النداء الإلهي للناس بأداء فريضة الحج

 والاستجابة لهذا النداء

إن النداء الإلهي للناس بالحج إلى بيته العتيق مَعْلَم بارز من معالم توحيده جل وعلا، وفق الصورة التي رسمها للمسلمين رسولُهم  صلى الله عليه وسلم  من حيث القول والعمل، فهو نداء الخالق لخلقه عن طريق نبيه وخليله إبراهيم عليه السلام، وهو النداء الأول لرفع شعائره جل شأنه في أشرف بقعة على أرضه، وهو بمثابة إعلان لإعلاء كلمة التوحيد والحق على كلمة الشرك والباطل، وتأسيس لقاعدة متينة تكون جامعة للأمة المسلمة ورابطة بين أبنائها، في مستقبلها، وطريق دعوتها الحافل بالمكاره والخطوب.

وكان هذا النداء الرباني بمثابة حبل عقدي يربط المسلمين أولهم وآخرهم بخالقهم جل وعلا، ومع أنه جاء في كتاب الله المنزل على نبينا محمد  صلى الله عليه وسلم ، إلا أنه امتداد للنداء نفسه الموجه إلى نبينا إبراهيم عليه السلام لبناء البيت والدعوة إلى الحج فقال جل شأنه: ﴿ وَإِذْ بَوَّأْنَا لِإِبْرَاهِيمَ مَكَانَ الْبَيْتِ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا وَطَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْقَائِمِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿26 وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ ﴿27 لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ ﴿28 ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ ﴿29 ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ حُرُمَاتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَأُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعَامُ إِلَّا مَا يُتْلَى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾.

يحتوي هذا النداء على كل معاني التوحيد، والطرق المؤدية إليه من خلال بناء البيت على أساس العبادة لله وحده وعدم الإشراك به وتطهيره للطائفين والقائمين، لاستقبال الجموع البشرية الهائلة من مشارق الأرض ومغاربها، ليروحوا عن أنفسهم أعباء الدنيا ومتاعبها، ويطهروا قلوبهم مما تعلقت بها من الذنوب والمعاصي، متوجهين إلى الكعبة التي شرفها الله للانطلاق إلى حياة جديدة قائمة على طاعة الله وطاعة رسوله  صلى الله عليه وسلم ، ثم إن هذا النداء الخالد يحتوي على ذكر ما ينفع الناس في دنياهم واتخاذ أسباب العيش والمنفعة بينهم، والحض على مد يد العون لإخوانهم الفقراء، وأهم من هذا كله تعظيم شعائر الله التي هي المقصد من وراء أداء نسك الحج وزيارة بيت الله الحرام، واجتناب الرجس من الأوثان الذي هو الشرك بالله والكفر به، وقد وصفها الحق تبارك وتعالى بالرجس لأنها تُلوث فكر الإنسان وتصوره عن خالقه، وتصف الله سبحانه وتعالى بما لا يليق به من وصف الملائكة بنات لله، تعالى الله عما يصفون، أو وجود نسب بينه جل وعلا وبين الجن، يقول جل ذكره: ﴿ كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ ﴿49 فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءَلُونَ ﴿50 قَالَ قَائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كَانَ لِي قَرِينٌ ﴿51 يَقُولُ أَئِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ ﴿52 أَئِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا وَعِظَامًا أَئِنَّا لَمَدِينُونَ ﴿53 قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ ﴿54 فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ ﴿55 قَالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ ﴿56 وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ ﴿57 أَفَمَا نَحْنُ بِمَيِّتِينَ ﴾.

هذا من جانب، أما من الجانب الآخر، فإن توحيد الله تعالى يظهر واضحًا من تهيئ الناس من أصقاع الأرض بمختلف أعراقهم وألوانهم ومستوياتهم للتوجه إلى أماكن محددة استجابة لنداء واحد من رب واحد، لأداء فريضة ثابتة عند جميع المسلمين، رغم تباينهم واختلافهم في أمور كثيرة، راجين القبول والرضى من الواحد الأحد، وقد تركوا الأهل والأحباب، وهاجروا الديار والبلاد، وتجردوا من الدنيا وزخرفها، قاصدين بيت الله الحرام لأداء نسك الحج، استجابة لأمر الله تعالى وتنفيذًا لوعده لإبراهيم عليه السلام، قائلين بأعلى صوتهم «لبيك اللهم لبيك لبيك، لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك لا شريك له»، ووجبت عليهم الاستجابة والتلبية لنداء الرحمن الرحيم الذي وعدهم – ووعده الحق – بالمغفرة الكاملة، يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «ما من يوم أفضل عند الله من يوم عرفة، ينزل الله إلى السماء الدنيا فيباهي بأهل الأرض أهل السماء، فيقول: انظروا إلى عبادي شعثًا غبرًا ضاحين جاؤوا من كل فج عميق يرجون رحمتي ولم يروا عذابي، فلم يُرَ يوم أكثر عتقًا من النار من يوم عرفة».

قالت عائشة ك: إن رسول الله  صلى الله عليه وسلم  قال: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة، فيقول: ما أراد هؤلاء».

وكيف لا يستجاب لنداء الله لزيارة بيته المحرم وأجر العبادات فيها مضاعف إلى مئة ألف مرة، وهي فرصة للمسلم يستغلها إن استطاع إلى ذلك سبيلًا، حيث لا تتوفر هذه الفرصة في مكان آخر من أرض الله، إلا في هذه البقاع المباركة، لا سيما في نسك الحج، يقول الرسول الأمين عليه الصلاة والسلام: «صلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام».

وقال الحسن البصري رحمه الله في فضائل مكة: «من صلى فيها صلاة رفعت له مائة ألف صلاة، ومن صام فيها يومًا كتب له صوم مائة ألف يوم».

ومن آيات الله البينات أن النداء المنزل على إبراهيم عليه السلام واقع محقق منذ ذلك الوقت إلى يوم القيامة، فتحققت الغاية منه في زيارة هذا البيت وأداء مناسك الحج، والشاهد على تحقيق هذا الوعد الرباني ما نشاهده في كل عام من ازدياد عدد الحجاج والمعتمرين إلى بيت الله الحرام، وافدين من كل فج عميق، وبشتى وسائل النقل البرية والبحرية والجوية، وفي هذا بيان واضح لتحقيق وعد الله تعالى لنبيه إبراهيم عليه السلام عندما أمره بالأذان فيه بالحج.

ثم تأمل أخي القارئ ختام هذه الآية التي بدأت بالتوحيد والنهي عن الشرك في هذا النداء: ﴿ أَنْ لَا تُشْرِكْ بِي شَيْئًا ﴾، فقد ختمت بالمعنى نفسه: ﴿ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثَانِ وَاجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ ﴾ فليربط المسلم بين أول حياته وآخرها، وأول أعماله وآخرها بتوحيد الله سبحانه، يبدأ حياته موحدًا ويعيش موحدًا ويموت موحدًا، ويظهر هذا التوحيد في سائر أعماله، ومن كان كذلك حكم له الرسول  صلى الله عليه وسلم  بالجنة بقوله: «فإن الله قد حرم على النار من قال لا إله إلا الله يبتغي بذلك وجه الله».



بحث عن بحث