التوحيد وحرمة الزمان والمكان

لقد فطر الله تعالى السموات والأرض ضمن نظام محكم وميزان دقق، يسير وفقه ولا يحيد عنه، ذلك تقدير العزيز الرحيم، ثم إن الكائنات التي تعيش على الأرض يؤثر فيها عنصران مهمان جدًّا في حياتها، هي عنصر الزمان وعنصر المكان، فأما الأول فهو ناتج عن حركة الشمس والقمر والأرض، ثم حركة سائر الكواكب الموجودة ضمن هذه المجرة، وأما الثاني فهو الحيز الذي يحتوي تلك الكائنات وتؤثر فيها، وتكون مسخرة بعضها لبعض، وجعل الله تعالى بين هذه الكواكب والكائنات الموجودة فيها تناسقًا عظيمًا وتنظيمًا مبدعًا، وأكبر آية تنتج عن ذلك الليل والنهار، والفصول الأربعة، وكل هذه الآيات المتناسقات العظيمات دالة على وحدانية هذا الخالق وتفرده بالكون.

ثم إن الله تعالى جعل العلاقة بين مخلوقاته أساسًا لكثير من العبادات والطاعات المفروضة على الناس، فعلى سبيل المثال: لولا الشمس والقمر لما تبين أوقات الصلاة الخمسة، وما عرف رمضان من غيره من الشهور، ولأصاب الناس حرجٌ في أمورهم كلها، سواء الدينية أو الدنيوية، وهذه نعمة من الله جل وعلا على عباده ليعلموا عدد السنين والحساب، يقول جل وعلا: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ ﴾.

ويقول الباري عز وجل: ﴿ وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلًا ﴾.

وقد خص الله تعالى بعض الأماكن في أرضه بخصائص وصفات، وفضلها الله على سائر الأمكنة، وكذلك فضل بعض الأزمنة دون الأخرى، والعلة مغيبة عنا، والحكمة عنده جل شأنه.

والحج عبادة من العبادات الكثيرة التي ترتبط بالزمان والمكان ارتباطًا وثيقًا، فهو داخل في أحب الأزمان إلى الله، وفي أحب البقاع إلى الله، لذلك جعل الله تعالى للحج حرمتين، حرمة الزمان وحرمة المكان، والهدف من ذلك ـ أولًا وآخرًا ـ هو استشعار الحاج عظمة ما يقوم به في هذه البقاع وفي هذه الفترة من الأعمال والأقوال، ضمن دائرة مقدسة وكريمة عند الباري عز وجل، ألا وهي دائرة الحرمة.

فأما بالنسبة لحرمة الزمان؛ فهي تلك الأيام المباركات التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز، وفضلها على سائر الأوقات والفترات، فقال جل ذكره: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ﴾.

ويقول الرسول عليه الصلاة والسلام: «الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم ثلاثة متواليات ـ ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ـ ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».

وأما بالنسبة لحرمة المكان، فهي تلك البقاع التي ذكرها الله تعالى في كتابه العزيز وبيّن أماكنَها وحدودها رسولُ الله  صلى الله عليه وسلم ، وهي معظم أراضي مكة المكرمة، وقد جعل الله تعالى لتلك البقاع حرمة وفضلًا على سائر الأمكنة، لعلة هو يعلمها ولا نعلمها، رغم أن الكون كله ملك لله يتصرف فيه كيف يشاء ومتى شاء، ولكنها تشير إلى رب العباد بأماكن لتجديد البيعة مع الله، وتصفية العقيدة من شوائب الشرك والكفر، وبالتالي تتطهر قلوبهم، فيتقربون من خلال هذه البقاع إلى الله تعالى لأداء فريضة الحج والعبادات الأخرى، وقد ذكرت حرمة بيت الله الحرام وحرمة الأماكن المقدسة الأخرى في القرآن الكريم كثيرًا، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هَذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ﴾.

ومعظم أركان الحج تكون في هذه الأماكن المحرمة عند الله تعالى، لا سيما بيت الله الحرام الذي يكون فيه الطواف والسعي، وهو المكان الأول والبقعة الأولى المباركة التي انطلق منها نداء الله تعالى لعباده بالمسارعة إلى أداء مناسك الحج، يقول الله تعالى: ﴿ إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكًا وَهُدًى لِلْعَالَمِينَ ﴿96 فِيهِ آيَاتٌ بَيِّنَاتٌ مَقَامُ إِبْرَاهِيمَ وَمَنْ دَخَلَهُ كَانَ آمِنًا وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعَالَمِينَ ﴾.

وقال تعالى: ﴿ جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرَامَ قِيَامًا لِلنَّاسِ وَالشَّهْرَ الْحَرَامَ وَالْهَدْيَ وَالْقَلَائِدَ ذَلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾.

ويقول جل ذكره: ﴿ وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَمًا آمِنًا يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقًا مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾.

ولعظمة هذه البقاع وحرمتها عند الله تعالى أقسم بها الله تعالى في كتابه المبين، وسماها البلد الأمين، فقال: ﴿ وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ ﴿1 وَطُورِ سِينِينَ ﴿2 وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ ﴿3 لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ    ﴾.

وكذلك ورد حرمة هذه البقاع في سنة المصطفى عليه الصلاة والسلام، حيث قال: «هذا البلد حرمه الله يوم خلق السماوات والأرض، فهو حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة».

إن ربط عبادة الحج بأزمان وأماكن محرمة ومشرفة عند الله تعالى إيحاء بتوحيد الخالق جل ذكره، ذلك أنه جل وعلا ـ الخالق للكون والمتصرف فيه ـ جعل ذلك الركن العظيم ـ الذي هو الحج ـ والحافل بالعبادات والطاعات وإجلال وإكبار لله تعالى، جعل ذلك كله مرتبطًا بالكواكب الأخرى كالشمس والقمر، وفي ذلك لفتة إلى أهمية ما حول الإنسان من المخلوقات، لاستمرار حياة هذا الإنسان الدينية والدنيوية.

وقد حرم الله تعالى في هذه الأزمان المباركة والأماكن المشرَّفة أفعالًا، سواء كانت محرمة من قبل أو كانت مباحة، فإن التحريم جاء بصيغة مشددة، والمعصية جاءت مغلظة، ومن هذه الأفعال:

1- حرمة القتال: بما أن الله تعالى أراد أن تكون أزمنته المخلوقة وأمكنته المخلوقة أيضًا أيامًا وأماكن محرمة، فإنه جل شأنه حرم فيها القتال وإن كان مباحًا في بقية الأزمان والأماكن، إلا لضرورة شديدة، حيث يقول الله تبارك وتعالى: ﴿ يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ ﴾.

ويقابل منع القتال في هذه الأماكن والأزمان، وجود الأمن والأمان، وذلك منذ أن دعا نبينا إبراهيم عليه السلام ربه بذلك، يقول تعالى: ﴿ وَإِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثَابَةً لِلنَّاسِ وَأَمْنًا وَاتَّخِذُوا مِنْ مَقَامِ إِبْرَاهِيمَ مُصَلًّى وَعَهِدْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ أَنْ طَهِّرَا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَالْعَاكِفِينَ وَالرُّكَّعِ السُّجُودِ ﴿125 وَإِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا بَلَدًا آمِنًا وَارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَرَاتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ قَالَ وَمَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلَى عَذَابِ النَّارِ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ ﴾.

ويقول الرسول  صلى الله عليه وسلم  عن حرمة القتال في حرم الله: «إن هذا البلد حرام حرمه الله عز وجل، لم يحل فيه القتال لأحد قبلي، وأحل لي ساعة من نهار، فهو حرام بحرمة الله عز وجل».

2- حرمة الصيد: لقد حرم الله على المحرم الصيد الذي هو مباح بالأصل، فقال: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ ﴾.

وقال: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَطَعَامُهُ مَتَاعًا لَكُمْ وَلِلسَّيَّارَةِ وَحُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ مَا دُمْتُمْ حُرُمًا وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ ﴾.

وفي هذا امتحان وابتلاء للمؤمن لصدق إيمانه وامتثاله لأمر الله وقوة صبره على حرمات الله، وبالمقابل فيه تربية للنفس وتزكية للروح، في الامتناع عن الشيء المباح في أوقات معينة وأماكن محددة، حيث تتقوى هذه النفس وتحتسب عند الله الأجر والنجاة، بخلاف ما فعله بنو إسرائيل عندما نهاهم ربهم عن الصيد في يوم السبت، فخانوا وفشلوا في اختبارهم، فجعل الله منهم القردة والخنازير.

وفي ذلك أيضًا إيحاء لانصياع الناس لأمر الله وحده في أخذ الأوامر واجتناب النواهي، بخلاف المشركين الذين كانوا يأخذون أوامرهم من آلهتهم وشياطينهم، فتحقق بذلك العبودية لله الواحد القهار.

3- حرمة الجدال والرفث والفسوق والجدال: وهوما بينه الله تعالى في كتابه في زمن الحج وإن كان الفسوق وبعض أنواع الجدال محرمًا في غير الحج، ولكن جاءت حرمتها هنا لحرمة الوقت وحرمة المكان وعظمة هذا النسك، فجعل الله تعالى قبول الحج متوقفًا على هذا الشرط ليكون مكتملًا كما يرضاه الله عز وجل، ذلك لأن الحجاج مزيج من الأجناس والأعراق والعادات، وفيه ازدحام واختلاط بين هذه الأجناس والأعراض القادمين من كل فج عميق، إضافة إلى تعب التنقلات والأسفار، وبعض الأمراض، فتشكل هذه العوامل أرضًا خصبة للنزاعات والصراعات، فجاء الأمر الإلهي لتحذير عباده الملبين لندائه، والقاصدين البقاع المحرمة، والراجين عفوه ومغفرته، أن يضع هؤلاء الناس في حسبانهم حرمة الزمان والمكان اللَّذين هم فيهما، وذلك بعدم الخوض في جدال      أو نزاع، أو التلفظ بكلام غير لائق، من أجل زرع روح الحب والوئام في نفوس الحجاج، فقال تعالى: ﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُومَاتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلَا رَفَثَ وَلَا فُسُوقَ وَلَا جِدَالَ فِي الْحَجِّ وَمَا تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ﴾.

وقال النبي  صلى الله عليه وسلم : «من حجّ هذا البيت فلم يرفث ولم يفسق رجع كيوم ولدته أمه».

أما المشركون فقد كانوا يحرمون بعض الأنعام، كالبحيرة والسائبة والوصيلة والحامي، ولم تكن من المحرمات قط، وإنما دخيلة من أبواب الشرك الواسعة التي كانت عندهم، فجاء الإسلام وأبدلها بأحكام نابعة من رب واحد ومصدر واحد.

وأخيرًا فإن الحكمة التي يحرم فيها الله تعالى لعباده بعض الأفعال في زمان ما، أو مكان ما، إنما هي تمحيص لهم واختبار، لكشف مدى علاقة العباد بربهم من حيث الامتثال لأوامره والانتهاء عن نواهيه، وهي علامة واضحة لتوحيد هذا الخالق الذي جعل كل هذه الأحكام تخرج بعضها من بعض، منذ أن خلق آدم عليه السلام إلى أن أرسل محمدًا  صلى الله عليه وسلم ، فهي كلها تخرج من مشكاة واحدة هي مشكاة التوحيد.

وبهذا كان الحج في هذا الزمان المعين والمكان المعين، بدلالاته التي ذكرت، كلها موصلة إلى التوحيد لإحيائه وتعميقه في النفوس.

فلله ما أعظم هذا التشريع الإلهي العظيم، رزقنا الله قوة الإيمان وصدق القول والعمل، إنه سميع قريب.



بحث عن بحث