الداعية بين الواقع المعاش والمستقبل المأمول:

من ينظر في واقع الأمة يرى أنها تمر بأمراض وآفات دينية وخلقية وعملية، شكى منها الدعاة والمربون والمصلحون، ولا يزالون يشكون.

فقد ابتعد بعض الناس عن الدين فصاروا فيه بين الغالي فيه والجافي عنه، كما قال الإمام الحسن البصري، أو بين «جامد وجاحد» كما قال أمير البيان شكيب أرسلان، ذلك يصد الناس عن الإسلام بجموده، والآخر يفتنهم بجحوده.

وضعف التوحيد بين خرافات العرّافين، وأباطيل الدجالين، بين شرك العوام الذين يكادون يعبدون قبور الأموات، وشرك الخواص الذين يكادون يعبدون الدنيا، وضعف الجانب الرباني في الحياة الإسلامية، حين وجدنا في المسلمين من يضيع الصلوات، ويتبع الشهوات.

وضعف العقل الإسلامي، فلم يعد يفكر ويبتكر، ويضيف الجديد إلى الحضارة، ويعدل القديم منها بل غدا عالة على غيره، وافتتن كثير من المثقفين والمتعلمين بما عند الآخرين من غير المسلمين وضعف الخلق الإسلامي الأصيل، بغياب «شعب الإيمان» التي بين لنا الرسول الكريم أنها «بضع وسبعون شعبة، أعلاها: لا إله إلا الله، وأدناها: إماطة الأذى عن الطريق. والحياء شعبة من الإيمان»، وشاع في أخلاق كثير من المسلمين النفاق العملي، فوجدنا من «إذا حدث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان، وإذا عاهد غدر، وإذا خاصم فجر».

وانتشر الترف المدمر في طبقة عاطلة يسر لها كل شيء، والبؤس القاتل في طبقات كادحة تتعب وتلهث، ولا تكاد تجد شيئًا...وكثرة الظلم في مجتمعات المسلمين، وظلم الأغنياء الفقراء، وظلم الأقوياء الضعفاء، وظلم أرباب العمل العمال، وظلم الرجال النساء، والظلم لا تنهض به أمة ولا يبنى به مجتمع. نعم ليس هذا في كل بقعة من بقاع العالم الإسلامي لكنه واقع بالمجموع، وهذا الواقع المؤلم لم يكن ليهزم إرادة الداعية المخلص ولا ليضعف من عزيمته، لأن الداعية يتطلع دائمًا إلى المستقبل، ومهما يضغط عليه الواقع بهمومه الآنية، ومشكلاته اليومية، وجراحه المستمرة في النزيف فإنه يرنو إلى الغد، ويستشرف للمستقبل، ويعد له العدة، ويأخذ له الحيطة، محاولًا أن يسد ما يتوقع من ثغرات، وأن يعالج ما يطرأ من آفات، وأن يغرس نواة اليوم لتصبح نخلة أو شجرة زيتون بعد سنوات.

ونبينا عليه الصلاة والسلام كان يسلك هذا المسلك، ففي الحديبية اشتد الأمر على الصحابة – رضوان الله تعالى عليهم – فلما رأو سهيل بن عمرو قادمًا قال لهم صلى الله عليه وسلم: «قد سهل لكم من أمركم».

وفي الخندق لما زاغت أبصار الأصحاب من شدة الكرب، وبلغت قلوبهم الحناجر، وزلزلوا زلزالًا شديدًا كما وصفهم العليم الخبير في القرآن الكريم في تلك الحال والعدو من فوقهم ومن أسفل منهم يضرب النبي صلى الله عليه وسلم الصخرة الصلدة التي كسرت حديدهم واستعصت عليهم، ويكبر تكبير فتح ثم يبشرهم بالظهور على كل القوى العالمية في ذلك الوقت.

بل لم يكن النبي صلى الله عليه وسلم يستعمل هذا الأسلوب مع أصحابه عند اشتداد الكروب فحسب، بل حتى مع من يريد استمالة قلوبهم للإسلام، ومن يريد أن يكف شرهم، فقد جاءه عدي بن حاتم، فلما رأى ما بأصحابه من خصاصة، ورأى فيهم الضعفة ومن لا قوة لهم وقد رمتهم العرب، رغب عن الإسلام، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: «فقال: يا عدي، هل رأيت الحيرة؟ قلت: لم أرها، وقد أنبئت عنها. قال: فإن طالت بك حياة لترين الظعينة ترتحل من الحيرة حتى تطوف بالكعبة لا تخاف أحدًا إلا الله..ولئن طالت بك حياة لترين الرجل يخرج بملء كفه من ذهب أو فضة يطلب من يقبله منه فلا يجد أحدا يقبله منه».

فثبت ذلك قلبه، فأعلن عدي رضي الله عنه إسلامه.

كذلك لما خرج النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه رضي الله عنه مهاجرين إلى المدينة واجتهدت قريش في طلبهما ورصدت مئة من الإبل لمن يدل عليهما، خرج سراقة بن مالك في طلبهما، فلما أدركهما دعا عليه النبي صلى الله عليه وسلم فساخت قوائم جواده ثم قال: «كيف بك إذا لبست سواري كسرى؟».

إنما بأمتنا من الكرب ليس بأشد مما لقيه الصحابة – رضوان الله عليهم -  في الخندق، ولئن حرص العدو على إضعافها والقضاء عليها فليس هو اليوم بأشد حرصًا من المشركين على إطفاء نور الله، ولئن اجتهد العدو في التنكيل بها فليس ذلك ببدع من مشركي هذا الزمن فقد اشتد من قبل أذى المشركين لنبي الله تعالى وصحبه الكرام، ولئن طورد بعض الدعاة والمصلحين في بعض بلاد الله وضُيق عليهم فقد طورد نبيهم صلى الله عليه وسلم وصحبه – رضوان الله عليهم -  من قبل وهُجِّروا، بل وحوربوا بعد أن أخرجوا من أرضهم، وذلك هو سبيل أئمة السنة في كل عصور الاستبداد.

وفي ذلك يقول الإمام ابن القيم من قد عايش تجربة أسلافه من أهل الحق بعد أن ذكر شيئًا مما جرى للإمام أحمد: (فلا إله إلا الله ما أشبه الليلة بالبارحة! وتلك هي السبيل لأهل السنة والجماعة حتى يلقوا ربهم، مضى عليها سلفهم، وينتظرها خلفهم)، âمِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا á [الأحزاب: 23].

ولله در من قال:

وراء مضيق الخوف متسع الأمن فلا تيأسن فالله ملك يوسفـا

  وأول مفروح به آخر الحـزن
خزائنه بعد الخلاص من السجن

إن استشراف الأمل والتفاؤل يحفز الداعية للعمل، ويورثه طمأنينة النفس وراحة القلب، والمتفائل لا يبني من المصيبة سجنًا يحبس فيه نفسه، لكنه يتطلع للفرج الذي يعقب كل ضيق، ولليسر الذي يتبعه كل عسر.

وقد كان نبينا صلى الله عليه وسلم إمامًا في التفاؤل والثقة بوعد الله تعالى، تقول أمنا عائشة ك للنبي صلى الله عليه وسلم: «هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟» فقال: «لقد لقيت من قومك وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة إذ عرضت نفسي على ابن عبد ياليل بن عبد كلال، فلم يجبني إلى ما أردت فانطلقت وأنا مهموم على وجهي، فلم أستفق إلا بقرن الثعالب فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني فنظرت فإذا فيها جبريل فناداني فقال إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم قال فناداني ملك الجبال وسلم علي ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك وأنا ملك الجبال وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك فما شئت إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده لا يشرك به شيئا».

إن سم التشاؤم الذي يحاول المنافقون دسّه للمنتمين لهذا الدين له ترياق جدير بإبطاله، ألا وهو تقوية اليقين بمعية الله تعالى للمؤمنين، ووعده بتمكين هذا الدين ونصره للمسلمين، والله لا يخلف الميعاد.



بحث عن بحث