فلما جاء دفعوه إليه فقال: ما هذا؟ قالوا: قسم قسمه لك النبي صلي الله عليه وسلم فأخذه فجاء به إلي النبي صلي الله عليه وسلم فقال: ما هذا؟ قال: (قسمته لك) قال: ما علي هذا اتبعتك ولكني اتبعتك علي أن أرمي إلي ههنا - وأشار إلي حلقه - بسهم فأموت فأدخل الجنة، فقال: (إن تصدق الله يصدقك) فلبثوا قليلا ثم نهضوا في قتال العدو، فأتي به النبي صلي الله عليه وسلم يحمل قد أصابه سهم حيث أشار، فقال النبي صلي الله عليه وسلم: (أهو هو؟) قالوا: نعم، قال: (صدق الله فصدقه)، ثم كفنه النبي صلي الله عليه وسلم في جبة النبي صلي الله عليه وسلم ثم قدمه فصلي عليه فكان مما ظهر من صلاته: (اللهم! هذا عبدك خرج مهاجرا في سبيلك، فقتل شهيدا أنا شهيد علي ذلك)(6)

 وهذا أبو بكر الصديق خليفة المسلمين يسير مع جيش أسامة بن زيد وهو ماش وأسامة راكب، فقال له أسامة: يا خليفة رسول الله لتركبن أو لأنزلن، فقال أبو بكر: والله لا تنزل، ووالله لا أركب، وما علي أن أغبر قدمي ساعة في سبيل الله، فإن للغازي بكل خطوة يخطوها سبعمائة حسنة تكتب له، وسبعمائة درجة ترفع له، وتمحي عنه سبعمائة خطيئة.(7)

 ومن هنا وجدنا رسالة عمر الشهيرة في القضاء تؤكد هذا المعني فقد جاء فيها: (فمن خلصت نيته في الحق ولو علي نفسه كفاه الله ما بينه وبين الناس، ومن تزين بما ليس فيه شانه الله).

 قال ابن القيم في شرح هذه الكلمات: (هذا شقيق كلام النبوة، وهو جدير بأن يخرج من مشكاة المحدث الملهم، وهاتان الكلمتان من كنوز العلم، ومن أحسن الإنفاق منهما نفع غيره وانتفع غاية الانتفاع

 فأما الكلمة الأولي فهي منبع الخير وأصله، والثانية أصل الشر، فإن العبد إذا خلصت نيته لله تعالي، وكان قصده وهمه وعمله لوجهه سبحانه، كان الله معه، فإنه سبحانه مع الذين اتقوا والذين هم محسنون، ورأس التقوي والإحسان خلوص النية لله في إقامة الحق، والله سبحانه لاغالب له، فمن كان معه فمن ذا الذي يغلبه او يناله بسوء؟ فإن كان الله مع العبد فمن يخاف؟ وإن لم يكن معه فمن يرجو؟ وبمن يثق؟ ومن ينصره من بعده؟)(8)

وهكذا نري الإنسان الرباني في التربية النبوية يعبد الله وحده لا شريك له، هدفه مرضاته، وغايته محبته، والقرب منه، وحسن الاتصال به، لا يريد إلا وجهه، ولا يبتغي إلا مثوبته، لا يحب ولا يبغض إلا فيه، ولا يعطي ويمنع إلا له.

 أما الدنيا فهي عنده أداة لا هدف، ووسيلة لا غاية، فهو يملكها ولا تملكه، ويسخرها ولا تسخره، ويجعلها في يده، ولكن لا يملأ بها قلبه،

 إنه يدعو ربه بما دعا به محمد عليه الصلاة والسلام: (اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا ولا مبلغ علمنا)(9)

 وهذا هو الصنف (الرباني) الذي عاش لله وبالله، صلاته ونسكه لله، ومحياه ومماته لله، ونيته وعمله لله، وجهده وجهاده لله.

 إنه يفعل الخير للناس، ويسدي المعروف للضعفاء والمساكين، ولكنه لا يطلب منهم ثمنا لمعروفه، لأن غايته أن يحمده الله لا أن يحمدوه، وأن يرضي عنه لا أن يرضوه: (ويطعمون الطعام علي حبه مسكينا ويتيما وأسيرا. إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا)(10)

 إنه يكف يده عن الشر، ولسانه عن الأذي، ولا يقابل السيئة بالسيئة، بل يدفع بالتي هي أحسن، لا خشية من أحد بل خشية من الله جل جلاله.

 ألم تر إلي ابن آدم المؤمن الخير، حين هدده أخوه بالقتل، لم يرد عليه السوء بمثله، بل قال في أدب وكرم: (لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين) (1)

 إنه يدعو إلي الخير، ويأمر بالمعروف، وينهي عن المنكر، ويصلح بين الناس، ويميط الأذي عن الطريق.

 إنه يعلم الجاهل، ويهدي الحائر، ويرشد الضال... لا يطلب جزاءه إلا من الله، وشعاره في ذلك ما ذكره الله تعالي علي ألسنة رسله حين قال كل رسول لقومه: (وما أسألكم عليه من أجر إن أجري إلا علي رب العالمين)(12)

 إنه يضع رأسه علي كفه، ويقدم روحه فداء للحق، ويبذل النفس والمال ذيادا عن القيم والحرمات، ولكنه لا يفعل هذا ليذكر اسمه في قائمة الأبطال، ولا ليري مكانه وتتحدث عنه أجهزة الإعلام، ولا ليحوز غنيمة دنيوية، ولكن لتكون كلمة الله هي العليا(13).


 

(1)     مدارج السالكين.
(2)     سنن النسائي، كتاب الجهاد، باب من غزا يلتمس الأجر والذكر (3142).
(3)     صحيح الخاري، كتاب الجهاد والسير، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا (2810)، وصحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله (4919، 4920).
(4)     أخرجه الحاكم (4 / 34) وقال: هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه، ونفي صحته الذهبي.
(5)     صحيح مسلم، كتاب الجهاد، باب ثبوت الجنة للشهيد (4918).
(6)     سنن النسائي، كتاب الجنائز، باب الصلاة علي الشهيد (1955).
(7)     حياة الصحابة 2 / 22، 23.
(8)     إعلام الموقعين (2 / 178).
(9)     جزء من حديث أخرجه الترمذي، كتاب الدعوات، باب دعاء اللهم اقسم لنا من خشيتك...... (3502) وقال: هذا حديث حسن غريب.
(10)     سورة الإنسان / 8 - 9.
(11)     سورة المائدة / 28.
(12)     سورة الشعراء / 109.
(13)     انظر: الخصائص العامة للإسلام ص 22، 23.



بحث عن بحث