خامسًا: مقومات الدعوة:

للدعوة إلى الله تعالى مقوّمات كثيرة تجعلها تحقق أهدافها المنشودة، ومن أهم هذه المقوّمات:

1 – العلم:

ويقصد به العلم الشرعي، وهو العلم بكتاب الله تعالى وسنة نبيه  صلى الله عليه وسلم ، وهذا يعني العلم بتوحيد الله في ربوبيته وألوهيته في أسمائه وصفاته، والعلم بأحكام الحلال والحرام، والعلم بالواجبات والفروض وغيرها.

وتتضح أهمية العلم الشرعي في أن أول سورة نزلت من القرآن الكريم تأمر بالتعلم والقراءة والكتابة، قال الله تعالى: ﴿ اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ ﴿1 خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ ﴿2 اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ﴿3 الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ ﴿4 عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ ﴾ [العلق: 1-5].

وتوفر العلم الشرعي مطلب ضروري ومقوّم رئيس من أجل العمل في الميدان الدعوي، لأنه يرشد إلى الدين الصحيح في العقيدة والعبادة والأخلاق وسائر الأعمال الصالحة، والجهل بالدين يؤدي إلى ظهور الانحرافات والتناقضات في العقيدة والعبادات، لذا أثنى الله تعالى على أهل العلم بقوله: ﴿ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ﴾ [الزمر:9]، وقال جل ثناؤه: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ﴾ [فاطر : 28].

2 – الإخلاص:

كما إن إخلاص النية لله تعالى من أهم المقوّمات للقيام بالدعوة إلى الله تعالى وتحافظ على مسارها في الاتجاه الصحيح، يقول جل ثناؤه: ﴿ وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاء﴾ [البينة: 5]، والله تعالى يبارك في كل جهد يبذل من أجله، فيتكفل بحفظه وفلاح القائمين عليه، لذلك أمر الله عباده بإخلاص العمل له وحده بغض النظر عن النتائج التي تؤول إليه، يقول تبارك وتعالى: ﴿ يَا قَوْم لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [هود : 51].

أما الذي يعمل لغير الله، للشهرة أو المال أو المناصب وغيرها من المقاصد الدنيوية، فإن الله يجازيه حسب نيته وغايته، فيحرم من الأجر والثواب في الآخرة، يقول عليه الصلاة والسلام: «إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى».

فليحذر الدعاة والمصلحون وأهل العلم من انحراف النية والقصد، والذي يحدد نجاح الدعوة أو فشلها، لأن الدعوة من العبادات التي يتقرب بها العبد إلى الله، فلا بد أن يخلص النية لله جلّ ثناؤه.

3 – وضوح الرؤية والهدف:

ومن مقوّمات نجاح الدعوة إلى الله تعالى وضوح الرؤية لدى الداعية وتحديد الهدف المتمثل في إيصال الإسلام إلى الناس، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، اقتداء بالأنبياء والرسل عليهم الصلاة والسلام، الذين كانوا يبينون الهدف من دعوتهم، يقول الله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اُعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَمِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلَالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ ﴾ [النحل: 36]. فالهدف واضح ومبين وهو عبادة الله وحده وترك عبادة ما سواه من الأصنام والأوثان وجميع أشكال الآلهة الأخرى.

وقد أوضح النبي  صلى الله عليه وسلم  هذه الرؤية في دعوته التي دامت ثلاثة وعشرين عامًا، فعن ابن عباس م قال: لـمّا نزلت هذه الآية ﴿ وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ ﴾ [الشعراء: 214]، خرج رسول الله  صلى الله عليه وسلم  حتى صعد الصفا، فهتف: يا صباحاه! فقالوا: من هذا الذي يهتف؟ قالوا: محمد، فاجتمعوا إليه. فقال: «يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني فلان، يا بني عبد مناف، يا بني عبدالمطلب، فاجتمعوا إليه». فقال: «أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلًا تخرج بسفح هذا الجبل أكنتم مصدّقي؟» قالوا: ما جرّبنا عليك كذبًا. قال: «فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد». قال: فقال أبو لهب: تبًّا لك أما جمعتنا إلا لهذا، ثم قام. فنزلت هذه السورة: ﴿ تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ ﴾ [المسد: 1].

وهكذا كانت دعوته عليه الصلاة والسلام واضحة للجميع، من غير غموض أو أسرار أو إخفاء للحقائق، كما هي حال سائر العقائد والمذاهب والأديان. وقد تجلى ذلك أيضًا حين كان يعرض عليه الصلاة والسلام الدعوة على الوفود القادمة إلى مكة أو حين يراسل الملوك والقياصرة حيث يقول عليه الصلاة والسلام في إحدى رسائله إلى هرقل: «بسم الله الرحمن الرحيم من محمد رسول الله إلى هرقل عظيم الروم، سلام على من اتبع الهدى، أما بعد: فإني أدعوك بدعاية الإسلام، أسلم تسلم، وأسلم يؤتك الله أجرك مرتين، فإن توليت فإن عليك إثم الأريسيين، ويا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم أن لا نعبد إلا الله إلى قوله اشهدوا بأنا مسلمون».

4 – سلامة الوسيلة من الانحراف:

ومن المقوّمات التي تحافظ على سلامة الدعوة ونجاحها أن تكون الوسائل والآليات المستخدمة مشروعة، فلا تبلّغ دعوة الله بالغناء والعزف على الموسيقى والكذب والزور والغيبة والنميمة وغيرها من المعاصي، كما لا تبلغ دعوة الله بمال حرام من السرقة أو الرشوة أو الغش أو غيرها من المحرمات المالية، وقد وضع أهل العلم لذلك قاعدة فقهية مفادها: أن الغاية لا تبرر الوسيلة، كما ستأتي إن شاء الله تعالى.

5 – البدء بالأهم فالمهم:

إن فقه الأولويات من الأركان المهمة التي تقوم عليه الدعوة إلى الله، وهو القيام بالأهم من الأعمال ثم المهم، فلا تقدم الأمور المهمة على الأهم منها، وكان عليه الصلاة والسلام يأخذ بهذا المنهج، ورسمه لمعاذ رضي الله عنه  ذلك حين أوصاه أن يبدأ بتعليم القوم الذي بعثه إليهم بأمور العقيدة وتوحيد الله تعالى، التي تعدّ من أولويات هذا الدين بل في مقدمتها، ثم وصّاه عليه الصلاة والسلام بالانتقال من هذا الأهم إلى المهم المتمثل في العبادات والفروض، حيث قال النبي  صلى الله عليه وسلم  في هذه الوصية: «إنك تأتي قومًا من أهل الكتاب، فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله،فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم خمس صلوات في كل يوم وليلة، فإن هم أطاعوا لذلك فأعلمهم أن الله افترض عليهم صدقة تؤخذ من أغنيائهم فترد في فقرائهم، فإن هم أطاعوا لذلك فإيّاك وكرائم أموالهم، واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب».

6 – التخطيط السليم في الدعوة:

إن العمل في الدعوة يحتاج مثل أي عمل آخر إلى التخطيط السليم قبل القيام بأي خطوات عملية، وهذا كان شأن النبي  صلى الله عليه وسلم  في سيرته القولية والعملية، فقد اختار في واقعة الهجرة أبا بكر رضي الله عنه  ليكون صاحبًا له في الطريق، وهاجر سرًّا وأخذ طريق البحر، واختفى فترة في غار ثور، وكان يتحرى أخبار قريش، إلا أن وصل إلى المدينة بسلامة دينه وحياته، وقد فكّر عليه الصلاة والسلام وخطط لهذه الهجرة من قبل، ولم تكن أمرًا عفويًا حدث فجأة من غير تخطيط أو تفكير.

7 – المحاسبة والتقويم:

وتعني أن تكون هناك مراقبة دائمة للعمل الدعوي من جوانبه المختلفة، في الأشخاص والأدوات والوسائل وفي طبيعة العمل وكيفيته، واستدراك نقاط الضعف والتقصير فيه بإصلاحها وتقديم الأفضل منها، كما يدخل في المحاسبة والتقويم القيام بمراجعات بين الفترة والأخرى للماضي الدعوي والاستفادة من الأخطاء السابقة للحدّ منها ومن آثارها في المستقبل.



بحث عن بحث