الوحي الإقراري:

        أما الوحي الإقراري فهو أن يجتهد - صلى الله عليه وسلم- في الأمر فيسلك فيه مسلكا ما، فإن كان صوابا أقره الوحي، وإن كان غير صواب نبهه الوحي، وحينئذ يكون إعلاميا، فالوحي التقريري هو ما أقر الله - سبحانه وتعالى- نبيه فيه علي صواب فعله من تلقاء نفسه.

         وعليه فما صدر منه - صلى الله عليه وسلم- من قول، أو فعل، أو إقرار، دائر بين حالين:

 أ - حال الإيحاء، بأن يوحي الله إليه بالأمر ابتداء فيمتثل، أو يوحي إليه انتهاء ليعرفه سبحانه ما يتفق وشريعته، وهذا قليل نادر، ومثاله ما حدث في أسرى بدر.

      وهذه الحال الكثير الغالب، فكثيرا ما ابتدأه الوحي، وربما سئل عن الشيء فسكت حتي جاءه الوحي، ومن أمثلة ذلك:

-  ما رواه البخاري ومسلم من حديث صفوان بن يعلى بن أمية عن أبيه: أن رجلا أتى النبي - صلى الله عليه وسلم- وهو بالجعرانة، وعليه جبة وعليه أثر الخلوق، أو قال صفرة، فقال: كيف تأمرني أن أصنع في عمرتي؟ فأنزل الله على النبي - صلى الله عليه وسلم- فستر بثوب، وودت أني قد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم وقد أنزل عليه الوحي، فقال عمر: تعالى، أيسرك أن تنظر  إلى النبي - صلى الله عليه وسلم- وقد أنزل عليه الوحي؟ قلت: نعم، فرفع طرف الثوب فنظرت إليه له غطيط - وأحسبه قال - كغطيط البكر، فلما سري عنه قال: (أين السائل عن العمرة؟ اخلع عنك الجبة، واغسل أثر الخلوق عنك وأنق الصفرة، واصنع في عمرتك كما تصنع في حجك)(1).

- ما رواه مسلم من حديث ثوبان مولى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، قال: كنت قائما عند رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فجاء حبر من أحبار اليهود فقال: السلام عليك يا محمد! فدفعته دفعة كاد يصرع منها، فقال: لم تدفعني؟ فقلت: ألا تقول يا رسول الله؟ فقال اليهودي: إنما ندعوه باسمه الذي سماه به أهله، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (إن اسمي محمد الذي سماني به أهلي)، فقال اليهودي: جئت أسألك، فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (أينفعك شيء إن حدثتك؟) قال أسمع بأذني، فنكت رسول الله - صلى الله عليه وسلم- بعود معه، فقال: (سل)فقال اليهودي: أين يكون الناس يوم تبدل الأرض غير الأرض والسموات؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم: (هم في الظلمة دون الجسر)، قال فمن أول الناس إجازة؟ قال: (فقراء المهاجرين) قال اليهودي: فما تحفتهم حين يدخلون الجنة؟ قال: (زيادة كبد النون) قال: فما غذاؤهم على إثرها؟ قال: (ينحر لهم ثور الجنة الذي كان يأكل من أطرافها) قال: فما شرابهم عليه؟ قال: (من عين فيها تسمى سلسبيلا) قال: صدقت، قال: وجئت أسألك عن شيء لا يعلمه أحد من أهل الأرض إلا نبي أو رجل أو رجلان. قال: (ينفعك إن حدثتك؟) قال: أسمع بأذني. قال: جئت أسألك عن الولد؟ قال:(ماء الرجل أبيض وماء المرأة أصفر، فإذا اجتمعا، فعلا مني الرجل مني المرأة أذكرا بإذن الله، وإذا علا مني المرأة مني الرجل آنثا بإذن الله) قال اليهودي: لقد صدقت، وإنك لنبي، ثم انصرف فذهب.

        فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (لقد سألني هذا عن الذي سألني عنه، وما لي علم بشيء منه حتى أتاني الله به)(2).

 ب - حال عدم الإيحاء: وذلك بتركه - صلى الله عليه وسلم- وشأنه فيتصرف صوابا، فيقره الله - سبحانه وتعالى- على ذلك.

       وهذه الحال من مستلزمات سلامة الدين، فما كان الله - عز وجل- ليترك خطأ يصدر من رسوله المبلغ عنه، مما يترتب عليه وقوع الأمة فيه اتباعا، وإذا كانت الحكمة من إرسال الرسل ألا تكون للناس حجة (رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لئلا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)(3)، فإن ذلك يتم بعصمة المرسل من الوقوع في أي خطأ، وإلا نبهه كما في حديث أبي قتادة.

        روى مسلم عن أبي قتادة يحدث عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم- أنه قام فيهم فذكر لهم: (أن الجهاد في سبيل الله والإيمان بالله أفضل الأعمال) فقام رجل فقال: يارسول الله ! أرأيت إن قتلت في سبيل الله تكفر عني خطاياي؟ فقال له رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (نعم. إن قتلت في سبيل الله، وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر) ثم قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (كيف قلت؟) قال: أرأيت إن قتلت في سبيل الله أتكفر عني خطاياي؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم-: (نعم. وأنت صابر محتسب، مقبل غير مدبر، إلا الدين، فإن جبريل - عليه السلام-، قال لي ذلك)(4).

       ولقد كان معلوما لدى الصحابة أن إقرار الرسول - صلى الله عليه وسلم- إقرار من الله - سبحانه وتعالى-، وأنه لو حدث أمر يخالف الإسلام لجاء الوحي فأنكر عليهم ذلك، لقد كانوا يعرفون أن الوحي قريب وكثير، فلن يترك أمرا مخالفا يمر، فما أقره رسول الله - صلى الله عليه وسلم- دون وحي فإنما هو من الإسلام وإلا جاء الوحي.

      يشهد لذلك ما روي عن جابر من قوله: (كنا نعزل والقرآن ينزل - قال سفيان أحد رجال إسناد هذا الحديث - موضحا كلام جابر: لو كان شيئا ينهى عنه لنهانا عنه القرآن).(5)

       ويظهر لي من كلام جابر هذا: أن جابرًا استدل على شرعية العزل بتقرير الله - سبحانه وتعالى-، وعليه فجابر يرى أن الوحي لا يقتصر على مراقبة رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، وإنما يراقب الأمة كلها، فأيما فعل فعلوه مخالفا الإسلام نبه الوحي عليه، وأيما فعل فعلوه زمن الوحي وأقرهم عليه الوحي فهو من الإسلام.

 والذي يظهر لي أن هذا - إقرار الوحي الأمة - هو الذي يفيده حديث جابر الذي معنا وتفيده نصوص أخرى(6) ففي رواية  لحديث جابر: (كنا نعزل على عهد رسول الله - صلى الله عليه وسلم- والقرآن ينزل)، ففيه تصريح بنزول الوحي مع إضافته لعهده - صلى الله عليه وسلم- ، مما يشعر أنه يلحظ قضية إقرار الوحي الأمة على ما تفعل أو ينكر.

     وهذا هو الذي يفيده حديث ابن عمر: (كنا نتقي الكلام والانبساط إلى نسائنا هيبة أن ينزل فينا شيء على عهد النبي - صلى الله عليه وسلم-، فلما مات النبي - صلى الله عليه وسلم- تكلمنا وانبسطنا).(7)

      ومنه حديث عمر حينما سأل رسول الله - صلى الله عليه وسلم- ثلاث مرات فلم يجبه فقال - أي عمر - ثكلتك أمك يا عمر، ثم قال: وخشيت أن ينزل في قرآن.(8)

      ومنه حديث سلمة بن صخر البياضي إذ أتى زوجته في رمضان فقال لقومه امشوا معي إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فقالوا: لا والله لا نمشي معك، ما نأمن أن ينزل فيك القرآن، أو أن يكون فيك من رسول الله - صلى الله عليه وسلم- مقالة يلزمنا عارها.....الحديث.(9)

       ومن إنكار الوحي عليهم حديث زيد بن خالد الجهني قال: صلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم- صلاة الصبح بالحديبية في إثر سماء كانت بالليل، فلما انصرف أقبل على الناس فقال: (هل تدرون ماذا قال ربكم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: قال أصبح من عبادي مؤمن بي وكافر، فأما من قال مطرنا بفضل الله ورحمته فذلك مؤمن بي، كافر بالكواكب، وأما من قال مطرنا بنوء كذا وكذا فذلك كافر بي مؤمن بالكواكب).(10)

        وهكذا يتضح أن الوحي كان يراقب تصرفاته - صلى الله عليه وسلم- ويراقب الأمة أيضا، فأي خطأ ارتكبوه يظنونه صواباً نبههم القرآن عليه، وربما فعلوا الشيء فسألوه - صلى الله عليه وسلم-، وربما فعلوه ظانين صوابه فلم يسألوا، فجاء الوحي فنبه.(11)

       وبهذا يتضح أن السنة وحي: حالا أو مآلا، أي أنها وحي: ابتداءً، أو انتهاءً، (بالإقرار أو التصويب).

        وبذلك تصح تلك الأوامر المطلقة والنصوص العامة التي وردت في الكتاب والسنة، من مثل قوله تعالى: (وَمَا آتَاكُمْ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا)(12)، وقوله - صلى الله عليه وسلم-: (كل أمتي يدخلون الجنة إلا من أبى، قالوا يا رسول الله من يأبى؟ قال: من أطاعني دخل الجنة ومن عصاني فقد أبى)(13.

       الدالة الدلالة القطعية على وجوب تصديق خبره - صلى الله عليه وسلم-، وطاعة أوامره - صلى الله عليه وسلم- (وبعد وفاته) لا يحتمل أن يكون في أقواله وأخباره ما لم يقره الله تعالى، وبالتالي: فجميع ما لم يصوب من أقواله - صلى الله عليه وسلم- فكله وحي من الله تعالى، وما صوب فقد بلغ - صلى الله عليه وسلم- ذلك التصويب، وبقي هذا التصويب دليلا من أدلة نبوته - صلى الله عليه وسلم-، لأن مدعي النبوة كذبا لن يحرص على الدلالة على أنه قد وقع في الخطأ ! والأهم في ذلك: أنه بهذا التبليغ للتصويب قد تم البلاغ وحفظ الدين وعصمت السنة من أي سبب يدعو إلي التردد في الطاعة أو التصديق.

        وبذلك يتضح أنه لا فرق بين ما صدر عن النبي - صلى الله عليه وسلم- بوحي ابتداء وما صدر عنه - صلى الله عليه وسلم- باجتهاد في وجوب التصديق لخبره والطاعة لأمره، فكما كان الموحى به إليه ابتداء لا خلاف في وجوب ذلك فيه، فكذلك الاجتهاد منه - صلى الله عليه وسلم-، لأنه موحى به إليه انتهاء بالإقرار. فلا فرق بين سنة النبي - صلى الله عليه وسلم- فكلها وحي يوجب التصديق والطاعة، بدلالة عمومات النصوص السابقة في الكتاب والسنة، والتي لم تخصص سنة من سننه - صلى الله عليه وسلم-: لا سنة الوحي ابتداء ولا سنة الوحي انتهاء، ولا سنة الدين ولا سنة الدنيا، فالعمومات تشمل جميع السنة، ولم تخرج منها شيئا.(14)

        قال الشاطبي - رحمه الله - (كل ما أخبر به رسول الله - صلى الله عليه وسلم- من خبر فهو كما أخبر، وهو حق وصدق معتمد عليه فيما أخبر به وعنه، سواء انبنى عليه في التكليف حكم أم لا، كما أنه إذا شرع حكما، أو أقر، أو نهى، فهو كما قال - عليه الصلاة والسلام-، لا يفرق في ذلك بين ما أخبر به الملك عن الله، وبين ما نفث في روعه وألقي في نفسه، أو رآه رؤية كشف واطلاع على مغيب على وجه خارق للعادة، أو كيف ما كان فذلك معتبر يحتج به، ويبنى عليه في الاعتقادات والأعمال جميعا، لأنه - صلى الله عليه وسلم- مؤيد بالعصمة، وما ينطق عن الهوى)(15).

 


(1)     صحيح البخاري، كتاب الحج، باب يفعل في العمرة ما يفعل في الحج، رقم (1789)، وصحيح مسلم، كتاب الحج، باب ما يباح للمحرم بحج أو عمرة وما لا يباح، رقم (1180).

(2)     صحيح مسلم، كتاب الحيض، باب بيان صفة مني الرجل والمرأة وأن الولد مخلوق من مائيهما، رقم (716).

(3)     سورة النساء / 165.

(4)     صحيح مسلم، كتاب الإمارة، باب من قتل في سبيل الله كفرت خطاياه إلا الدين، رقم (4880).

(5)     أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب العزل (5207، 5209)، ومسلم، كتاب النكاح، باب حكم العزل (3559 - 3561).

(6)     استغرب ابن دقيق هذا، فقال: استدلال جابر بالتقرير من الله غريب (إحكام الأحكام 2 / 208).

(7)     أخرجه البخاري، كتاب النكاح، باب الوصية بالنساء (5187)، وابن ماجه، كتاب الجنائز، باب ذكر وفاته ودفنه - صلى الله عليه وسلم- (1632)، وأحمد(2 / 62) ,في رواية ابن ماجه وأحمد: مخافة أن ينزل فينا القرآن.

(8)     أخرجه البخاري، كتاب المغازي، باب غزوة الحديبية (4177).

(9)     أخرجه الدارمي، كتاب الطلاق، باب في الظهار (2278)،  وأخرجه البخاري، كتاب الأذان، باب يستقبل الإمام الناس إذا سلم (846)، ومسلم، كتاب الإيمان، باب كفر من قال مطرنا بالنوء (109).

(10)     انظر: السنة النبوية للدكتور عبد المهدي ص 32 - 35.

(11)     سورة الحشر / 7.

(12)     أخرجه البخاري، كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب الاقتداء برسول الله - صلى الله عليه وسلم-، رقم (7280).

(13)     انظر: إضاءات بحثية في علوم السنة النبوية ص 23، 24.

(14)     الموافقات (4 / 52) ط: محي الدين.

 

     

 

 



بحث عن بحث