توحيد الله بالأقوال في الحج

لا شك أن جميع الأذكار والأدعية والتلبية في الحج تدل دلالة صريحة أو ضمنية على توحيد الله في ذاته وربوبيته وعبادته وأسمائه وصفاته، وهي بشيء من التفصيل:

1- التلبية: وصيغتها «لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك لبيك، إن الحمد والنعمة لك والملك، لا شريك له»، فهذه الكلمات تحمل بين جوانبها إقرارًا تامًّا بالعبودية لله تعالى، وتوحيده سبحانه وتعالى وتنزيهه عن كل ما لا يليق بجلاله عز وجل، ويعني ذلك أن الحاج يقول لقد دعوتنا – يا الله – لأداء هذا النسك العظيم في أحب الأرض إليك، فها قد أتيناك طائعين ومستجيبين لدعوتك لنا، وممتثلين لأمرك، فأنت إلهنا وخالقنا وموجدنا، تستحق العبودية فعبدناك، وتستحق الطاعة فأطعناك، ولن نكون طائعين لأحد سواك، فلا نشرك بك أحدًا، فأنت الواحد الأحد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوًا أحد، وأنت الذي أنعمت علينا النعم التي لا تعد ولا تحصى، في البر والبحر والسماء، فضلك علينا كثير، ومنّك علينا أكثر، ومهما عملنا من عمل فإن ذلك لن يكون مقابل أقل نعمة أنعمت بها علينا، ثم أنت الذي بيده ملكوت السموات والأرض، لا أحد يستطيع أن ينافسك في ملكوتك، فأنت الخالق البارئ، وأنت الجبار المتكبر، لا إله إلا أنت، فإذا كان هذا شأنك يا ربنا فليس لنا إلا أن نكون لك شاكرين وذاكرين وحامدين في السراء والضراء، وفي المكره والمنشط، لترضى عنا وتدخلنا جنتك.

فالمشركون كانوا يقولون أثناء الطواف: لبيك لا شريك لك، إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، فعن ابن عباس م قال: كان المشركون يقولون: لبيك لا شريك لك، قال: فيقول رسول الله  صلى الله عليه وسلم : «ويلكم! قَدْ، قَدْ» فيقولون: إلا شريكًا هو لك، تملكه وما ملك، يقولون هذا وهم يطوفون بالبيت.

والمسلم وهو يلبي التلبية يشعر بمخالفة المشركين في تأليههم لمعبوداتهم وتقديسهم لها، وهذا الشعور يمنحه قوة العبودية لله وحده لا شريك له في جميع أقواله وأفعاله وتوجهاته.

2- قول: «الله أكبر» عند القيام بالطواف أو السعي أو الرمي، إشارة أن لا إله سواه يعبد، ولا أحد أكبر من الله تعالى، فهو الكبير المتعالي، أكبر من الدنيا وأهلها وزخارفها وأموالها، ولا يذكر اسم أحد غيره في الأمور كلها، صغيرها وكبيرها، بخلاف ما كان يفعله المشركون في الجاهلية من ذكرٍ لآلهتهم المصنوعة من الأحجار والأشجار، لا سيما كبار الآلهة عندهم مثل هبل واللاة  والعزى وغيرها، فجاء الإسلام ليزيل هذه المعالم الشركية أثناء الحج بذكره وحده جل وعلا، وتكبيره وإجلاله، دلالة على أن الكبرياء والعظمة لله وحده، وأن الصَّغار والخزي للمشركين وآلهتهم.

وفي ذلك دلالة أيضًا على أن اسم الله يجب أن يذكر في جميع أعمال الإنسان، في الحج وغيره، عند الأكل وعند الشرب، وعند النوم وعند الاستيقاظ، وعند الدخول إلى أي مكان وعند الخروج منه، وفي سائر حركات الإنسان وسلوكه، حتى تدخل في الأعمال الرحمة والبركة، وحتى يُحفظ الإنسان من شرور شياطين الجن والإنس، ويكون الله تعالى بذلك حسبه، من أجل ذلك حرص الرسول الكريم عليه الصلاة والسلام على ذكر اسم الله عند القيام بأي عمل، حيث قال: «كل كلام أو أمر ذي بال لا يفتح بذكر الله عز وجل فهو أبتر - أو قال - أقطع».

وفي وصيته  صلى الله عليه وسلم  لعمر بن أبي سلمة رضي الله عنه، وكان غلامًا في حجر النبي عليه الصلاة والسلام: «يا غلام، سم الله، وكل بيمينك، وكل مما يليك».

وقوله تعالى: ﴿ وَلَا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَإِنَّهُ لَفِسْقٌ ، وقول النبي  صلى الله عليه وسلم : «ما أنهر الدم وذكر اسم الله عليه فكلوه»، وكذا غيرها من الأعمال.

3- دعاء يوم عرفة والاستغفار فيه: حيث يحمل كل معاني التوحيد لله سبحانه وتعالى، لقول الرسول الكريم  صلى الله عليه وسلم : «خير الدعاء دعاء يوم عرفة، وخير ما قلت أنا والنبيون من قبلي لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد وهو على كل شيء قدير».

فهذا الدعاء هو ما بُعث الأنبياء والمرسلون لتبليغه، من نوح عليه السلام إلى محمد  صلى الله عليه وسلم ، ففيه إعلان صريح للعبودية الحقة لله تعالى دون سواه، والحاج وهو يقول بأفضل ذكر في أفضل يوم لَيُعلِنُ أداءه لأفضل عمل، وهو توحيده لله سبحانه وتعالى، فما أعظمه من موقف يتجلى فيه التوحيد الخالص والعبودية الخالصة، والذل الخالص لله سبحانه وتعالى.

وفي هذا اليوم الذي يجتمع فيه الناس على صعيد واحد هو اليوم الذي ينزل فيه الله تعالى إلى السماء الدنيا، فيكون يوم الرحمة والغفران، ويوم المباهاة بخلقه على أهل السماء من الملائكة، يقول المصطفى عليه الصلاة والسلام: «ما من يوم أكثر من أن يعتق الله فيه عبدًا من النار من يوم عرفة، وإنه ليدنو ثم يباهي بهم الملائكة».

فإذا اجتمع فضل هذا اليوم مع فضل أعظم ذكر لله سبحانه وتعالى تجلت رحمة الله تعالى لعباده ومغفرته لهم، فهنيئًا لأهل الموقف استشعارهم هذا الفضل العظيم مع ذلك الذكر العظيم في هذا الموقع العظيم، ليعلنوا انطلاقة جديدة في مستقبل حياتهم كلها، معلنين توحيدهم لخالقهم واستجابتهم له في الأمور كلها.

4- ذكر الله تعالى وتوحيده أثناء الانتقال من بين المشاعر: لقول الله عز وجل: ﴿ فَإِذَا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ وَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ ﴾.

وكلمة الذكر هنا عامة تشمل كل أنواع الذكر، من التسبيح والتهليل والتكبير والاستغفار وقراءة القرآن والدعاء وغيرها، وفيه إشارة إلى ما كان عليه أهل الجاهلية من ضلال وظلام، حيث كان في كلامهم افتخار بالأنساب والأولاد والأموال، وليس لله فيها نصيب، وإنما كان ذكرًا للآلهة والأصنام، فضلًا عن الفروقات والتمايز الذي كان يحدث أثناء التنقل بين المشاعر، فزعماء قريش لم يكونوا يتنقلون مع سائر البشر عند الإفاضة من عرفات، وإنما كانوا يسلكون طريقًا آخر، وكذا وقوفهم بمزدلفة كان خاصًا بعيدًا عن بقية الناس، وفي ذلك استكبار وطغيان على عباد الله، فجاءت الآيات القرآنية لتزهق هذا الباطل وهذا التميز من صدور عباده، وأرشدتهم إلى الصواب، وهي إعلان تلك الحقيقة أن الخلق كلهم عيال الله، وكلهم خلقوا من آدم وآدم من تراب، فلا أنساب ولا جاه ولا لون ولا سلطان ولا تفاخر إلا بالتقوى والعمل الصالح، فقال الله تعالى: ﴿ فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ ﴾.

فما أعظم هذا الدين بمخالفته للجاهلية المشركة، لتتوحد الأمة المسلمة في هذا الموقف، باجتماعهم على التوحيد ونبذ الشرك وأهله.

5- الذكر في أيام التشريق: وأيام التشريق هي الأيام الثلاثة التي تلي يوم النحر، وبالرغم من عدم جواز الصيام في هذه الأيام ـ بالإضافة إلى يوم العيد ـ إلا أنها أيام ذكر وتهليل وتحميد، لقول النبي  صلى الله عليه وسلم : «أيام التشريق أيام أكل وشرب وذكر لله عز وجل».

وروي عنه  صلى الله عليه وسلم  أنه كان يكبر من صلاة الفجر يوم عرفة، إلى العصر من آخر أيام التشريق، فيقول: «الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، والله أكبر ولله الحمد».

والحاج وهو يردد هذه الأذكار العظيمة يعمق توحيده لخالقه ومولاه ويجدده، لينطلق بعده موحدًا مهللًا مكبرًا في جميع أموره.



بحث عن بحث